عمل الفنان على حيازة استثنائيته بمجهود فردي صقله حس الاستكشاف التجريبي بأدوات مناسبة
تجعل التجربة عملا ناجزا وفريدا. لقد اشتغل باستمرار على تطوير أو تثقيف إمكانياته الذهنية التحويلية للحد الذي طاوعته كل المواد والأدوات التنفيذية الإجرائية, ولينتج لنا مشهدية تشكيلية متحركة, لكنها لا تفقد صلة وصل, سواء كانت خفية أو مباشرة, بمنجز هذا الفنان على امتداد زمن مسيرته. ولم تفقد صلتها أيضا بالمنجز التشكيلي العالمي المعاصر. وحينما أراد ناقد الفن الويلزي(ريتشارد نوير) أن يؤلف كتابا عن الكرافك العالمي المعاصر, اختار مظهر احمد مع فنانين اخرين , ولم يكتفي بذلك, بل اختار احد أعماله الكرافيكية ليزين به غلاف كتلوك ترينالي كراكوف لعام(2004). هذا الكتاب, أو كما اعتقده الوثيقة الفنية, اعتمدها مظهر حافزا لتحقيق انجاز فني عالمي. لذلك اشتغل بدأب على إقناع الجهات الثقافية السويدية المحلية لإقامة عرض ترينالي للكرافيك في المدينة التي يقطنها يعتمد نماذج من اعمال الفنانين المدرجين في هذا الكتاب. وبعلاقاته بالوسط الفني العالمي والمحلي, استطاع تحقيق هذا العرض الذي توزعته عدة قاعات عروض فنية, ومنها المتحف الذي سوف يحتضن عرض مظهر الاستعادي. وكان حدثا فنيا مهما.
استلم مظهر مسؤولية إدارة مشغل مدينة فالون السويدية للكرافيك في عام(1992), وسعى لتوسيعه وتطويره باستمرار ليشمل في دوراته كل من الفنانين المحترفين من السويد ومن خارجه, اظافة للشباب والهواة. ولتشمل الدراسة او التدريب المهني فيه على الطباعة الكرافيكية التقليدية وتقنيات الفوتو والدجتال, مع ما ابتكره من تقنيات المواد الغير السامة التي استحق عليها الجائزة الكرافيكية السويدية المحلية المهمة(نوبل). اظافة الى كل ذلك جهوده المثمرة لإقامة العروض الفنية العالمية في مدينته(فالون). لقد حقق بجهده وبمساعدة الجهات الثقافية أكثر من عرض فني دوري. وانأ بحوزتي ثلاثة كتالوكات لهذه العروض. فبالإضافة إلى عرض ترينالي كرافك فالون العالمي(2007), كتلوك عرض ترينالي(طباعات من البلطيق), و ترينالي الملصق البولوني. كل هذه الكتلوكات من تصميميه وطباعته, مع مساهمته الجادة في ادارة وتنسيق فعاليات هذه العروض. بكل هذا النشاط الذي كرسه لمنجزه الشخصي وللآخرين, اعتقدني لا أجانب الصواب إذا اعتبرت مظهر فنان عضوي( مثلما ذهب كرامشي في مصطلحه عن المثقف العضوي).
لقد دعي مدير ترينالي كراكوف البولوني(من الترينالات العالمية المهمة في الكرافيك) قبل عام لزيارة مدينة فالون حيث يعمل الفنان مظهر وبمبادرة منه, للتباحث مع المسؤلين, وتم عقد اتفاقية بربط السويد وكراكوف في الدنبورك الالمانية وفالون وفينا ومركز بينالي كراكوف, وبهذا شمل العرض هذه المدن الاوربية الاربعة. وهذا انجاز مهم يحسب للفنان مظهر ايضا. وان دل على شيء, فانما يدل على ما يتمتع به من سمعة مهنية طيبة في الوسط الفني العالمي.
حصدت اعمال مظهرالكرافيكية العديد من الجوائز لعالمية المهمة, من خلال مشاركاته النوعية في العروض العالمية التي اقيمت في العواصم العالمية العريقة الممختصة في هذا الفن التشكيلي. وهو بذلك حاز على الاعتراف بأهمية قيمة منجزه الفني, ضمن الحاضن الفني العالمي الواسع. مع كل هذه الانجازات المهمة. وبالرغم من انه بنى منجزه خارج العراق. إلا أن معظم مساهماته المهمة يفضلها باسم العراق. ولم يغب العراق عن ذهنه ووجدانه. وكأي عراقي تمزقه حيرة أسئلة المأزق العراقي الحالي, فانه صنع عدة بوسترات برقية تنتقد سوء الوضع والإدارة السياسية وما خلفته من انتهاكات لا يمكن السكوت عنها. بالرغم من ان خطاب مظهر الفني, هو بالأساس خطاب عالمي. لكن هناك أوقات لا يستطيع الفنان فيها غض النظر عما يدور حوله. وان فقدنا بوصلتنا الجغرافية الوطنية, إلا أن ثمة سهم يشك القلب ويشير إلى العراق.
ان تحتفي بك مؤسسة الدولة الأوربية التي احتضنتك بعد أن انعدمت لديك خيارات العيش تحت سماء او غيمة بلدك الأم. فهذا أمر يضاعف من أهمية الاحتفاء. وهو في نفس الوقت رسالة ضمنية لمؤسسات العراق(الوطن الأم) للانتباه إلى أهمية منجز أبنائه الذين أصبحوا غرباء على وطنهم الأول. ربما يذهب صوتنا ادرياج الرياح, واعتقده كذلك, وسط الفوضى الخلاقة, التي لم تخلف سوى فوضاها. فلا يعقل ان تقتنى أعمال خيرة فنانينا(كما هو حال مظهر) من قبل المتاحف العالمية ومراكزها الفنية. ويعصي على الفنان أن يودع عمله متحفا في بغداد آو أية مدينة حضرية في العراق. فان تبخر متحف الفن الحديث بعد الغزو الأمريكي. فهل كانت بركة هذه المنحة, أم ماذا.
عرض مظهر الاستعادي ألتكريمي, ينفض الغبار عن أحلامنا, ويدخلنا واقعا عولمي(كما العولمية الثقافية الايجابية الإنسانية, لا نقيضها) ويدخلنا واقعا ثقافيا جديدا, يكرس الجدة والمثابرة وصدق الاداء ومعرفة العالم كما هو للنفاذ لتحقيق أحلامنا, لا تأجيلها.
سوف يضم المعرض الاستعادي حوالي مائة عملا فنيا منتقاة من مسيرة الفنان, منذ الثمانينات من القرن الماضي حتى الآن. كما سوف يعرض اعمالا ورقية طباعية وملونة بمواد اخرى, واعمالا على القماش, وكتابا فنيا عن الشاعر السويدي الذي حاز جائزة نوبل الأخيرة(توماس ترانسترومر ), انجزه مع توقيع الشاعر عام(2007), وسوف يعرض في جناح خاص في المعرض. كذلك بعض التجارب التجميعية الجديدة التي أنشأها من أدواة البناء(المجرفة والعصا) وغيرها. مستلهما الإرث البشري الأقدم, ومطوعها كعلامات إنسانية قابلة للمحاورة الفنية. واعتقدها لا تبتعد عن نهج الفنان بتكريس الجسد حقل تجارب فنية لا تخلوا من دلالاتها. فان كنا ولا نزال أجسادا, فالآلات وكما اخترعها الإنسان أجساد أيضا لها وظائفها الحياتية الخاصة. لقد استثمر مظهر موادا جاهزة ومهملة ومستهلكة خلال مسيرته الفنية وحولها مشهدية مدهشة اعلت من شأنها, كما في عمله البانورامي المدينة مثلا. والذي أشرت إليه في مقالة سابقة. أو في طباعاته على صفائح الزنك ألطباعي المستهلكة, وتشكيلاته التجميعية.
يبقى مظهر فنانا متفردا في رؤيته وانجازه. ويستحق كل تكريم. سواء من المؤسسات الرسمية. او ممن استفاد من خبراته المباشرة من الفنانين التشكيليين, سواء العرب منهم او الاوربيين. ويبقى مثالا نادرا وسط تدريسي الفنون, كونه لا يخفي من خبرته شيئا, هو يبيحها لكل طالب. وهنا تكمن إنسانيته أو مثاليته التي أتمنى ان يحذو حذوها الآخرون.
بعد كل ذلك. هل يستحق مظهر احمد تكريمه هذا. اعتقد بان مؤسسة ثقافية(كالمؤسسة السويدية) هي من أصعب المؤسسات الأوربية وأدقها في منح مواطن(لأجيء) تكريمها. هي بهذا التكريم اعترفت بأهمية منجز مظهر الفائقة. بعد أن اعترف بها الآخرون وبجدارة.
نحن بانتظار ان نشاهد ثلاثة عقود ونصف من مسيرة هذا الفنان في الواحد والعشرين من هذا الشهر, على قاعات متحف(دالاراناس) في مدينة(فالون) السويدية. والتي تعتقد المؤسسة الراعية بأنه سوف يوفر إمكانية استقصاء جهد هذا الفنان عبر رحلته الفنية, منذ أن كان طالبا في عراق السبعينات ومن ثم بولونيا في الثمانينات وحتى احترافه منذ التسعينات في السويد. وسوف يكون درس الخبرة واضحا بالتأكيد.
ولد مظهر في(14) مارس من عام(1956 ) في بغداد. أقام معرضه الشخصي الأول في وارشو
, ثم استمرت معارضه الشخصية ومشاركاته الجماعية الدولية بعد ذلك في العديد من دول العالم, والتي حصد فيها العديد من الجوائز المتقدمة, وكواحد من طليعي فن الكرافيك عالميا. وهو الان مدير ورشة كرافيك فالون في السويد.
..................................................................................................................
علي النجار مالمو 2012