مهرجان الرقص الدولي المعاصر في بيروت بيّضها العرب لكن العراقيين حفروا بصماتهم عميقاً

المقاله تحت باب  في الموسيقى والغناء
في 
14/05/2009 06:00 AM
GMT



مهرجان الرقص الدولي المعاصر في بيروت قدم عروض لفرق عربية يقيم أفرادها في أوروبا أو الدول العربية. في اليوم الأول، أربعة عروض لأربع فرق رقص عربية، تنقلت بين مسارح "مونو" و"المدينة" و"بابل".
العرض الأول Betwin Barcelona Beirut قدّمه مصمما الرقص، اللبناني غي نادر الذي درس في معهد الفنون الجميلة في بيروت والمعهد الدولي للفن الإيمائي في برشلونة، والاسبانية ماريا كامبوس التي درست في معهد الفنون بآمستردام، على خشبة "مسرح مونو". شهدنا فيه صناعة سينوغرافيا غنية بالعناصر (باب في يمين المسرح، شاشة "عملاقة" في الوسط حتى لتبدو أبعاد الجسد بالغة الضعف والصغر مفتقرة الى أي استقلالية ممكنة. وسنشاهد فوقها رسوما بالرمل يحدثها أحد الراقصين على المسرح. إضافة إلى حواجز متحركة كتلك التي تستخدمها شرطة السير عادة أو عمال الحفريات للاستدلال على أن هناك تغييرا طارئا في اتجاه السير). كان واضحا أن العرض يحمل موضوعا ذا علاقة بالعنوان "بين برشلونة وبيروت"، والهجرة والارتحال القسري بين المدن، والتنقل المرفق بالأرق الذي يثقل المسافر - المغادر. الجسد هو الشبح الذي يتوارى خلف الألم أو التجاذب بين كتلة المسافة والنفس. فالعلاقة بين الجسد والمكان تتخذ أولا شكلا غير واضح، ولا يحصد الجسد من المعادلة إلا التعب الفيزيولوجي، وهو المطرح البيولوجي الذي على أساسه تتحدد وظيفة الجسد (الكل) بوظيفة أعضائه (الجزء). غير أن غي وكامبو يطرحان هذه المعادلة جانبا، أو يؤجلانها لتستحيل العلاقة بين الجسم والترحال، علاقة الكون الداخلي للنفس، بالكون الخارجي للمكان (والكون الخارجي يتضمن كل ما تصنعه الذاكرة والنوستالجيا حول هذا المكان، ويحتمل رد فعل التكوين الجسماني- النفسي تجاه المدن). فالنفس تصطدم بالحدود الجغرافيا والبيسكولوجية والإرادة المضادة. لكنها لن تستطيع تفسير الواقع المحيط بها أو العلاقة إلا من خلال الجسد. لذلك يُطرح الإيقاع البطيء جانبا لتحضر الحركة، التي تطفو على جسدي الراقصين كلغة تعبيرية تتآلف مع قصدية العمل أو موضوعه. غير أن العرض وإن شهد توثيقا قويا بين الحركة (كمنهج إشارات فقط) والحبكة، أخفق في الكثير من الأوقات في المحافظة على الوحدة بين الموضوع - الحبكة وقوة اللغة المرجوة، أي الحركة. بدت الحركة غير واثقة أكثر من مرة، بل وانزلقت إلى ما يقارب التمثيل المسرحي أكثر من الرقص. إلا أن التقنية التي حكمت تبدل السينوغرافيا، أو تبادل الأدوار بين الشاب والفتاة اللذين يتناوبان وظيفة الوقوف قبالة الشاشة الضخمة، التي تظهر تشكيلات بالرمل يرسمها الطرف الآخر، فيما يصارعها الأول وكأن ثمة يداً تفتح الأفق وتغلقه أو تحكي الصعوبات التي تعتري المرء في موازاة فكرة اللجوء والرحيل أو الهجرة غير المشروطة بالرغبة الشخصية فقط، في الذهاب والإياب، اللذين يتكثفان بالرقص الصامت، خلال لحظات عديدة.
العرض الثاني item في "مسرح المدينة" كان صولو أدّته الراقصة ميا حبيس التي درست الباليه في سن مبكرة، وشاركت في العديد من ورش العمل بين الرقص الكلاسيكي والأفريقي، الشرقي والبوتو. استطاعت ببراعتها في الرقص احتلال المنصة كاملة، من دون أن يصنع ذلك شرطا من شروط تماسك الحبكة التي بدت متوارية او ضعيفة، والأداء القوي. فالأداء المحلّق غيّب بشكل يكاد يكون ظالما، الموضوع أو فكرة العرض. كأن الأداء تفوّق على الموضوع، والحبكة كأنها تلهث خلفه. أحسسنا بمعوقات خفية تحول بيننا وبين موضوع العمل. على رغم أن السينوغرافيا أعدّت بجدية وتوازن من الناحية التقنية، إلا أنها لم تكن موظفة لخدمة الفكرة أولا، أو الحبكة، أكثر منها توظيفا لخدمة الأداء الراقص والمرن الرشيق. فالرقص الحاضر والملون بأوجه عديدة، لم يستطع فرض نفسه كجزء من عمل ممسرح أو مخطط له. ليبدو كأنه رقص وحيد، فقير بلا مرافق له. ذلك لم يعن أننا فقدنا إتصالنا الكامل مع العمل، لأن الرشاقة المتطرفة أودت بالعمل الراقص إلى مكان أشعرنا بالرغبة إلى متابعة العرض حتى النهاية. المتعة الوحيدة كانت في مشاهدة الراقصة تتنقل من الجسد غير المضبوط إلى الجسد الموزون والواثق. هذه الأنماط عبرت إلى حد ما عن الأوجه العديدة من أنوثة الفتاة (لافتات مربوطة بالحبال، كُتِبَ عليها نسب بالأرقام، تنزل من سقف المسرح بشكل تدريجي ومتناقص 100%، 70%، ..، 0% وتشكل إيهاما بالإخفاق او الفشل في مقابل قصدية النجاح في تحقيق الذات بوسائل تعبيرية مادية مختلفة).
العرض الثالث voyage of dust تمايز بإصراره المسبق على إبهار الحضور، وذلك بفعل راقص الصولو أحمد خميس ذي الأصول الجزائرية والقادم من تونس والذي درس مبادئ الرقص المعاصر من خلال انتسابه إلى فرقة سهام بيلخوديا، وتابع دراسته في فرنسا. إستطاع العرض (مسرح المدينة) تقديم العلاقة التي تحكم الجسد بالنوازع الداخلية وتضادات الذاكرة، وتشققات النفس وصعودها ومن ثم أفولها إلى درجات الإنهزامية أو السكون التام والإنكسار، الذي يحفز في اتجاه محاولات الجسد الانتقال بالنفس المتشظية إلى التألق او إحتلال مناخ الحياة. على المسرح الفارغ، تمكن خميس من الإبهار بقدرته العالية على التعبير الراقص، وبالحركة المضبوطة التي يعرف تماما مفاتيح توظيفها كلغة مؤلفة لتتوجه إلى جمهور صامت يراقب بتمعن شديد. في وسط المسرح بقعة ضوئية يتقطع ظهورها وانطفاؤها، فيروح الراقص الشاب يجاريها ويستغلها لتأجيج حضور زمنه الخاص الذي يتلاعب بالجسد في ما بعد. قوة العرض الخميسي لم تكن معزولة أو بعيدة عن قوة التحكم بمؤثرات الضوء والموسيقى التي شدت من روابط العمل - الحبكة وتقنية الرقص. استطاع الراقص أن يرسم ملامح لأفق العرض منذ البداية. حضرت موسيقى ضافر يوسف، لتمسك بطرفي ثنائية اللغة الجسدية والفكرة. فالسيطرة على الجسد لا تخضع للنبض الخارجي أو الأوامر العصبية، بل تذهب المعادلة إلى العالم البسيكولوجي، الذي يتكثف شيئا فشيئا من خلال العرض، ليحتل الخشبة بأناقة وثقة عاليتين. وهي بذلك سيطرة تكمن مفاتيحها في هدم نظام الإرتباط الإنساني بالحسي، أو العضوي (يصبح ارتباطا ثانويا خلال العرض) لأن ما يتفاقم في الجسد، هو الألم أو القلق. فالجسد يصاب بدرجات من الهذيان أو الهدوء أو الجنون أو الدينامية العالية، والارتعاش الذي يؤلف فواصل كأنه يحاول التفلت مما يضمره، أو يحمله أحيانا. هي محاولة تطهر الذات، وتذليل الزمن. قرأنا بسهولة أن خميس يحفظ المسرح ظهرا عن قلب، ويمتلكه بقدرته العالية على التحكم بالحركات الكوريوغرافية، وبسيطرته على طاقة الحركة الواحدة بما يضمن له إيصال رسائله التعبيرية. صعوبة العمل كانت في قدرته على شدّنا نحوه لحظة بلحظة، وفي الوقت الذي كان يصارع للدخول والخروج من النفس واليها، كنا مأخوذين بالعرض إلى درجة هائلة.
أما العرض الرابع العراقيcrying of my mother ، فقدّم نموذجا شديد الإختلاف والجدية عن قدرات الجسد بالإيحاء والسيطرة على الألم الداخلي بكثير من النضج، قبل إطلاقه إلى الجمهور. لم يكن أمام فرقة "أجساد عراقية" لمحمد مهند (كوريغراف وراقص) ورفيقيه (أنمر منير وعمار البوجرد) سوى أن يغرفوا من المأساة العراقية، ليقدموها في رؤية ملحمية فاقت في براعتها وتقنيتها المبتكرة الكثير من العروض الأخرى. هناك العديد من الأشكال الفنية تحاول التعبير عن الألم أو الحزن، لكن ما قامت به الفرقة العراقية، كان مذهلاً. ذلك أن أول ما يتوصل إليه المشاهد، أن المصمم مهند، يعرف بشكل عميق ألم موطنه، وألم الإنسان العراقي، لكن هذا الألم لن يوقع التصميم الراقص، أو الحركات، في فخ الإستعراض الجسدي أو دينامية الحركة أو انفعاليتها. نشهد خلال الدقائق الأربع والعشرين، ثلاثة أجساد تتكثف في ما بينها ككتلة واحدة، في حركات مجملها بطيء وبالغة الدلالة والقوة والانضباط، من أجل البوح الداخلي. هناك الكثير من العنف، يحكم علاقة الإنسان بالإنسان، ويبدو كمؤثر خارجي، يتكوم كطبقات بعضها فوق البعض داخل النفس. ليظل السؤال حول مدى تمكن الإنسان من القبض على هذا العنف، وإخراجه إلى العلن كحبكة لعمل فني.
ما قام به الشبان الثلاثة على خشبة مسرح "بابل"، هو تبيان مواطن النفس المختلفة، ضمن ثلاثة مسارح صغيرة، هي الأجساد. كان كل جسد يقول لغته الخاصة من دون أن ينأى عن الآخرين، لأن وجود هؤلاء، هو الشرط الذي من خلاله يتم تأليف التصادم في ما بينهم، هذا الذي يأخذ أشكال الدفاع عن النفس أو المقاومة، في سبيل تعزيز الوجود. ومن ثم يتكثف إلى حالات أكثر خطرا كالقتل أو محاولة الإلغاء المادي، لتقوم النفس بالدفاع وتشي للجسد بالكود السري لإكمال هذه الحياة. قصة العرض تدور حول رجال ثلاثة، تحت سقف واحد، يعيشون ضمن معادلة الإختلاف، الذي لا يشكل استقلالية لكل منهم بقدر ما يأخذ دور المحفز الذي يحول الاختلاف إلى تناقض، فتتشكل لغة الحقد كسبيل وحيد للحوار في ما بينهم. لا يخفى أن العمل يحمل في طياته الحالة العراقية العامة لشعب لم يهنأ العيش منذ عشرينات القرن المنصرم. كل حرف له أبعاد سياسية، أو يمكن تأويله بسهولة تامة. لكن العرض ينسحب على التصادم القديم بين الديانات الثلاث الأساسية. حضر الراقصون الثلاثة بثياب تقليدية أو عباءات، في حركات كوريغرافية بطيئة إجمالا ومشحونة بأقصى طاقات التعبير الجسدي، على خلفية صوت بدون إيقاع خارجي، طال العمل كلاً، وأمسك بالفكرة بأصابع قاسية، تتماهى مع الرقصة المؤلفة. "أجساد عراقية" تمكنت من إضفاء هويتها الخاصة ضمن المهرجان، ومن يتابع هذا المهرجان يعرف تماما ما نحن في صدده، لأن النفق الذي وضعنا داخله مهند، لم يكن نفقا مظلما بقدر ما كان ملهما وحقيقيا.
داخل هذا النفق، كانت الضربات تنهال علينا، لنتآلف إلى حد بعيد مع اللغة، التي فضحت قوة النفس وشرّانيتها، من خلال المسافات المتعددة الفاصلة بين جسدين أو الثلاثة معا. كأننا ننفض من على مقاعدنا، تاريخنا الشخصي غير الخالي من العنف في الكثير من فواصل حياتنا. الإيقاع البطيء أو الدينامية البطيئة والهادئة للأجساد التي لا تكف عن التلاطم، غلّفت معظم لحظات العمل، لكنها كانت تفضح الإصرار الإنساني في سحق الآخرين، لذلك عندما تتكثف الحركة، كان يجري توظيفها بما يخدم غاية الإنسان الجشعة، وهذا ما تحقق أمامنا بالفعل. إنه التماهي مع حالة تشبه الإنصهار الكاذب بين كينونات مختلفة تسعى كل منها لابتلاع الأخرى. لكل جسد بعد مختلف، لذلك هو جسد منفعل وغاضب ومكبل وأحيانا عاجز ومنكسر وزاحف وقلق ومتسائل وساكن وهادئ وضعيف ومتأجج وعاكس كمرايا سرية. رؤية الشاب مهند الخاصة والبالغة النضج لتوظيف الجسد، شكلت القطبة السرية التي وحدت بين الحبكة واللغة المستخدمة على المسرح، ليترك كل من العراقيين الثلاثة فينا أثراً حملناه معنا طويلا وسيظل كبصمة خاصة حفرها أولئك قبل أن يمضوا قدما إلى أوروبا لإكمال مشوارهم الكوريغرافي.
مازن معروف