خالد القصاب.. الدفتر الذهبي لحياة بغداد التشكيلية

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
06/03/2008 06:00 AM
GMT



درس في التوثيق وألوان الناس
 
مالذي يجعل من جرّاح ناجح فناناً تشكيلياً ناجحاً أيضاً؟

هذا الشاب القادم من محلة (خضر الياس) في كرخ بغداد، وسليل العائلة السياسية العراقية، سيكون له شأن كبير في حياة بغداد الثقافية والتشكيلية، إلي جانب حياته الطبية الحافلة بالنجاحات. بين مبضع الجراح وفرشاة الرسام لم تتسع الهوة لترمي بالفتي الحائر إلي الضياع أو الانشطار الفني، فكلا الأداتين وسيلة لمنح الكائن البشري مزيداً من الفرح والعافية، وكلاهما ترافدا في وجدانه ولم يبدع بأحدهما علي حساب الثاني بل اشتراك في يمجال حيوي خلاق ينشد الخير والجمال وتلوين العالم بألوان قوس قزح.

ابتدأت الموهبة مبكرة، وعلي يد الاستاذ رشاد حاتم، مدرس الرسم في متوسطة الكرخ. إن الكتاب الذي تركه خالد القصاب للأجيال اللاحقة ليس ذكريات شخصية محض بل هو درس شيق في التوثيق ومحبة الزملاء من أبناء المهنة والفن، ويتميز بروح الإنسان الكبير الذي غرس فيه الطب مسؤولية الطبيب عن الحياة البشرية بينما أمده الفن بالقدرة علي أن يسبغ الجمال علي الطبيعة وكائناتها الحية وفي مقدمها الإنسان. ترك لنا هذا الفنان الرائد سجلاً أميناً ورفيعاً عن حياة بغداد الفنية منذ الأربعينات وما رافقها من انعطافات سياسية واجتماعية وثقافية واضعاً في بؤرة ذكرياته مسيرة الفن التشكيلي العراقي وتطور حركته الصاعدة من خلال رواده وأبرز فنانيه مثل جواد سليم وفائق حسن وخالد الرحال وشاكر حسن وعطا صبري ومحمود صبري والعشرات غيرهم. تحدث بروح موضوعية أيضاً عن التجارب الناجحة وتلك الت أخفقت من خلال مشاركاته أو متابعاته للمعارض الفنية داخل وخارج العراق.

مذكرات القصاب التي توقفت عند عام 1968 لم تزل مفتوحة علي مديات ملونة في الفن والحياة، ولا يشعر قاؤئها بأنها انتهت عند ذلك التاريخ لأنه كتبها بأسلوب يؤشر إلي المستقبل من دون أن يذكر ذلك، فحياته الزاخرة بالفن والدفء والتسامح تستمر من خلال أعماله الفنية والأسس التي اعتمدها فنانا وكاتبا والمنهج الإنساني الذي اتلعه في علاقاته بمهنته وفنه. يتوقف القصاب عند بواكير الفن التشكيلي العراقي متمثلاً برائده الأول عبد القادر الرسام ابن المدرسة العسكرية العثمانية في اسطنبول حيث درس الرسم، أما أول لقاء له مع رائد الفن الحديث جواد سليم فكان في بيت فائق حسن (أطلق عليه القصاب اسم "البيت الصغير في العيواضية") ثم يتكلم عن تلك الصدفة "الملكية" عندما لمحه الملك فيصل الأول في حديقة البلاط حيث كان يعمل خاله في تلك الحديقة، وأعجب بصورة رسمها فائق فقرر الملك إرساله ببعثة لدراسة الفن في أوروبا.

الطبيعة منجم ألوان

ثم يتوقف الكاتب عند الفنانين البولونيين الذين أثروا في الفن التشكيلي العراقي في أربعينات القرن العشرين وهم كل من ماتوشاك وياريما وجابوفسكي، وكيف لازم جواد سليم الأخير في حين ارتبط فائق حسن بماتوشاك.

يقول اسماعيل الشيخلي إنه سمع من فائق أنه لم يكن يعرف ما يكفي عن الانطباعيين عندما كان في باريس رغم إعجابه بسيزان وماتيس وغيرهما، ولكنه تعرف علي تلك المدرسة بعد لقائه بالبولونيين. يقرن القصاب في حديثه عن الألوان بينها وبين الطبيعة والأزياء فيقول: "تمر الأيام وتأخذ الجمعة مكانها باعتبارها أهم أيامنا. فمع ولادة الشمس واللون تبدأ مسيرتنا إلي الجادرية.... هل تري البنفسجي في لون الشوك ذاك؟ ما أحلي البرتقالي هنا! ألا تلاحظ اللون الشذري (الفيروزي) في ثوب الفلاحة تلك؟".

وهكذا يستمر نبض الألوان في حديثه بصورة تلقائية فالسماء رمادية والربيع أخضر والخوخ أحمر وزهر التفاح أبيض والخريف اوراق صفراء متساقطة.. وكأن عيني هذا الفنان تصنعان الوانهما الخاصة مما توجد به الموجودات من حوله أو تراه يسبغ عليها ألوانه الدافئة.
كان القصاب وجماعته في رحلاتهم إلي الجادرية وسلمان باك وكردستان وغيرها يلاحقون آخر ظلال الألوان وكأنهم يحولون الطبيعة إلي مرسم بدائي كبير.
جاكلين

لم يكن القصاب من ذلك النوع من المثقفين المأخوذين بالنظريات و "القضايا الكبيرة" التي يستعرض فيها المثقف ثقافته أو يتحزب من خلالها لأفكاره أو أفكار غيره، فهو فنان يكاد يمتلك العالم من حوله حسيا، بل كثيرا ما تراه مأسورا بالأشياء الصغيرة من مكونات العالم الصغير، عالمه، وغالبا تستوقفه لمحة إنسانية هناك أو مشهد عابر في شاطئ رملي علي نهر دجلة أو قصة حب عاشها أحد اصدقائه. لنستمع إلي ما يرويه عن صاحبة البرورتريه.. جاكلين.
كان فائق حسن قد رسم بورتريه لسيدة فرنسية تعرف عليها عندما كان طالبا في باريس وانقطعت علاقتهما بسبب الحرب العالمية الثانية، فما كان من فائق إلا أن كلف تلميذه اسماعيل (الشيخلي) بالبحث عنها.

قال اسماعيل إنه تعرف علي جاكلين حال لقائه به، عبر ذلك البورتريه، وهي بدورها أدركت أن اسماعيل عراقي قادم من بغداد، وهكذا عرفت هذه السيدة (التي هي الآن متزوجة من سيفر، الصديق المشترك بينها وبين فائق) أن حب فائق لها لم يمت ليجهش الثلاثة بالبكاء. ثم يتوقف القصاب عند تأسيس (جمعية أصدقاء الفن) خلال ظروف الحرب الصعبة وتفككها وأبرز ممثليها أمثال أكرم شكري وعطا صبري وحافظ الدروبي الذي يعود إليه الفضل في افتتاح أول مرسم حر لجميع الفنانين في الباب الشرقي عام 1942.
يتأسس معهد الفنون الجميلة فيرفد حياة بغداد الفنية بالفنانين الشباب وهو ما يطلق عليه القصاب (السيل الجارف). ثم يتحدث عن ظهور ذلك الشاب القصير القامة، المرح والحيوي، وصاحب المخيلة الخاذة الذي سيصبح أهم رموز الفن الحديث في العراق: جواد سليم الذي يصف لحظاته الأخيرة بقوله: "غابت الشمس الحمراء خلف الأفق وبقي لحن الغيتار الأخير يرن طرباً في أذني، لم يذو مع السنين بل ظل يحكي لي قصة عبقرية نادرة انتهت بعد عمر قصير، ذهبت ولن تعود".
يفرد صاحب المذكرات صفحات شيقة أخري من دفتره الذهبي وهو يسرد حكايات بغداد الفنية وشخصياتها المبدعة وأهم اتجاهاتها الفنية مثل جماعة بغداد للفن الحديث وتأسيس أكاديمية الفنون الجميلة وجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين.

 
 عن جريدة الزمان