.
المقاله تحت باب مقالات فنيه في
14/09/2011 06:00 AM GMT
كنت في دراسة سابقة قد اشرت الى فناني المنطقة الحرة في الرسم. تناولت فيها الرسامين تحديدا ولم اتطرق للنحاتين ولكني وانا بصدد الحديث عن النحات محمد غني حكمت الذي غادرنا قبل يومين اود ان اشير الى ان محمد غني حكمت من خير الممثلين لهذا التوجه الفني في النحت. وضعت في دراستي انفة الذكر الاداء الفني بين طرفي المحاكاة والتخيل، وطرف المحاكاة يشير الى الفنانين الذين جعلوا من التشخيص منطقة لادائهم الابداعي، وطرف التخيل الذي يجعل من الاهتمام بالرؤية التي يعبر عنها التجريد مركزا للاداء الابداعي. اما فناني المنطقة الحرة فهم الذين يجمعون بين الاداء التشخيصي وعنصر الرؤية الفنية. وكنت قد اشرت الى بعض جواد سليم بوصفها مثالا لاعمال المنطقة الحرة. باستخدام نفس المقاربة ساقرا اعمال النحات محمد غني حكمت وسوف اتناول تحديدا ثلاثة من اعماله الابرز في بغداد وهي: تمثال شهرزاد وشهريار، وتمثال كهرمانه، وتمثال المتنبي. ويعود سبب اعتمادي على هذه الاعمال ليس لكونها تبرر مقاربتي في المقام الاول ولكنها ايضا تلامس قلوب العراقيين لارتباطها بذاكرتهم التراثية الابداعية.
من الصعب اعتماد مقاربات متشابهة في التعامل مع شكلين متميزين من الابداع الفني، واقصد الرسم والنحت، لان كلا من الفنين يخاطب وعي المتلقي البصري بشكل مختلف تماما، ورغم انهما يوجهان خطابهما لنفس الحاسة (حاسة البصر) لانهما يخاطبان الوعي المرتبط بهذه الحاسة من خلال استثارة مناطق مختلفة في اعماق هذا الوعي. ان النحت بحكم كونه ثلاثي الابعاد يخلق منطقة تعامل جديدة في وعي المتلقي تحاكي البعد الثالث، وهذا البعد لا ينعكس في وعي المتلقي بصيغته الجعرافية وانما بخلقه بعدا حركيا يمنح الشكل المنحوت حيوية لا يمتلكها الرسم. لا اقصد بالوعي الحركي في وعي المتلقي، الايحاء بالحركة ولكنه الايحاء بالامتداد الزمني المرتبط بلحظة التلقي. هذا الامتداد الذي يغري المشاهد للتحرك حول الشكل المنحوت لفك شفراته المستفزة من اكثر من زاوية ولكن المتلقي يكتشف بانه لا يشبع هذا البحث لان العمل النحتي الناجح يدور في الوعي في حلقة متواصلة ما ان تنتهي حتى تبتديء من جديد. من هنا يكون امتداد تاثير العمل النحتي مختلفا عن امتداد تاثير الرسم ويمكن تشبيه هذا الاختلاف من خلال ما تتركه القصة في وعي القاريء عن ما تتركه القصيدة. ان القصة تتلبس وعي المتلقي من خلال تفاصيلها اليومية واحداثها فتتشرب مسامات وعيه بالشخوص والاماكن والاحداث في اداء متحرك يقترب من واقع المتلقي مما يجعله اقرب للتحقق، بينما تخاطب القصيدة وعي المتلقي من خلال ملامسة خاطفة لمناطق قابلة للاستفزاز فيه فتترك فيه لحظة اكتشاف غامضة. ان القصة تخاطب فينا رغبتنا في ان نصدق ونحاكي بينما القصيدة تهدم كل ما تبنيه قصة حياتنا في لحظة استفزاز.
هل يعني هذا ان النحت يحكي قصة بسبب احتوائه بعدا ثالثا قد يوحي بالزمن بينما الرسم يمثل لحظة استفزاز, هنا تجب الاشارة الى ان هذه اللحظة لا تعني بعدها الزمني وانما بعدها التاثيري في الوعي. ربما ولكني لا اميل الى مثل هذا التصنيف لان لقدرة الاعمال التشكيلية على تحدي عباراتنا وتاويلاتنا ومقارباتنا. ولكن يمكن الاستفادة من هذا التاطير ولو لوهلة. لان اعمال محمد غني حكمت تتميز بكون انها تجعل المتلقي وهو يقف امامها على استعداد لان يسمع الحكاية. ان اعمال محمد غني حكمت لا تمثل لحظة فاصلة في الزمن، بمعنى انها لا تمثل بداية قصة او نهايتها. لغرض التوضيح ساستخدم تمثال ديفد للنحات مايكل انجلو. ان ديفيد يقف في لحظة انتصار وهي لحظة تمثل نهاية القصة قصة صراعه مع جالوت. كذلك يمكن ان ناخذ اي ثيمة من ثيمات نصب التحرير للفنان جواد سليم بوصفها مثلا اخر، فثيمة تكسير القضبان تمثل بداية القصة قصة الحرية ويمكن ان نراها بوصفها تمثل نهاية الظلم، وفي كلا الحالين فاننا امام لحظة فاصلة لها ماقبلها وما بعدها.
الامر في حالة محمد غني حكمت مختلف تماما، فالمتلقي امام اعماله النحتية لا يكون معنيا بهذا اللحظة، انه يقف امامها ماخوذا بالقصة ذاتها دون ان يهتم ببدايتها او نهايتها.ان الماء المتدفق من جرة كهرمانه على الجرار الاربعين يتدفق منذ مئات السنين وسيبقى يتدفق للقادم من الايام وسيبقى المتلقي مولعا بهذا التدفق. كذلك الحال في تمثال شهرزاد وشهريار فالمتلقي مستعد ان يبقى امام شهرزاد وقد يتخذ مكانه قرب شهريار وهو يستمع للحكاية تلو الحكاية وهو غير معني بالحكاية وانما معني بفعل الروي ذاته. اما تمثال المتنبي فهو عبارة عن حالة القاء شعري مستمرة لا تعرف فيه القصيدة بداية او نهاية.
لماذا وكيف وضعنا محمد غني حكمت في وسط الحكاية ؟ يمكن الاجابة على سؤال لماذا بالقول: انها رؤية محمد غني حكمت المقترنة بالديمومة. من الماثور عنه انه قال يوما ما: (من المحتمل ان اكون نسخة ما لروح نحات سومري او بابلي او اشوري او عباسي). وهي عبارة تعكس في وجه من وجوهها هذا الايمان بالديمومة بالروح الابداعية التي لا يحدها الزمن. انه لا يرى نفسه لحظة ابداعية فاصلة في الزمن ولكنه امتداد لحكاية ابداعية مستمرة. ولذلك فهو يضع متلقيه امام نفس الحقيقة التي امن بها ، وبالتالي فان المتلقي لا يعنى امام اعماله بلحظة البداية او النهاية لان محمد غني حكمت لم يؤمن بان هناك بداية او نهاية لقصته هو.
اما كيف استطاع محمد غني حكمت ان يحافظ على استمرارية الحكاية فيمكن ان يكون من خلال اوضاع الشخوص وادائها التعبيري. لقد حرص محمد غني حكمت، ببساطة، على ان يجعل شخوصه في اوضاع موحية باستمرار الحكاية، فالمتنبي في لحظة القاء وشهرزاد مازالت تحكي وكهرمانة مازالت تسكب الزيت في الجرار. من جانب اخر فان محمد غني حكمت مولع بالاقواس في اعماله النحتية وهي تبرز في الشكل العام للشخص في العمل او في طريقة تعامله مع الثياب التي تغطي الشخوص. فـ رداء المتنبي مقوس بفعل الريح وهو ما يمكن اعتباره المعادل الشكلي للاثر الذي يتركه شعر المتنبي المدوي عبر الزمن. كذلك الايحاء الذي يتركه تقوس كهرمانة وطيات ردائها ولطالما مثل التقوس في الاشكال وفي طيات الملابس ثيمة اثيرة في اعمال محمد غني. ان الاداء المقوس للاشكال بشكل عام يعطي ايحاءا بالديمومة والاستمرارية فلا توجد هناك زوايا حادة تكسر الايقاع او تؤشر البدايات والنهايات في الشكل الفني. وقد يكون ذلك بمثابة تاكيد على هذا الجانب من الرؤية التي ارجح ان محمد غني حكمت كان ينطلق منها.
كنت قد اشرت في البداية الى ان محمد غني حكمت من فناني المنطقة الحرة. وفي مقاربتي لاعمال هذه المنطقة اشرت الى ثلاثة معايير. المعيار الاول هو وجود جانب التشخيص والمعيار الثاني هو العلاقات، الذي افترضت فيه ان تكون العلاقات بعيدة عن الواقع. اما المعيار الثالث فهو بروز عنصر الترميز. فيما يتعلق بعنصر العلاقات فيمكن اعتبار تبني محمد غني حكمة لحكايات الف ليلة وليلة على سبيل المثال تمثيلا لهذا المعيار بحكم ان هذه الحكايات هي حكايات اسطورية او من نسج الخيال الشعبي. اما عنصر الترميز فهو الاكثر وضوحا من خلال الايحاء بالاستمرارية في الاداء التعبيري لشخوصه لتاكيد رؤيته الفنية المرتبطة بالديمومة والتواصل. في النهاية يجب القول ان اعمال محمد غني حكمت لا تستمد ابداعها من خلال ادائها التكويني و التعبيري في المقام الاول ولكنها تستمد ابداعها من رؤية الفنان التي اعطت الاحساس للمتلقي بديمومة الحياة، تلك الحكاية المثيرة التي تستمد جماليتها من استمرارها وتواصلها مع الاجيال. من خلال جعل المتلقي يعيش متعة التواصل مع هذه الاستمرارية فيحس معها بخلود الحكاية وخلوده معها.
|