أقام معرضه الأخير «حين يتحول الألم إلى جمال» في فلورنسا… أعمال العراقي آذار جبر: فن يحفر في جسد حضارتين

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
19/08/2015 06:00 AM
GMT



حسام الدين محمد

 سمّي آذار جبر على اسم أول شهور الربيع (مارس) وهو اسم مشحون عالمياً، بمحمولات طقسية وميثولوجية وسياسية حتى؛ ومنها، بالطبع، دلالات الربيع وانبعاث الحياة بعد مواتها، لكنّ بعض أعمال آذار جبر تبدو أقرب إلى الاستدلال الخاص الذي نحته الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدة «الأرض» عن «آذار أقسى الشهور»، ناسجاً على منوال الشاعر الأمريكي ت. إس. إليوت في رؤيته التي حيّرت قراء ونقاداً في عزوه القسوة لشهر ربيعي آخر (نيسان/إبريل) في قصيدته الأشهر «الأرض الخراب».
ينتسب آذار من جهة الأب إلى الفنان العراقي جبر علوان، الذي تميزه ألوانه العميقة الصاخبة، والمشغول بتصوير شخصيات ومواقع الفن بضروبه: الرقص، والشعر، والمسرح، والموسيقى خصوصاً، والولع بتفاصيل المرأة جسداً وكياناً، إضافة – كما عادة الفنان المهاجر – إلى حفره في مواضعات العزلة وشؤونها، بحيث يتناظر الإيروس الحيوي للفن والمرأة مع الفراغ والوحشة القاتلين في الغربة، ويتعارضان.
وينتسب آذار جبر من جهة الأم إلى الفنانة عفيفة لعيبي (وهي شقيقة الفنان فيصل لعيبي) المائلة في شخوصها ومواضيعها إلى الانسجام والتوازنات الدقيقة، وإلى التصوير شبه الكلاسيكي للأجساد التي تحمل أعمالها إلى رحلة مقارنة فنّية مستمرة، بين رؤية فنانين من عصور التاريخ القديم للعراق وفناني عصر النهضة الأوروبيين، للجمال والأجساد والأماكن والمناظير، ورؤية لعيبي نفسها، مقدّمة تحدّي الفنان الحديث لسابقيه، ولعبه ومماحكته الدائمة مع جدل الماضي والحاضر، كما نرى، لو تعمّقنا أكثر، التبادل الماكر أو المشتهى للحيوات والأماكن.
لا يخفى انتساب آذار إذن إلى هذه التأثيرات الجينيّة (والجينومية، بمعنى: الجينات الثقافية)، غير أن ذلك يضيف ولا ينتقص من انتسابات الفنان الأخرى التي امتحّ نسغها من وجوده في قلب ثقافات وجغرافيات وأكاديميا وتأثرات، وهو الساكن إيطاليا منذ ولادته عام 1982 مروراً بانتقاله في التسعينيات من القرن الماضي إلى هولندا، وهي رحلة في التاريخ والجغرافيا والفن، لأنها تمثل انتقالا من الهامش المتوسّطي الذي احتضن فنّ النهضة والحيّز التاريخيّ القديم الذي ورث فيه الإيطاليون الإغريق وحضارات مصر والعراق، إلى رحم أوروبا في الأراضي الواطئة الرطبة والمعتمة لهولندا، وصولاً إلى انخراطه الواعي في العمل كفنان وعمله الأكاديمي كبروفيسور مادة النحت في اكاديمية انتويرب الملكية في بلجيكا.
تناظرت ولادة الفنان مع حروب لا تنتهي في بلد أسلافه، فالحرب العراقية الإيرانية انتهت حين كان عمره سنتين، وخلال حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت أو «عاصفة الصحراء») كان في التاسعة من العمر، وفي حرب احتلال العراق عام 2003 كان شاباً في الواحدة والعشرين من العمر، وهي أحداث لابد أن تكون قد وسمت بطابعها الوحشيّ مخيّلته ومشاعره، مع فيضان الصور والأخبار والديناميات التي أطلقتها واحتلّت منذ ذلك الحين شاشات العالم التلفزيونية وصحفه وأفلامه، وتركت مفعولها العميق على السياسة والاقتصاد والاجتماع والفنون عامّة.
العيش على حياة الحروب، هناك في بلد الأسلاف، وهو أمر كان ملء العين والنظر في كل العالم، وفي أوروبا خصوصا، جعل آذار، على ما يظهر في أعماله، مطلا على الصدع الهائل الذي دخل فيه العراق، وعلى الآلام المهولة التي عاشها الناس هناك.
من هنا نفهم الوجوه والأجساد المشوّهة والتطريق الهائل الذي تعرّضت له، بحيث صارت تجسيدات للنكبة الإنسانية، ونفهم الفجوات المتلوّية التي تغيّر أماكن العيون وتلغي القسمات تاركة جراحا فاغرة.
تتكسّر المعالم وتنوء تحت وطأة حديد الواقع الرهيب. تدخل قطع الفولاذ الكبيرة في الوجه فتطعجه وتعجنه محوّلة صورة الإنسان الكامنة إلى تماثيل قديمة مهشمة، وتنشطر الرؤوس فتتحوّل إلى صرخة مفتوحة على الفراغ.
في منحوتات كبيرة يتحدّى الفنان صلابة الرخام ويبني، من اجتماع برودة المادة والتماعها القاسي موضوعات آسرة ينوس منها القديم الحاضر بإرث نحّاتي النهضة الإيطالية الكبار، وتشعّ منها الآلام الحديثة.
تلتفّ العضلات وتعرجات العظام والعروق وتتلاصق الأعضاء كما لو كانت عائلة من الجوارح المتضامنة للدفاع عن نفسها، فيما يشير إصبع الشهادة إلى شيء ما فيما تضغط على لحم الجسم بقوة.
يستعيد الفنان، هنا أيضاً، أسلوب التقطيع والبتر والنشر، كما لو كان، في لاشعوره، يتنكّر في إهاب العراقيين الذين رفعوا هذه الأعمال إلى مرتبة هائلة في فظاعتها ضد بعضهم بعضا. وهكذا، بدلا من اكتمال الجسم والأعضاء نشهد نقصاناً كاشفاً. نقصان يخلق مفارقة بين الجسد الناهض القوي العضلات، والتكسرات التي تعرّض لها، وهي هنا، قد تستعير تكسرها من عوادي الزمان ومروره المغيّر لكل شيء، كما المنحوتات القديمة، أو من حاضر لا يكف سكانه عن استدعاء نكبات التاريخ وسردياته ليحيلوا الحاضر حطاماً.
مماحكة جبر الصادمة لمفاهيم الجمال القديمة بتهشيم الجميل، كوجه الطفل، وجسد الرجل المليء بالعنفوان، وتشريح المرأة إلى تفاصيل فاضحة مجرّحة ومنكوبة، تجد أواصر لها لدى فنانين مهمين معاصرين، ولكنّه، في الواقع، يحفر لنفسه مكاناً خاصا.
يمكننا، على سبيل المثال، استدعاء لوحات البريطانية جيني سافيل، وأعمال السورية سارة شمّة التي عرضت مؤخراً في دبيّ ولندن، ورغم التشابهات العديدة التي يلتقي فيها الفنانون الثلاثة، وخصوصاً الاستدعاء المتقارب للملحمتين العراقية والسورية لدى شمّة وجبر، فإن التدقيق يظهر صدور أعماله عن مناطق أخرى، ومن مصلحة جبر إظهار هذه الفوارق لأن كشفها سيعمّق فهم أصالة أعماله.
حركة الأصابع الضاغطة على اللحم، في تمثال جبر المذكور سابقا، تذكّر بلوحة جيني سافيل وغلين لتشفورد، «تواصل لصيق»، كما تذكر تخطيطات جبر ببعض تخطيطاتها، ولكنّ هذه التشابهات تنتهي هنا، فمشغوليات جيني سافيل تأتي من عمق الإرث الأوروبي للفنّ، من حيث الانشغال بالذات وتهتّكاتها، بينما يمكن القول إن أعمال جبر قادمة من الصدع القائم بين حضارتين ومن اصطدامهما المهول وتأثيراته على الإنسان بما هو موضوع لها.

* * *

يتحايث في أعمال جبر الموت العالي الصوت مع الحياة الخافتة والمختبئة في التفاصيل، وتذكرني هذه النظرة الكامنة للموت بفيلم «جمال أمريكي»، حيث يصوّر الشابّ الحسّاس الحمامة الميتة، لأن ذلك «جميل»، كما يصور كيس البلاستيك المتطاير الذي يحاوره، وجسد حبيبته وجسده، وينتهي السلام الداخلي لبطل الفيلم، كيفن سبيسي، به إلى الموت بمسدّس جنديّ المارينز المتقاعد، وهو والد الشاب المصوّر، تحت ضغط الألم والخوف من انكشاف أنوثته المتخفية تحت قناع الصلابة والنازية والمسدسات.

* * *

في كشفه هذه العلاقة المهتوكة بين حضارتين، وفي اضطراب وتهشم البشر، ينجح جبر في التقاط لحظته التاريخية المؤلمة وفي التعبير عنها بشكل فريد. معرض آذار جبر «حين يتحول الألم إلى جمال» يستمر في Palazzo Medici في فلورنسا الإيطالية حتى نهاية آب/أغسطس الجاري.

من القدس العربي