يعد الفنان د. عاصم عبد الأمير احد رسامي ونقاد جيل الثمانينيات العراقي من القرن المنصرم الذي يتخذ في لوحاته / نصوصه البصرية ، ونصوصه النقدية ملامح تمايز عن أقرانه ومجايليه المشتغلين في الحركة التشكيلية العراقية ، وبحصاده الجمالي والفني والفكري لانجازاته في سنين حياته الممتدة والشاقة ، فان تلك البيادر ترسم افقآ بيانياً متصاعداً في تطوره الشكلي / الفني لتجربة ذات مساحات أسلوبية عريضة، تحدد طبيعة خطابه الفني والجمالي والنقدي في مرحلة زمنية /فنية/ فكرية / اجتماعية / سياسية / نفسية مر بها الفنان وحاضنته الاجتماعية.
قاد الحلم والتخيل والأماني حضارات الإنسان وانجازاته في مختلف المجالات بها بدأت عجلة التقدم المدني تدفعه للمضي قدما في ولادة أولى مدنه الحضارية وأولى الطقوس الدينية والنظم الاجتماعية العالية بتمظهرات ممتزجة بالأشكال والسلوكيات المختلفة و هذا نفسه المحرك الذاتي الأساس لكل الفنون ومنها بالطبع الفن التشكيلي ليطبع حياتنا وطريقة التعامل معها أهم السمات والممارسات الجمالية التاريخية والى يومنا هذا فطبع طابعة الإنساني/ الجمالي/ ألحلمي في كل أشكاله: (عمارةأزياء مدن أدوات منزلية أثاث صور فوتوغرافية تماثيل مسرح رقص طقوس دينية واجتماعية...) وبدا الإنسان معه منسجما ومندفعا مع كل الفتوحات والإبداعات التي جاء بها الفن التشكيلي في أشكال مادية ما زالت حاضرة معنا تشكل وجودنا الآخر( الشيئي/ امتداد الذات وموضوعها- معرفتها/ المادي _ تقدير الذات/ الشخصية) وهو المحرك نفسه للآثار الفنية للفنان والناقد والأستاذ(البروفسور) الدكتور عاصم عبد الأمير الذي قادته إلى تبني إشكاليات سمات منهجه ووسم نتاجه سعيا محموما انسجم مع دلالات فكرية ووجدانية سيطرت عليه مدة زمنية تكاد تكون حياته نفسها ، فالأفكار الإنسانية والدروس التي يدعو لها شفاهاً وتدويناً والممارسات الحياتية التي يبثها وتبثه ، تلتقي في أفق أشكاله وتكويناته الخطية واللونية والفضائية والعلامية .
منذ أن عرفت د. عاصم عبد الأمير في أواسط الثمانيات ولليوم لم أجده هادئاً مطمئناً أو ماسكاً خيوط السكينة ، بل إن قلقاً وصخباً نفسياً أمسى جزء من همه الوجودي ومشروعه الفني الذي يحاول انجازه ، فضلاً عن مشاريعه النقدية والجمالية المزدحمة الذي لا ينفك يومياً عن مشاغلتها و مشاغلته ذلك القلق والصخب النفسي جعله شغوفاً بالجدل والتغيير والتمرد ، دفعه لان ينغمس في حياته متاهات من أنواع وأجناس مختلفة ، ويكاد يكون القلق/ التمرد موضع اهتمام نفسي قار للتعبير عنه أينما حل ، وجعله قريباً من الجدل والتجريب والتغيير المستمر، بل أصبح أس صيرورة تهوى مثابرة الرسم والكتابة معاً ، وسخونة محاضراته في الجامعة ، دون أن يكون علاجاً للقلق وحماسته.
القلق عند عاصم عبد الأمير لصيق أحلامه وحاجاته الماسة إلى مساحات وشواطئ لبوسه الفكري والنفسي ، فالفكرة ( أية فكرة شكلية / فكرية) عندما تصطاده تأخذه بشباكها تماماً ، تنسيه أفكارا أخر كانت أن أغوته معها من قبل ، فالفكرة إن كانت مكتوبة أو مرسومة أو معاشة ، فهي تلاوة وتجديف لما يعانيه من حالة القلق للتعبير عنها باقترابه منها وليس بالابتعاد عنها أو التحرر منها !.
تنسجم أشكال عاصم عبد الأمير مع ذاته /قلقه / تمرده في سعي لبناء عالم/ جنان / مدن تسكنها السلام والطمأنينة ، سعي يتخذ من البراءة عيناً / خطاباً ينفذ منها / بها إلى عالم مجهول يضمه ويضم مدنه / عوالمه / شخوصه . والتفكيك التي يجريه محاولات مستمرة لتشييد ذلك العالم المقترح ( الساكن – القلق ) المسكون بخيالاته وأحلامه ، عالم مفعم ومدجج بالغلظة والعنف ، وفي الوقت نفسه مقترح عين: ( البنية التحتية للفنان / الحلم / الخيال / القلق ) عين يوقظها بالاستعارة والتناص الشكلي والنفسي (التجريد والتعبير) في رسوم الأطفال من أعمار مختلفة= (دلالة نكوص/ حرية/ امتداد الاجتماعي/ حلم / تخييل / براءة / قلق نفسي/ شك) ، أي انه وبكلام آخر يرسم قلقه وهلعه من عالم موحش مرات ومرات( دلالة صيرورة القلق= الزمان النفسي : الآني -المستقبلي ) من وجهة نظر الاستعارة والتناص ( وعين أقنعة الفنان فيما بعد) ، وجهة نظر أكثر الكائنات براءة / محبة / سلام/ نقاء / طفولة الإنسان / علاقة الفنان بالمتلقي فيما بعد.
اللوحة جامحة وموحشة لا يمكن السيطرة على بياضها بسهولة ( وهي عنده كذلك )فلابد من جولات الترويض والمهادنة والإغواء ،ولابد من ولوجها وحرثها مرات ومرات دون أن يقدم / يستحضر الفنان ولو لمرة واحدة ما ستكون( = ما في المستقبل) ، وما يتشكل فيها ومنها ، (دلالة القلق / اللعب / التغيير / عدم الاطمئنان) ، والآلية هذه تنسجم مع مفهوم القلق الوجودي والفكري له، انعكاساً لما يعيشه الفنان / الإنسان حياة يسودها عدم الاطمئنان من الحاضر والمستقبل( مثلما عاشها في سنين حياته الأولى) انعكاساً لفترة الحرب التي عاشها الفنان سنوات خدمته العسكرية في حرب الخليج الأولى ( العراقية الإيرانية) والحروب الأخرى التي لحقتها والتي تجد صدى نفسياً عميقاً في نفسيته وسلوكياته الحياتية والفنية المختلفة ، وتنسجم مع الآلية والمنهج الجمالي الذي حاول التعبير عنه بتبنيه اللعب الشكلي الحر والاستعارات والتناصات الظاهرة والتملص منها في الوقت نفسه . وروح الطفولة تستجيب و تطاوع منهجه واشتغالاته ، وعملية التخلص من الرغبة / القلق/ الاشتهاء والعودة المستمرة لها (الصيرورة الوجودية) التي لا تتم إلا باللعب وآثاره المرتجلة عبر صفحاته تمرحلاته وتجلياته: (النفسية والشكلية والعلامية).
رسوم عاصم عبد الأمير تتبنى خطاباً بصرياً قوامه النشوة مثلما هو عالم البراءة والطفولة وفضاءاتها في بنيتها الفوقية البصرية / الخطاب الأول / النافذة السلوكية والنفسية والبصرية للتذوق ، وبنيتها العميقة / الخطاب الآخر / الوجودي/ألتأريخي / القرائي ، التي تتشكل عبر دلالات ومدلولات فقدان و خسارات عرفها وعاشها أصابت بنيته الذاتية في الصميم ، فالخطوط القلقة / التعبيرية / المترددة ، والألوان المرتجلة / اللاغائية في بنائها الأول/ الفوقي ، والسرعة ولدت قيم تعبيرية/ دلالية تنسجم مع المرجل الداخلي للفنان ومحمولات الأشكال الوجدانية ، وهو يتعامل بحذر وريبة مع دخول الطارئ من الأشكال ، فيهرول مسرعا لتغطيتها عبر الارتجال والعنف الأدائي / القني (=دلالة اغتراب) ، يتعامل معها على أساس أنها بنيات أو اخفاءات يتملكها قلق مستمر ، تذوب في معالجات السطوح (البصرية والقرائية / مدوناته) للفضاءات والألوان والخطوط . وبالتالي لا يريد لخطابه البصري والقرائي إلا أن يكون قريباً من المناطق الشفافة واللينة عند المتلقي / القارئ/ الفنان ، مناطق البراءة والحلم والأماني .
لقد انصب اهتمام عاصم عبد الأمير على واقعة التماهي والحدث / المصادفة مع الأشكال العفوية والفطرية لرسوم الطفولة عبر الامتداد مع فضاءات الذات وذكرياتها (أحلام واللعب المدينة الهانئة والحانية أيام طفولته) وطرق استحضارها على السطح التصويري تأثيرها على المتلقي ، وقبل هذا تأثيرها النفسي عليه بما تحويه من دلالات بصرية ومدلولات نفسية ، وخطابة القائم على إيجاد صورة مادية للقلق والاغتراب من فقدان الإنسان لبراءته / سلامة / وجوده / قيمته/ حضارته / مدنه / سنوات حياته . انه يمتد من عالم خيالي/ طفولي لم تعزوه بعد شرور العقل والرياضيات والتكنولوجيا الصلدة والسلطة (الأبوية/ الدينية/ الدولة) !!. وإذا كان القلق هو سفر المجهول إلى عالم مجهول ، فان رسومات عاصم عبد الأمير سفر القلق إلى مجاهيل الأحلام والأماني واستذكار / بكاء / الطرق البراءة /اللعب / أماني الطفولة.
ليس المهم في اللعب أن تنتظم الأشياء أو أن ندقق فيها، طالما أنها ستنتهي بالمتعة، وطالما أنها ستنتهي ( = تنهي توهماً) القلق الذي دفعنا له ، فان الفنان لا تهمه أن تتبعثر الأفكار في الأشكال / الخطاب / المدونة البصرية / التكوين. فالعالم نفسه الذي يقلقنا تتبعثر فيه ونغيب ويتبعثر فينا ويغيب، وتتبعثر فيه وتغيب الأماني والحروب والكوارث والهمجية ، وغباءات التأريخ !!. ومن هنا أعاد عاصم عبد الأمير الكَرةَ لبعثرة العالم من جديد ليكون معادلاً للقلق الذي لا يأخذ لنفسه نظام أو ماهية مادية ، فهو وان كان دافعاً فهو بالوقت نفسه أمنية واشتهاء وحاجة ( وكأنه يذكرنا بمقولة شبيه الشيء منجذب إليه) فيتساوى الاشتهاء والحاجة مع الخطوط والفضاءات المترامية مع الذكريات والأزمنة الغائبة ( دلالة تغيب الزمان الحسي بفعل فعالية التخييل والاغتراب) لمدلول أنساني واسع وعميق ، فالحس الإنساني أكثر شمولية وإطلاق مثلما هو أكثر نسبية وشكوك ، فهو مطلقاً في جوهره وتخطيه شواطئ العقود والزمان قبل تدوينه ، ونسبي في حدوده المادية والشكلية وتأثيره الوجداني وفعله القرائي. فبنية الخط في رسومات عاصم عبد الأمير تتلاءم مع تلقائيته وعفويته وتجليات ذاته المعرفية ومجازاتها وعجينتها، فهي خطوط مرتجلة ، سريعة ، قلقة / مغتربة تمتد مع فعل اللعب الشكلي والنفسي الحر، الخط عنده يلعب وينتشي يتحرك ويضرب بقوة سطح اللوحة يدون ويمسك بناء التكوين والخطاب وتضاريسه ،البنية نفسها التي تمتلك النظام الفضائي للوحة والذي يتبادل الدور مع البنية الخطية .
يبنى فضاء اللوحة في رسومات عاصم عبد الأمير -في جله-على أساس تجريدي محض دون العودة إلى ما تقره الأشكال الخطية للكائنات ( الأشخاص ، الحيوانات ، النباتات) التي تتسم بأنها ذو بنية خطية ، والفضاء ( أللاحسي) ذو دلالة منفتحة على التأويل ، فهو وان كان مزدحم في الكثير من لوحاته إلا إنه يبقى مدلول لرحابة فضاء الحلم / الأمنية/ اللعب/ اتساع الأمكنة ، إشارة إلى البيئة العراقية المفتوحة للقرى والمدن العراقية على الفرات مدينة ذكريات طفولة ذاته.
إن علامات عاصم عبد الأمير ذات مرجعيات تتبادل الأدوار مع أفكار الخطاب وتحولاته البصرية ، المدلول فيها متحرك / لعوب ، لا ينفك من اللعب مجموع الدلالات والمدلولات الأخرى التي تزدحم وتتداخل وتتشاكل و تتحايث في حوار وجدل بصري وعلاماتي حاد. فالنص البصري عنده يقوده اللعب بالعلامات والأشكال، وعلاقات فعل البناء والهدم القلقين بفرشاة تتلاعب في الخطوط الداكنة القاتمة والملونة تثري النص وتثبت فيه نوع من الاشتباك البصري والدلالي بنزعة تعبيرية / وجدانية واضحة. فالحركة عنده تنقسم إلى : حركة لونية ، وحركة خطية ، وحركة فضائية وفيما بعد حركة دلالية /قرائية / تخيلية . لذلك فان ما يتحرك داخل النص البصري ليس سوى ترديد أمين لقلق صاخب احتوى الفنان ويحتويه أثناء التماس مع اللوحة ، في بنية اغترابية ، فهو قلق يشير إلى صيرورة اغترابية وجودية تنمو ويتصاعد صداها مع نمو العمل ومع نكوص- تسامي غلف حدث العلاقة السرية مع اللوحة أثناء الرسم عبر فعل الرسم وضده وحاول إيصاله عبر الأشكال المرتجلة والاقتراب من الحياة / الحلم/ البراءة / النص وإشكالية علاقته مع الآخر بمدلولاته المتحركة: لعبة القفز على الحبل(= القفز على الزمن) والركض مع العجلة (= الركض خلف الزمن) وعازف الناي( = الحنين إلى زمان ماضي) بمرجعياته التاريخية والنفسية والذي يتناص مع شكل تردد في لوحة لجواد سليم ولوحة لفائق حسن والاغتراب الآخر هو لحظة مواجهة الفنان السطح التصويري ومحاولات تأثيثه وبث حياته الخاصة فيه والتخلص من عدمية اللاشكل (السطح الأبيض) التي تسبق المواجهة ، فذاكرة الفنان ممتلئة ومزدحمة بتناصات وأشكال تسبح في ذائقة الفنان / لاوعيه / خزينه الذوقي فذاكرة التناص لا تنفك إعجابا / تناصاً / اختلاساً فنياً ، مع بول كلي ، بيكاسو ، خوان ميرو ،( الآباء الحقيقيين لأغلب التجارب العراقية فيما بعد )، فلوحات جواد سليم وفائق حسن ، إسماعيل فتاح الترك ، وفيما بعد فاخر محمد ، هاشم حنون ، هي لحظات شد وقلق ( في تجربته الأخيرة) تدفع الفنان اغتراباً وتعالياً للتخلص منها عبر التردد على السطح مرات ومرات للامتداد معه بما يحقق للفنان شخصيته / خطابه / قلقه المعلن/ تأريخه/أمانيه.
أشكاله ذات الوجوه الدائرية والعيون الواسعة والأنوف الطويلة هي تناصات واستعارات من الفن العراقي القديم ( السومري خاصة) والفن الإسلامي ( تجربة مدرسة بغداد في رسوم الواسطي) وبمعالجات وظفها الفن الأوربي الحديث ووظفها الفن العراقي في تناصاته المختلفة. ويلتقي قلق الأشكال الحاضرة وخطابها في تجربة الرسم العراقي الحديث بأغلب النتاجات الفنية في العراق القديم. وهي سمة تكاد تكون فريدة عن النتاجات الأخرى للشعوب والحضارات الأخرى فالقلق والدهشة والحيرة تمكنت من الأشكال وطبعتها بطابعها الخاص.
أما البنية اللونية لنصوص عاصم عبد الأمير فان التجربة الأخيرة للفنان آثرت اقتناص التداخل العنيف للتضادات اللونية ما بين ( الفاتح – الغامق) و ( الحار – البارد) ، للتخلص من اشتغاله على الانتقالات اللونية المتجاورة التي سيطرت إلى تجربته السابقة ، والتجربة الحالية تصعد من فعل الشد والربط للفضاء المؤسس على الانقلاب والحركة السريعة ، وبالوقت نفسه تأكيد إشارات وملامح معالجة المكان والزمان القرب والبعد للمكان والزمان في الوقت نفسه ، خاصة إذا ما عرفنا انه يحاول تبسيط الكثير من المساحات اللونية في أسفل اللوحة ( دلالة الأرض الجرداء والفقر الذي يلف حياة أشخاصه فيما تتصاعد الألوان أو تنهمر بقوة من الأعلى – إشارة المجهول والقدري - باستخدامه ألوان أكثر حده وقوة ونقاء ، لتنسجم وتحتضن الأطفال والكائنات الطائرة أثناء ممارسة علاقتهم مع اللعب / الحلم ، لتصل بهم إلى نشوة تحقيق الحلم والأمل بحياة أخرى أكثر سعادة وسلام .
يوظف الفنان عاصم عبد الأمير شكل الرأس المقطوع بوصفه دلالة درامية على ما تعانيه تلك البيئة/ المجتمع من هموم الحرب فضلاً عن كونه دلالة تاريخيه /دينية ارتبط بوضوح في الكثير من رسومات وأثار الفن العراقي الحديث ، كونه جزءاً من ذاكرة شعبية ودينية لهذا البلد ، فرسامين مثل: ( كاظم حيدر ، ضياء العزاوي ، علي طالب ، إسماعيل فتاح الترك ، علاء بشير ، هاشم حنون ماهود احمد فاخر محمد ...) كانوا أن وظفوا هذا الشكل ( الرأس المقطوع ) في لوحاتهم ، مع علمنا إن هذا الشكل رافق تجارب عاصم عبد الأمير السابقة ، وهو هنا يحاول رسمه في سياق مختلف ، فهو مرة دلالة قلقه واغترابه ، ومره دلالة الحرب ، وأخرى للموت ، ومرة إشارة للإنسان العراقي ومرة للاغتراب الذي يبرر ابتعاد أشكال الأطفال إلى أن تتموضع في مساحات أخرى بعيدة ، وانه يريدها أن تحلم بعيداً عن الموت والحروب والمستقبل المخيف الذي ينتظرهم .
وشكل الرأس المقطوع ، المشوه / المخيف / المأساوي تلفه ويستقر في الغالب على ارض ترابية جرداء ،ويقابله من الجهة الأخرى البعيدة أجواء الطفولة والحلم بعيدة تنساب بخفة مع الامتداد الفضائي / السماوي مع الأرض ، لكن ما يجعل فضاء العمل وسماويته تتوحد مع مأساة الإنسان وأمله وأحلامه أن فضاءاته تميل إلى الغروب والظلمة وكأنه يشير إلى مجهولية المستقبل ومجهولية تحقيق هذا الحلم / الأماني ( للفنان/كائناته/ مجتمعه) ، ويفعل شكل الدائرة فضاء اللوحة فيرسمه إشارة للقمر :( الدائرة البيضاء ، الدائرة البرتقالية ، الدائرة الحمراء ) تقف قريبة من نهاية فضاء اللوحة ، تناظرها من الجانب الأخر أشكال الأشجار الطائرة بعيداً عن الأطفال ومكان اللعب / الحلم ، فهي بعيده في مكان آخر/غريب/غير مستمكن ،إنها قريبة من ذلك الغموض الذي يلف السماء بأنجمه وطيوره .
إن التنغيم اللوني الذي يحاول الفنان فرشه على سطح اللوحة يتناغم مع حركة بعض الخطوط الزخرفية هنا وهناك ، فهي فضلاً عن بنيتها التجريدية ، فهي تضيف للمحمول أبعادا قرائية ووجدانية ، تنسجم مع محاولاته تأسيس خطابا منفتحا/منتفخاً ، وهي تنسجم مع استخداماته للون وتكراراته للأشكال وتلقائيته وسعي للتسطيح والشفافية والجمع بين الأزمنة والأمكنة .
وكون الفنان د. عاصم عبد الأمير بشكل احدد محاور النقد التشكيلي العراقي المعاصر فهو يسند ويدعم تجربته التشكيلية بتأملاته الفكرية والجمالية التي يدعم بها خطاباته النقدية لأكثر من عقدين ، فضلاً على أنها تشكل المنهج الذي يعتمده في تشييد خطاباته ونصوصه النقدية .
الخطاب النقدي عند عاصم عبد الأمير ذو نسق حداثي ينسجم مع نصوصه البصرية ، فهو اقرب إلى المنهج الشكلي والبنيوي في آن ، فهو يرى : (( إن الخطاب الفني ليس أكثر من علاقات رتبت بكيفية خلاقة يصعب مجاراتها بصرف النظر عن محمولاته الدلالية)). ولذلك فان لعبة المحمولات هي تحصيل حاصل لنشاط الفنان في ترتيب العلاقات وتجاربه المتواصلة في اكتشاف الشكل الجديد / المبتكر ، أو الأسلوب بكونه تحصيل حاصل لذلك المتخيل / اللوحة / الأفق ألعلامي / الوجودي / ألعدمي / الفائق الحساسية / المقترح يقول :- (( إنها حياة متخيلة تجرف معها كل ما نراه )) فهي كيفية بصرية تأتي بالمعجزات وغير المتوقع ، فالشكل عنده يكفي ليصنع معجزة الفنان ووجوده الإنساني ووجود الآخر معا.ً
الشكل الفكر الجمالي والفني والنقدي على السواء هو الإنابة الحاضرة عن الفنان في التخاطب والتواصل مع الآخر ، وهو يكفي ليهز معه فضاء المتلقي ونص الناقد معاً دون أن يقدم المغزى الفكري على الشكل في لاغائيته .
مع ذلك فحساسية الفنان / الناقد / الأستاذ الجامعي / د. عاصم عبد الأمير الذوقية لا تهتز دوماً أمام ما يقدم في بنائه الشكلي فهو لا يتوانى من الضجر و الاحتجاج على التصنع الشكلي والتزييني والبارد درامياً وإنسانيا ، فهو يرى انه لا يمتلك البعد التعبيري والوجداني الجياش الذي يقترب من سر الإنسان وجوهره مثلمالا يقترب من سر الوجود وجوهره واشكالياته ، و يكون النص الفني معبراً عن إنسانية الإنسان واشكالياته الوجودية / النفسية / الحضارية عندما يحمل بعدا تعبيريا غير متصنعا، فالخطاب الفني والأدبي لا يمكن أن يكون إنسانيا / فنياً/ جمالياً ما لم يكن عميقاً وجوهرياً يمس شغاف الآخر/ المتلقي ، وليس المهم الأسلوب أو المادة المهم أن يمتلك جرأة البوح والطرح وان اختلف عن سواه أو أقرانه وفضاءات الزمان والمكان المعاشة وامتداداتهما مع تأريخهما، فقيمة القلق الإبداعي والوجودي أنها قيمة تدفع النص البصري والقرائي لان يكون معادلاً موضوعياً ونفسياً للمحنة الوجودية للإنسان .
خطاب عاصم عبد الأمير بمياسمه المختلفة الجمالية / الفنية / النقدية طافحة بالجمل البصرية والقرائية والعلامية والنفسية بمرجعيات تعبيرية ووجدانية معبرة عن الإحساس والقلق النفسي الذي يمتلكه ويتملكه ، والذي لا يستطيع إخفاءه أو ستره / حجبه في نصوصه أو وجوده الحياتي مهما حاول ، كون وجوده المادي / الجسماني وفعاليته الحضورية في المكان امتداد على خط واحد يشكله نسقا نفسيا خط الامتداد الذي يحويه ، خط الرسم والنقد والتنظير والوجود والحياة معاً .
يرصع عاصم عبد الأمير نصوصه بإعارة تناصاته ما يمكن من صور شعرية تكون معادلا وجدانياً وتناصياً معاشاً ومعلنا وضوح منهجه في الحياة والفن، وضوحاً للقلق الذي يمتد مع اجناس ابداعية اخرى التي تلقي حضوراً وترحيباً في ذائقته ، فالشعر ، والرواية ، والحوارات الثقافية ، والموسيقى ، تجد متنفسا يحاول التعبير عنها في نص نقدي أو حوار أو محاضرة أو نص بصري .
يمسك المرجل النفسي للفنان إمكانات الوجود واحتمالاتها وامتداداتها في نصوص تكمل نفسها كتابة رسماً وقولاً ، وضوحا وإبهاما ، إشهارا ، وإضمارا، إنها عنده قبض جمرة وبيان دراما وجعه واغترابه الذي يشكلها كما تشكله ، فهو وان كان منحازاً لجدله النفسي والفكري في انقلاباته وأمانيه الشكلية الخالصة / المثالية فالشكل عنده يملك قدرة الانقلابات وحمل الم ومحنة عاشها و يعيشها/ يعيشه مجتمعه /تأريخه ، فالأثر البصري سجل أنساني وتأريخي للتمرد والعدمية التي توقد الذات لاشعال مهمة تغيير الواقع وآلامه وقلقه ومستقبله. نصوصه البصرية والنقدية / يسعى لان لا تكون ساكنة / صامتة / خرساء، بل صارخة ومترنحة من شكوى وثمالة الحلم وممتدة مع الآخر / المجتمعي / التاريخي / الإنساني. لوحاته وخطاباته لم تسجل او تسعى يوماً رسما لأشخاص وأبطال مترفين لا كما يراها التأريخ أو الإيديولوجيات ، بل ما يشكل مسرحه البصري إنسان معدم / مسحوق / مهمش/ متألم/ ينتظر/يترقب ، والأطفال التائهين في سرابات : الأمل والفقر والحروب والنار.
يقول عاصم عبد الأمير: (( لا فرق بين شخصيتي بوصفي متعاطياً للنقد، وبين شخصيتي كفنان كلاهما يتحد في رابطة لا فكاك منها )) شخصيته تمتد مع الآخر كما مع نفسه بوصفه فنانا / ناقد/ أنسانا فنصوصه البصرية تضيء فهمنا لنصوصه النقدية مثلما نستطيع فهم مقتربات نصوصه البصرية من نصوصه النقدية وبالعكس ، وهي ليست إلا استقرارا على خط فكري يعصه من السقوط في هوة أو فجوة عدم الوضوح الفكري والحضاري والوجودي ، وإمكانيات الحضور أو النيابة عن الإنسان أو الفنان أو الناقد ، فما بين الحضور المادي والنقدي صيرورة وفاء لمنهج الخطاب ومنهج الممارسة ومنهج الحضور الحياتي ، وهنا يتبادل الفنان الدور ما بينه وبين اللوحة وما بينه وبين النص وما بينه وبين الآخر ، كي يكون الآن تعبير عن الآخر مثلما هو تعبير عن الآتي / المستقبلي / الأمنية / الحلم .
فـ(عاصم عبد الأمير) الذي اعرفه لأكثر من عشرين عام لم ينفصل يوماً عن عالمه وهمومه وأمانيه ،لم أراه الا متوحداً دوماً لم يشغله عن محرابه يوماً مصائب غيوم تنزل هنا وهناك وتمطر وجوده وجذوره وأوراقه وذاكرته ، حياته وحدة متصلة مع ذاته والطريقة التي يرى بها الحياة وان كانت مغايرة ومقلقة وموحشة ، أمانيه تكمن في لوحته وأحلامه التي لا تنتهي .هو اختار قلقه وقلقه اختاره لا فرق إذن بينه وبين قلقه هو( الفنان) أنتجه وذلك(لوحته) أنتجته .