الخيال في الفن الحديث

.

المقاله تحت باب  فنون عالمية
في 
08/04/2008 06:00 AM
GMT



اتخذ الفن الحديث سمة جديدة عام 1924م وأصبحت له أهمية كبرى في توجيه الحركة الفنية الأوربية، إذ ظهرت السوريالية أو (ما فوق الواقعية) لتوفق في نظرتها للعالم والأشياء ما بين طروحات "ماركس وفرويد". وقصد الناقد "جيروم أبو لينير" استخدام هذه الكلمة من أجل تفسير عملية التنقيب التي زاولها بعض الفنانين من أجل البحث عن أصدق مظاهر الحقيقة عن طريق الاتصال الروحاني، بوصفها (تركيبا لتجربة تضع في حسابها بنية كل مظهر من مظاهر الحياة العقلية، وقد يمكن بسهولة إظهار مقدار ما يدين به فن الماضي إلى مناطق العلم غير المسلم بها).
وهي منطقة بحثها عن الحقيقة التي تكمن في مكان آخر آخذة من الخيال الحر منطلقاً لها لا لابتكار جديد عن طريق التأمل فيما يراه الفنان السوريالي من حقائق يصل بها إلى مراتب أعلى،

بل لينقل إلى عالم المرئيات صوراً من عقله بوصفها صور ما فوق الواقع، من أجل إبراز إنسان كلي ومكتمل كونها نظرة شمولية للحياة، وليست قواعد تضبط الأنتاج الفني. وبهذا فأنها فعلت مثلما فعل الأقدمون والمحدثون من الفلاسفة مثل (أفلاطون وهوسرل) في نظرتهم الكلية للأشياء وتأسيس علم كلي يقيني في التقصي، والنظر إلى الأشياء مجتمعة وبكلية، على الرغم من انحدارها نحو المثالية، لكن السوريالية مثالية أيضاً في ضوء فعلها من داخل الذات، لذا فأنها متأثرة تأثيراً عميقاً بديالكتيكية ماركس المادية على حد قول "أندريه بريتون "وأنها أقتبست، على وجه الخصوص من ماركس، منطق "المجموعية" الذي أقتبسه بدوره من "هيغل".

لذا أعلن السورياليون قطيعتهم مع المجتمع القديم وأسسه كلها وأخلاقه وجماليته (والهدف هو تحقيق الإنسان الكلي في وحدة متكاملة، بين الوعي واللاوعي، والمنهج الذي سلكوه هو الاستكشاف المنظم والعلمي للاوعي عبر تجارب متنوعة مثل الحلم والجنون والخيال وحالات الهلوسة والوهم). أي أنها ترتكز على الايمان بالواقع الأعلى لبعض أشكال الجمع التي كانت مهملة قبلها، وعلى قوة الحلم الخارقة ونسبة الفكر المجردة. من هنا فإن الاستسلام للآلية (التلقائية البريتونية) يتيح هذا التوغل إلى داخل الذات، نحو ميدان الغرائز، والرغبات المكبوتة، وهو ميدان يتخطى أرض الواقع. فالفن كان ولا يزال أحدى وسائل التعبير عن الحالات النفسية العميقة، والذي هو تقدير من الوجهة الجمالية للآثار الموضوعية، التي هي ليست سوى لمحة عن ذاتنا الحميمية.

ويؤكد "بريتون" دائماً ان الفنان بعدما يترك ذاته مستسلماً لخياله الحر عليه أن يعود إلى واقعه ليغني ذاته بالاكتشافات الحاصلة خلال شططه، من هنا لجأ السورياليون إلى إكتشاف "فرويد" الذي عقلن اللاشعور، فقضى على المعتقدات الروحية وأكد أسطورة الهرب إلى كون مفترض بالأصوات السحرية الخفية التي تنبع من اللاشعور. هذا المنهج الذي يجد مقارباته مع تيارات الفكر الحديث، إذ يصل مع الفينومينولوجيا إلى إنكار الصورة كصورة واستبدالها بالحرية والفعالية ذات المعنى بشعور متصور، والسوريالية تشارك لأعلى درجة ممكنة بهذا الفكر الجديد، والخيال لديها أكثر من قوة محققة، بل هو قوة رفض، وإزالة صفة الواقعية وانتخاب واختيار ومعنى وفهم، حيث يرفض الخيال السوريالي المعطى ويزيل واقعيته وتنتخب الرغبة في الحياة اليومية ما يرضيها وعندما تتحطم الأطر المنطقية للإدراك تصبح التقريبات مسموحة وهي منابع للنور.

وقد شيد "بريتون" رؤى السوريالية على مبدأ الحرية حين قال "لا يزال كل ما يثير حماستي هو كلمة حرية لوحدها" حرية الذات الحقة، الذات البكر التي تستمد وجودها من الينبوع الصافي للوجود الحقيقي، هي الذات الحرة أقصى درجات الحرية، الحاملة مسؤوليتها بكل ما تضمنه من خطر أو قلق أو تضحية، والحرية إذن رمز الألوهية في الإنسان.

ويؤكد "ريد" شكه في أن السوريالية لم تكن ظاهرة للوجود لولا إكتشافها لـ"سيغموند فرويد"، فبمجرد أن وجد "فرويد" مفتاحاً لتعقيدات الحياة في مادة الأحلام، وجد "السوريالي" أفضل إلهام له في الحقل نفسه، والمسألة ليست في إنه يقدم تمثيلاً صورياً لصور الحلم، فهدفه على الأغلب أن يستخدم وسيلة تساعده على التقرب من محتويات اللاوعي المكبوتة، وبعدها يمزج هذه العناصر بحرية مع الصور الأكثر وعياً، بل حتى مع العناصر الشكلية لأنماط الفن الاعتيادية، إذ (تتحول الأفكار اللاواعية إلى صور، لأن الحلم إنتاج بصري يفرض نفسه على الحلم كمشهد حالي. فالأفكار الأكثر تجريدية تمر ببدائل مصورة، وعندما يحلل "فرويد" إجراءات التصور في الحلم فهو يستعين دوماً بتقنيات الرسم). وقد توصل "باشلار" إلى مفهومه عن الصور Images وحلم اليقظة كونه مزيجاً بين الذات والموضوع حين قال (أنا أحلم، فالعالم إذن موجود كما أحلمه).
فالسوريالية ليست على وجه التحديد فن اللاوعي، أنها فن بلا أي نوع من الحدود، تكمن فكرتها الأساسية باستخدام الوسيلة التي دعاها "بريتون" هبوطاً دوارياً إلى أعماق ذواتنا "بوصفها نزعة تهدف إلى تجميع مظاهر المرئيات المتعددة في لحظة خاطفة" انها تؤمن بأن هناك ينابيع خفية في اللاوعي يمكن تحرير محتوياتها إذا ما أطلقنا العنان للمخيلة عندما يكون الفكر تلقائياً وعند ذاك يتآزر الإدراك مع الذاكرة، وتختلط صور الواقع بصور الأحلام، وتنضم العاطفة إلى العقل وتسند ذلك كله إرادة فنية نصبت غاية لها تحقيق أثر فني. وأن للصورة المتخيلة جذوراً في الذاكرة وعندما نقرن الخيال بصورة مخترعة كلياً نعني بها التأليفات المركبة من عدة عناصر، كأن نتصور إنساناً له جناحان فالإنسان ذو الجناحين ليس له وجود بما هو كذلك، لكنه موجود بعنصرية الإنسان والجناحين ولكنهما لا يجتمعان إلا في الخيال.

ولكي يدلل السورياليون على أن اهتمامهم يتجاوز مشكلات الشكل واللون، لم يترددوا في استخدام الأشكال الأكاديمية القريبة من الواقعية، فهم واقعيون في تفصيلاتهم، لكنهم لا يجمعون صورهم في تكوين واقعي أبداً، بل هم كما في الأحلام يترجمون هواجس وتضمينات اللاوعي، بوصفها خلقاً يتعدى الواقع المكشوف إلى الواقع المحتجب. فالواقع الذي وراء الواقع هو اللاوعي، هو الحقيقة العامة الشاملة التي ينطوي عليها كل حلم بواسطة تكثيف الصورة التي يقول فيها "سلفادور دالي (1904-1993) (في الرسم يكون الكشف والتجديد من خلال الصور اللاعقلية، من خلال تكنيك يمكن اعتباره الوسيلة النهائية للأنسجام بين الفرد والكون).

وكان طبيعياً أن لا يندفع "دي كيريكو" (1888-1971) في موكب التكعيبيين وهو يملك هذه الذخيرة الفنية، وانشغل بالتعبير عن جوهر الأشياء، وربط أجزائها ليكمل بعضها بالبعض الآخر، فلم يكن يرغب في إنشاء مثالي بقدر ما كان يهتم بالبحث عن العلاقات التي تبدو غريبة أو غير متوقعة بين مجموعة أشياء يكفي أن تثير تأمله فينطلق بها في حرية لا حدود لها ليعيدها إلى أشكالها الهندسية. ومن أقواله نستنتج أن الإحساس الجيد بالشيء المألوف لا يتأتى عنه عمل فني خالد، ولابد للفنان من أن يتعدى حدود طاقته الحسية الواعية. وبهذا يكون قد سلك طريق الفن الذي يستلهم مادته الأولية من عالم الرؤى وما يكتنزه العقل الباطن من صور. بينما وجد في دراسة مناظر الطبيعة والأشياء والأشخاص عن طريق التأمل الروحي في سكون الوحدة ما ساعده على كشف الأسرار على هيئة أحلام، ولم يكن الرسم أداة لتحديد صور الخيالات السريعة الزوال وإثباتها، بل كان وسيلة لتكبير اشتباكه الروحي مع ما يبدو له من صور في غفوته وأثناء طوافه في عالم الأسرار الغامضة وتوضيحها.

وهكذا فإن "خوان ميرو" (1893-1983) عندما يرسم رموز الأحلام ليحرر نفسه من الرقابة، ويضع اللاشعور واللاعقلانية فوق الوعي والعقلانية، فإنه يقوم بتحرير الأصطلاحات التشكيلية التقليدية لممارسة حريته الكاملة وصياغة لوحته التي حشد فيها الرموز المجردة، إذ يقول أن الأشياء التي أراها هي أشياء حية (السيكارة وعلبة الكبريت، المنضدة، الكرسي) فهي تمتلك حياة سرية. (فالسوريالية ثورة النفس على سلطان العقل ولا تنطق إلا بالرموز المغلقة في لغة نفس الأعماق). ويذهب "بريتون" إلى ان السوريالية قائمة على الإيمان بالحقيقة السامية لأشكال معينة من الاقتران كانت مهملة حتى الآن بسطوة الأحلام، بتلاعب الفكر الحر. وأنا أؤمن بالحل المستقبلي لهاتين الحالتين المتناقضتين في الظاهر (الحلم والحقيقة) هو نوع من الحقيقة المطلقة أو الحقيقة العليا.
وهنا نصل إلى جوهر السوريالية الكامن في التوحيد بين التناقضات الموجودة مثل الوعي واللاوعي، والحلم والحقيقة، الداخل والخارج، ولعل "هانس آرب" (1887-1966) أول من صرح بهذه النزعة وسعى للبحث عن شكل أولي للفن، وخلق نظام جديد باستطاعته أن يعيد التوازن بين الإنسان وواقعه، وهي المحاولة التي تصف الحقيقة الداخلية والخارجية، بوصفهما عنصرين في طريقهما إلى الاندماج ليصبحا حقيقة واحدة، يصبح الإنسان فيها متصالحاً مع نفسه ومع العالم، ويصبح العالم الأصغر الداخلي ملخصاً للكون الشمولي، وهكذا تصل "السوريالية" إلى هدفها الأساس وحدة التناقضات والتوحيد بين الذات والموضوع، العالم الخارجي والمعرفة الداخلية التي يمثلها الحلم على أن يستمد جميع عناصره من الواقع.

إن احتضان الواقع المتعدد للعناصر جميعاً في مبدأ أعلى يسميه "بريتون" (النقطة العليا) يحددها بقوله (كل شيء يدفع إلى الاعتقاد بوجود نقطة روحية ينعدم فيها التناقض بين الحياة والموت، الواقعي والخيالي، الماضي والمستقبل، ما يمكن إيصاله وما لا يمكن، الأعلى والأسفل). ويصف هذه النقطة بمثابة مكان يتلاقى فيه الكون الداخلي – الذاتي، والكون الخارجي – الموضوعي. في هذه النقطة تتجاوز المثالية التي تنكر الأدنى باسم الأعلى، وتتجاوز المادية التي تنكر الأعلى باسم الأدنى، والأعلى والأدنى هما في هذه النقطة متساويان، أنهما تجليان لمعنى واحد، إنها نقطة تؤلف بين الأشياء، وتوصف هذه "النقطة العليا" بأنها واقع أعلى، ليس الواقع الذاتي والموضوعي إلا تجلياً له. وبهذا لا يمكن رد السوريالية إلى النزعة الذاتية أو إلى النزعة الموضوعية ولكنها "نوع من الواقع المطلق " كما يراها "بريتون"، الذي يفسر إلتقاء الموضوعية بالذاتية في جو رائع، ويجري تركيب الحاضر والمستقبل في المتخيل، إذ من السهل التعرف في هذه الظاهرة عن تجلي هذه الضرورة وهي الانعطاف نحو الماهية كما يعانيه الفرد كل مرة يكون فيها وجوده في وضع خط وحتى كل مرة يغامر بخطه الفردي في إطار هذا الوجود.

نستنتج مما تقدم أن السوريالية نزعة مثالية تجاوزت الواقع إلى ما فوقه لتصبح نوعاً من الواقع المطلق وتجاوزت حدود العقل إلى اللاعقلانية، كونها نظرت للحياة نظرة كلية شمولية من أجل إبراز إنسان كلي مكتمل لتلتقي مع ما ذهب إليه "أفلاطون" والظاهراتية فيما بعد، ولم تكن يوماً فقط قواعد تضبط العمل الفني، على الرغم من تطبيقاتها الفنية المختلفة والتي اعتمدت مبدأ الخيال الحر واللاوعي ومادة الأحلام، وبهذا أصبحت منهجاً توفيقياً عندما مزجت الخيال بالحرية وبمادة الأحلام لإيجاد منهج مشترك يحكم آلياتها الفكرية وتطبيقاتها العملية، وهي تقترب مع رؤى "باشلار" في نظرته للخيال وكوجيتوه الحلمي، فضلاً عن أن الحرية مفهوم استندت إليه فلسفة "سارتر" الذاتية. كما أن السوريالية بحثت عن الحقيقة التي تكمن في مكان آخر خارج حدود الواقع الفعلي حسب تعبير "بريتون" فكانت منطقة بحثها في الخيال والأحلام واللاوعي لتأسيس عالم خيالي مفترض تدين له، ولكنه يحتفظ بقدر من المساحة مع الواقع الفعلي يظهر من خلال الرموز المتحققة في أعمال "دالي" و"ميرو" وآخرين