الذهاب مشياً إلى فنسنت في منزله الأصفر

المقاله تحت باب  فنون عالمية
في 
11/10/2012 06:00 AM
GMT



شيء من فنسنت، شبحه على الأقل كان يرافقني حين ذهبتُ إليه مشياً. ثلاثة كيلومترات تفصل بين البيت الذي أقيم فيه ومنطقة المتاحف في أمستردام. كان عليَّ أن أمشيها وأنا أفكر فيه، في فنسنت فان غوغ، وفي شتائه الذي لم يكن مزحة. سبق لي أن رأيتُ الكثير من لوحاته في باريس، غير أن تذكّر تلك اللوحات شيء والنظر إليها مباشرةً شيء آخر.

فن فان كوغ لا يقيم في المعاني (وهي عظيمة) التي يقترحها بل في الرسوم التي تنطوي على قوة روحية عصية على الوصف. هنالك شيء ما في عالم هذا الرسام الهولندي يظل غامضاً. شيء له علاقة بمغزى الوجود البشري، بالمصير الذي يبقى ملتبساً. لذلك يغمض الكثيرون عيونهم حين يتأملون رسوم فنسنت كما لو أنهم ينصتون إلى موسيقى متألمة. معهم حق. لا يمكن النظر الى فن فنسنت دائماً بعيون مفتوحة. هناك ما يجب أن لا نسأل عنه، أن نتفادى المرور به. أن ننظر إليه باعتباره جزءاً من الـ"هكذا هو المصير". فنّه يشبهه. أقصد فنسنت. مثله تماماً، وهو الذي لا يمكن أن يُعرف باعتباره مريضاً، بالرغم من أنه كان أكثر من مريض. إن الاكتفاء بمرضه يعني بالضرورة إغفالاً لعبقريته، وإنكاراً لقيمة ما فعله من أجل أن يكون الانتقال إلى عصر الحداثة ممكناً.
من المؤكد ان فنسنت كان يعاني من الانفصام النفسي. لِمَ لا؟ كلنا بطريقة أو بأخرى منفصمون ومنفصلون. هل كان مجنونا؟ الدكتور هاشيت الذي رسمه، لم يقل بذلك، وهو الذي عاصره وعايشه وعالجه وشهد موته. غرابة أطواره كانت تدل على اختلافه ونفوره وتمرده. كان شخصاً مختلفاً. في سنوات شبابه المبكرة تعرّف إلى شقاء عمّال المناجم، آكلي البطاطا (كما رسمهم)، فهجر السلك الديني لأنه أدرك أنه لن يكون جزءاً من مجموعة، بغض النظر عن قيمة ما تقوم به تلك المجموعة. ولأنه لا يملك وقتاً للنسيان، فقد تراكمت التعاسات في حياته لتملأ خزانة عاطفته ووعيه. كما لو أنه كان الرجل الأخير. الرجل الذي لا يملك أملاً. لذلك اخترع نوعاً من الوصف لا علاقة له بشروط الوصف الموضوعية. كان فنسنت يصف ليقول ذاته وينسفها في الوقت نفسه. يحوّل تلك الذات من خلال الرسم صورة عاصفة ليلية، حقل شاسع، زهرة عبّاد الشمس، غرفة في آرل، منزل أصفر. ما نراه في لوحاته لا يكترث بما يمكن أن يشكل قاسماً مشتركاً بينه وبين الواقع. يمضي فنسنت بالطبيعة إلى عينيه، وبعدها يتسلل بها إلى روحه. حينها لن يكون الموضوع سوى ذريعة. في رسائله كان فنسنت بارعاً في وصف تحولات الرسم تبعاً لتحولاته الروحية.

 

البريء من الرسم

مشياً وصلتُ الى فنسنت. كان في انتظاري ساعتان من الوقوف في طابور طويل لكي أتمكن من الوصول إلى مكتب قطع التذاكر لكي أدخل. على الجدار كانت هناك صور لرسوم فنسنت مكبّرة. فكرة تمهيدية يتسلى المرء من خلالها بالتفكير في ما سيلاقيه في الداخل. مصباح ديوجين، قلت لنفسي وأنا أرى فنسنت وحيداً في عصره، حاملاً فكرة عن الرسم هي الضد تماما لكل الأفكار السائدة، بما فيها تلك التي أنتجتها المدرسة الانطباعية، التي كان من المفترض أن ينظر إليها فنسنت بقدر من  الاحترام، كونها حررت الرسم من قوانينه الاكاديمية. فنسنت كان وحيداً. كل حديث عن انتمائه إلى مدرسة أو تيار فني ما هو إلاّ محض افتراء نقدي. كان صانع الصور الصينية، كما لقّبه نقاد عصره ساخرين، قد اكتفى بقلب قواعد الرسم. فللمرة الأولى يمتزج التعبير بالتقنية. تكون التقنية أساس التغيير. مقصودة لذاتها لأنها تتألم أيضاً. رسوم فنسنت تكشف عن حساسية جديدة، مصدرها اشتباك بين مصيرين، كلٌّ منهما لا يملك من الرجاء سوى الضربة الأخيرة. مثل شعور مفاجئ بألم عظيم. مثل استغاثة غريق. نفذ فنسنت رسومه بالزيت متأثراً بتقنية الحفر الياباني على الخشب. لكنها مهمة شاقة، وجد فنسنت فيها ومن خلالها ضالّته. هنا بالضبط يكمن السر الذي يجيب عن سؤال من نوع كيف قيّض لعشر سنين (1880 ــ 1890) وهي الفترة التي أمضاها فنسنت رساماً أن تصنع فناناً عظيماً؟ هل كانت تلك السنوات كافية لكي يتدرب المرء على أن يرى، ومن ثم يحوّل تلك المرئيات رؤى خاصة به؟
ربما تجرأ الكثيرون في عصره على القول بأن فنسنت كان رساماً ضعيفاً. فهل كان يتقصد الظهور بذلك المظهر أم أنه كان رساماً ضعيفا بالفعل؟

أسوأ الرسامين في إمكانه أن يرسم مدرسياً أفضل من فنسنت. أقولها من غير تردد.

من المؤكد أن بول غوغان وهو صديقه الذي ذهب إلى تاهيتي، كان أفضل حالاً من فنسنت على هذا المستوى. ولكن قد يكون هذا القياس مجرد وهم. كان فنسنت عدواً للرسم، مثلما ورثه الآخرون. لقد سعى الى أن يبرئ نفسه من ذلك الارث. ما الذي كان يحاول أن يرسمه؟ عناده، تمزقه، حيرته، خيبته، ضجره، يأسه من عالم صار يبتعد تدريجاً. هذا كله بدا واضحاً في الـ37 رسماً شخصياً التي أنجزها خلال السنوات الثلاث الاخيرة من حياته والتي عاشها في آرل. السنتان الاخيرتان أنتجتا فنسنت المبجل. الرجل الذي يستقبلك بصورته الشخصية التي تنتمي إلى عالم المطلق. هذا رجل قرر أن يقيم وراء غيوم شخصية.


مرثية عائلية

في حضرته لن يتلاشى الوهم. بل يتخذ ذلك الوهم صوراً جديدة، أقلها أن يكون فنسنت في مواجهة الطبيعة. ينظر الرسام اليك. وحيداً يتحكم بحركتك بين لوحاته. لم تكن تخطيطاته ذات قيمة فنية. الجميلات اللواتي كن يتنقلن بين لوحات فنسنت قد لا يعرفن أنه كان سيئ الحظ مع النساء. لم تكن هناك نساء حقيقيات في حياته. الموديل، الخادمة صاحبة الطفل، المومس التي أشيع أنه قطع أذنه من أجلها. أستعير قدميه وأمشي متنقلاً ما بين رسومه والشهقات الأنثوية التي كنت أسمعها بين حين وآخر. "سيبقى الحزن طويلاً"، كتب فنسنت الى تيو، أخيه في رسالته الاخيرة. هذا المتحف هو مرثية عائلية. معظم مقتنياته جاءت من ابن تيو وحفيده. لم يقل فنسنت إنها وصيتي. لم يكن مثل سيزان يحلم في الدخول إلى متحف اللوفر. رجل مثالي يرسم بيد غير مكترثة. في لوحته "غرفة في آرل"، يعترف فنسنت بكل ما طرأ على حياته من تحولات. يحرر الرسام يده من الرسم. ليست هناك ضربات قوية. لكن الطريق إلى الروح غالباً ما لا تحتاج إلى العضلات. لقد حوّل فنسنت الرسم إلى دين شخصي، لذلك صار يجرؤ على تحويل العالم، من خلال الرسم، إلى مزرعة شخصية، كائناتها هي جزء من حكايته التي يمكن أن تروى بطرق مختلفة. لقد رأيت أشجاراً رسمت بالأبيض في ثلاث لوحات كبيرة، هي ما أتوقع أن أراه في الفردوس. في تلك اللوحات لم يكن فنسنت شاهداً محايداً. لقد رأى الرجل كل شيء. هي ذي الأشجار التي تمهد لقدومه. كنت وأنا أنظر إلى تلك اللوحات، أتوقع أن أرى فنسنت قادماً وهو يسخر منا: حياتي في الرسم هي اللامعنى الذي ينتظركم. ما من شيء يذكّر بالطبيعة، ولكن الطبيعة كلها كانت قائمة في تلك اللوحات. كان فنسنت في تلك اللوحات الثلاث رساماً قوياً، بالمعنى الذي يؤجل قلقه الشخصي. هل كان فنسنت يكذب من أجل أن يخلص لقدره الشخصي؟ كان فنسنت طفلاً إلهياً. حين خرجتُ من متحفه متلفتاً، انتبهتُ إلى أن الخارجين معي كانوا يتلفتون أيضاً. كما لو أننا لا نصدّق أننا سنغادر، بعدما ترك كل واحد منا شيئاً من روحه محلّقاً في فضاء ذلك المعبد.