جبر علوان: أذهب إلى لوحتي معطّراً كما
 لو إنني ذاهب إلى لقاء امرأة!

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
18/02/2008 06:00 AM
GMT




بيروت-كارمن شمعون
عراقي يجوب العالم بحثاً عن وطنه المفقود، أقام في روما والعديد من بلاد العالم معارض عرفت شهرة كبيرة لم يعرفها عربي آخر، ولوحاته منثورة في أرقى المتاحف وأغناها... جبر علوان المتجوّل الدائم والسارح المستمرّ في عالم الألوان والصور والأحاسيس، اجرى معه مراسل صحيفة ( أوان ) الكويتية حوارا في «مسرح بابل» ببيروت قبل يوم واحد من سفره إلى روما
+ جولاتك كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، لماذا نراك اليوم إذاً في بيروت، وتحديداً في مسرح جواد الأسدي؟
- لي تجربة قديمة مع جواد الأسدي، لكن داخل المسرح، حيث كانت لوحاتي تشكّل جزءاً من قطع ديكور المسرح . أمّا الآن فالمعرض مختلف تماماً حيث إنه معرض قائم وحده، يتضمّن إحدى عشر لوحة جدارية كبيرة قرّرت، أنا وجواد، بعدما اطّلعت على تحضيره لنصّ لوركا الذي سمّاه «نساء الساكسوفون»، أن نعمل في اتجاهين فنيين مختلفين: هو على المسرح وأنا في لوحاتي. لقد جاءت هذه الرسومات نتيجة حوارات ونقاشات طويلة وزيارات متبادلة بيني وبين المخرج، فبقيت أربعة أشهر أرسم هذه اللوحات بشغف وحبّ وحماسة نابعة من إعجابي بالفكرة الجديدة، ومن شوقي الكبير إلى العمل في بيروت، وعرض أعمالي في هذه المدينة العريقة التي طالما احتلّت في قلبي مكانة مميّزة.
بالفعل، لقد شعرت أن هذا العمل قريب منّي للغاية، ويعود ذلك على الأرجح إلى أن موضوعها يخصّ المرأة التي طالما تحدّثتُ في لوحاتي عن أحوالها، وعبّرت عن نظرتي لها بألوان وأشكال مختلفة. يأتي هذا المعرض مكمّلاً للنص المسرحي، وهو في الوقت ذاته امتداد لأعمالي السابقة حيث إنني اعتمدت، كالعادة، التركيز على اللون الذي من خلاله أقوم بقراءة سيكولوجية لكائني المفضّل: المرأة التي لا أملّ من رسمها، متمعّناً بالصور التعبيرية الكثيرة التي تبعثها في نفسي حالاتها الجسدية والنفسية. امراة وحيدة، امراة ترقص، المرأة الأمّ والأخت والحبيبة. إنها رمز الحياة والتجدّد والولادة، فرغم أتعابها وأوجاعها نراها لا تستسلم ولا تكفّ عن لعب دورها العظيم في هذه الحياة.

+ هل أنت فنان تجريدي؟
- برغم خوضي، في بداياتي، بعض التجارب في الفن التجريدي، إلاّ أني بعيد كلّ البعد عنه. فأنا فنان تشكيلي أتوق الى التجدّد الدائم الذي لا ينتهي ولا يشيخ، والدليل أن دخول التكنولوجيا الى اللوحة لم ينهِ التشخيص، ولم يحدّ من أفكارنا وإنتاجاتنا كرسّامين. بحرّيتي التامة أرسم حالات رأيتها في عالمي وفي السينما والمسرح والشارع... فأجمّع الصور من هنا وهناك، متوجّهاً الى لوحتي، مستحمّاً متعطراً وكأنني أقابل حبيبتي لأفضفض أمامها عن كلّ ما يخالج قلبي وفكري.
+ تجربتك مع الاغتراب أخذت حيّزاً كبيراً من حياتك، ماذا أعطتك وماذا أخذت منك؟
- برغم أني تركت العراق وتوجّهت إلى روما منذ نحو الـ35 سنة، إلا أنني لا أعتبر نفسي مغترباً. فلقد طرقت باب هذه المدينة طالباً العلم وتطوير ذاتي ، وبالفعل استقبلتني أجمل استقبال وفتحت ذراعيها لي كما تفعل مع كل باحث عن هوية فنّية. مدّتني بالألوان والخيال والتقنية، كما فتحت لي متاحفها و«غاليرياتها»، وساعدتني على بناء اسم، وعالم خاص بي يشاطرني به العديد من المعجبين برسوماتي.
استفدت من كل شيء هناك : الموضة، الملابس، الناس، السينما، الآثار… برأيي على الفنان أن يكون مهاجراً دائماً، كي يشعر أنه منتمٍ الى الأوطان والهويّات كافة، وكي يعرف أيضاً كل ما يجول في الحركة التشكيلية من جديد.
+ وماذا عن العراق وبغداد، أيّ ذكريات مازلت تحمل عن هذا الوطن؟
- عندما يشاهد الأوروبيون أعمالي للوهلة الأولى، يعتقدون أنني أرسم بريشتهم وألوانهم، لكنهم عندما يتمعّنون برسوماتي يتأكدون أنّ لي لمسة خاصة، لمسة شرقية لا أستطيع أن أتخلّى عنها. من الضروري أن ندرك جميعاً أن الفنان عندما يرسم يكون متحرّراً من جميع القيود فيخرج كلّ مكنونات ذاكرته وتاريخه ولاوعيه. وهذا ما يحصل معي، فالعراق يسري في دمي ومعتقداتي وأحلامي وأهوائي. وبالرغم من أن بغداد أصبحت بعيدة، ولم يبقَ منها سوى الذكريات الحلوة والحزن العميق على هذا الوطن الحبيب المتعب، إلا أني أخزّن لها لوحات كثيرة ستُعرض في المتحف الوطني عندما تستقر الأوضاع.
من جهة أخرى أعترف أن بُعدي هذا يعيق، وفي أحيان كثيرة، حواري مع أبناء بلدي وأصدقائي المقيمين هناك، فظروفهم القاسية أخذت منهم الكثير كما أن حياتي أنا تغيّرت أيضاً، فربما طبيعة عيشنا أو اهتماماتنا تغيّرت لا أعرف بالضبط ما الذي حصل، لكنني أشعر بفجوة عميقة قد يعود سببها إلى تشتت حلمي بالنهوض بوطن سكنته الديكتاتورية لأزمان طويلة، وأظن أنّ حالي هذه هي حال الكثير الكثير من فنّاني العراق المبعدين.
+ من خلال تجربتك، ما الفرق بين الجمهور العربي والجمهور الأجنبي؟
- نقاط عدّة تفرّق بين الاثنين، فالمتلقّي الأجنبي، ومنذ صغره يتربّى على قراءة اللوحة، فيراها في المنزل والشارع والمتحف والأماكن الدينية والكتب والمجلات. يدرس تاريخ الفنون من مسرح ورسم ونحت وغيرها في المدرسة... كلّ هذا يجعله قارئاً متمعّناً بالفطرة. أمّا في عالمنا العربي، وللأسف، فثمة فئة قليلة من المثقفين سمحت لهم الظروف أن يسافروا أو يطّلعوا بطريقة أو بأخرى على أهمّ صيحات الرسم العالمية وتقنياته، ففي ظلّ غياب المبادرة الرسمية لتوعية الشعوب تصبح المبادرة الفردية هي الأساس، وبصراحة هذا الأمر يؤثر فيّ كثيراً؛ عندما أرى موهبة ذكية عربية حقيقية لا تلاقي الرعاية اللازمة.