ما بين الشارع والمتحف ... المسافة التي تقول الحقيقة عبر الفن

المقاله تحت باب  فنون عالمية
في 
03/10/2011 06:00 AM
GMT



ما بين الشارع والمتحف ... المسافة التي تقول الحقيقة عبر الفن

في متحف هامبورغر بانهوف - برلين، فيما كنت أنقّل نظري بين أعمال فناني تيارات ما بعد الحداثة تساءلت في نفسي مرات عن الآلية التي تعمل من خلالها المؤسسة الفنية في الغرب من أجل أن تكون حاضرة في قلب المشهد الفني المعاصر، بكل ما يميز ذلك المشهد من حراك ملتبس. فقبل سنوات قليلة أثار استقبال متحف اللوفر بباريس أعمال الفنان انسليم كيفر ضجة كبيرة بين الاوساط النقدية والاعلامية. ذلك لان اللوفر لا يستقبل أعمال الفنانين الاحياء. وكما يبدو فقد اقتنع مسؤولو المتحف الفرنسي بأن كيفر (المولود عام 1945) قد انجز فنياً ما يؤهله لكي يُستثنى من تلك القاعدة الصارمة. الخطوة التي اعتبرت في حينها تكريماً مبكراً يدفع بالفنان الالماني الى الوقوف جنباً إلى جنب مع الخالدين. ذلك الاستثناء ربما لا يتكرر إلا بعد عقود. كان سيزان يردد: «حلم كل فنان أن تذهب أعماله يعد موته إلى اللوفر». وهي مقولة واقعية قياساً لما يوحي به المعنى التقليدي لفكرة المتحف.

غير أن احوال المؤسسة الفنية الغربية قد تبدلت منذ عقود. فها هو تيت بريتان يخصص واحدة من أكبر قاعاته لعرض أعمال واحد من أكثر دعاة الفن اثارة للتساؤل هو داميان هيرست (ولد عام 1953) وقد لا تكون مصادفة أن تكون تلك القاعة مجاورة للقاعات التي تعرض فيها رسوم تورنر، أعظم فناني بريطانيا على الاطلاق. بين نعجة هيرست المحنطة في صندوق مائي وصيدليته بخزاناتها الجاهزة والتي احتلت جداراً كبيراً وبين روائع تورنر مسافة يمكن للكثيرين (حتى من بين نقاد الفن) وصفها بالمسافة المستحيلة التي تفصل بين الفن واللافن. ولكن هيرست وفقا لبيانات الصالات والمزادات الفنية صار يبيع ومنذ سنوات أعماله بملايين الدولارات. ولكن هل كان ذلك سببا كافيا لأن تشغل أعماله ذلك الفضاء الواسع من المتحف البريطاني العريق؟ طبعا لا. فلقرار المتحف أسبابه الأخرى التي تتعلق بمفهوم الحيوية والعلاقة المباشرة بما تشهده الفنون البصرية من تحولات سريعة في عالمنا.

ولو أن متمردي الدادائية (حركة فنية انطلقت في زيورخ عام 1912) قد اتيحت لهم الفرصة لرؤية ما يجري الآن، لسحبوا دعوتهم إلى هدم المتاحف وأحراقها. بل سيكون عليهم أن يندموا وهم يرون رسوم بيكابيا وهانس آرب معلقة باحترام في غاليري برلين، حيث يحرص ذلك المتحف على أن يكون سجلا صادقا لكل ما شهدته المدينة من حراك فني. وإذا ما كانت الدادائية قد ذهبت إلى التاريخ، وصارت حقلا متاحا للبحث النقدي ـ الاكاديمي المتأني، فإن المتحف نفسه قد اتجه إلى عرض الكثير من التجارب الفنية الجديدة وبالاخص ما ينتمي منها إلى فن المفاهيم.

وإذا ما عدت إلى متحف هامبورغر بانهوف فان رؤية أفلام ماريا ابراموفتش (بتقنية الفيديو) كما لو أنها صارت أعمالاً تأريخية، قد أحدثت لي صدمة كبيرة. صحيح أن هذه الفنانة اليوغوسلافية (غادرت ذلك البلد يوم كان قائماً وموحداً) صارت اليوم مكرسة من قبل قاعات العرض والبينالات الفنية العالمية، غير أن شكاً نقدياً لا يزال يحوم حول فن الفيديو، وهل هو بحق لا ينتسب إلى السينما مثلا؟ سؤال منسي قد يتحول في لحظة مراجعة تاريخية إلى واقع حال. كل الحقائق الفنية اليوم قابلة للدحض والنقد والمراجعة. ولكن المتاحف كما يبدو لي قد قررت المضي قدما في عملية الاستيلاء على ما يمكن أن يُسمى فنا. ولان المتاحف مرجع لا يمكن الاستهانة به، في مجال دراسة التاريخ الفني فقد صار علينا أن نتوقع قدراً عظيماً من الاحباط لدى الباحثين في المستقبل، ممن سيعودون إلى عصرنا، فلا تقع بين أيديهم من الآثار الفنية إلا ما تشير إلى خفتنا. باعتبارنا كائنات استهلاكية.

الخفة الاستهلاكية

صارت المتاحف تستلهم في حيويتها خفتنا الاستهلاكية. فهل مضت بنا إلى الأسوأ؟ حين نرى طوابير السائحين الطويلة وهي تقف في انتظار الدخول إلى المتاحف سنجد عذرا لتلك المؤسسات في ما ذهبت إليه من أحكام وتقييمات فنية. ليس هناك أي نوع من الارتجال. الحياة داخل المتاحف الفنية لم تعد مرآة لما يجري في القبور. يمكنك أن ترى في المتحف الشارع الذي أتيت منه مرة أخرى. حتى فنانو الكرافيتي صار لهم مكانا على جدران المتاحف. «اضرب واهرب» كان ذلك هو شعار فناني الشوارع ولايزال، فالشرطة تقف بالمرصاد لهم، لما يلحقونه من ضرر بالمشهد البصري للمدينة. غير أنك ما أن تدخل الى متحف هامبورغر بانهوف حتى تواجهك صورة كبيرة من هارنيغ، وهو فنان شوارع مات ولما يبلغ الثامنة والعشرين من عمره. ربما يكمن السر في تبني (أندي وارهول) لهذا الفنان مثلما فعل من قبله مع باسكيات، الذي مات هو الآخر مبكرا وكان من فناني الشوارع وصارت لوحاته تباع بالملايين. ألا يعني هذا أن عيون مسؤولي المتاحف صارت تنتظر ما يجود به الشارع عليها؟

أخشى المبالغة حين أجيب بالايجاب. فعبقرية العرض في تلك المتاحف هي في حد ذاتها، تعبير عن كفاءة في استلهام ما هو فني، حتى وان كان ما يعرض لا يزال موضع استفهام نقدي. سيكون علينا أن نبحث عن الأسطورة بين أقدامنا، في الجدران التي تقع عليها نظراتنا العابرة. لم تعد المتاحف حكرا على الخالدين. صارت أيضا فضاءا لمزاج عابر، لن نقوى في كثير من الأحيان على فهم تحولاته وتقلباته.

غير أن المتاحف وهي الفصل الأخير في حياة العمل الفني لا تزال تهب العمل الفني الذي تتبناه ملمحا رمزيا. فحتى اللحظة لا يزال المتحف مؤهلاً للذهاب بمقتنياته خارج سلطة زمانها. إنه مكان للخلود المطلق.