الحداثة والفن

.

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
11/09/2007 06:00 AM
GMT



ارتبط مفهوم الحداثة بتمرد الذات الانسانية على كل ماهو معياري وتاريخي ، فالحداثيين ينظرون الى العالم والوجود والفن بشكل مختلف عن الاخرين ،فالماضي عندهم بكل مايحمل من محمولات ومنها الجمالية وفكرة الزمان يتعرضان الى الهدم والتقويض او التخلص من اثارهما ومنهما .

ان التحصن في خنادق الماضي محاولة لصد سعي حرية الفنان وذاتيته ،وفي ذلك فان بعض مايطرح في الفكر الحداثوي العربي بشكل عام و العراقي بخاصة, مايهمنا في مجال الفن التشكيلي ليس الاتقهقرا للماضي باوهام التشبث بالهويات او الهوية ،واذا ما قارنا هذا الفعل بما فعلته / انتجته الحداثة الفنية الغربية التي هي اساس نهضوي وجمالي لايمكن التنصل من انتمائنا الانساني والجمالي اليه فان اثاره قد بنيت او قامت على نبذ شروط الاتصال التاريخي اوالزماني والمكاني ، فالحداثة الفنية فعل ورد فعل ذاتيان للفنان تستهدف تدمير فكرة الزماني ،وهذا الاستهداف يشبه في جانبه العدمي حركة الزمان وصيرورته ،فالحداثة الفنية هي استمرار لحركة ناتجة من ذلك الفعل فضلا عن كونها صيرورة ينظر لها من خلال سياقها الحضاري والارث المتراكم خلال صيرورتها ( المتمخض عنها) او زمنها الخاص .وصيرورة الحداثة الفنية تمرد مستمر ؛ تمرد اتصالها وانفصالها في سبيل غواية المجهول واستدعاء المهمول .
ان الحداثة التشكلية العراقية لم تستند الى سياق حداثوي ولذلك فانها بقيت محاولات تتصف بشيء من الحداثة ,وليست الحداثة بمعناها الشامل الذي يكون الفن التشكيلي جزءا منها ،فالحداثة الغربية الفنية كانت قد استندت الى بنية او سياقات كبيرة وشاملة بما يشبه الموجة الكبيرة (تسونامي ) فكانت الحداثة الفنية جزءا منه انطلقت منه ، والسياقات القارة كان من اهمها على الاطلاق الحرية بكل ولكل شيء ومنها بالطبع الافكار والمعتقدات والمعلومات والتقسيم الاكبر للعمل بمقاييس موضوعية في تحمل المسؤولية وعلمنة ( علمية ) الدولة الذي انزل من الدولة والفرد العبء الاكبر للتفرغ والانتباه الى طريق الحداثة او التطور المتسارع .
اننا وبدون الحداثة الشاملة لايمكن لنا ان نعد مصداقية ونوايا الحركة الثقافية والتشكيلية العراقية . وبدون تبنيها يعني اننا لانقبل ان نساهم بفاعلية وجدية في الابداع والتاصيل الانساني .وبالتالي فان كينونتنا العامة والفنية سوف لن تنكشف الا للعدم( حسب التريكي ـ فلسفة الحداثة ) ، وبذلك سندخل طي الفناء والنسيان كما كنا في القرون الماضية عندما كنا وما زلنا نتغنى بالجهل والفقر والتاريخ .
فالتحديث اذا قبلنا به يعني قبولنا بعملية او مجموعة عمليات متراكمة تشمل كل نواحي الحياة ومنه الفن التشكيلي العراقي ،وقبولنا يعني دفع المجتمع الى تبنيه ـ وبالضرورة تبنى الفن عاملا مساعدا لتشجيع وتسريع ذلك التحديث ودفع التقاليد والممارسات السياسية لتأ سيس قيم وقوانين علمانية صرفة فلا تخضع لاية عقيدة ولأي موقف ايدولوجي معين ،وذلك ماتستدعي حركية التحديث التي تتاسس على جملة من الاليات الانفصالية التي تجعل من الانية الفاعل الحقيقي في الذات والمجتمع بالقياس الى الماضي الذي يجب ان نسمح له بالمضي والهدوء .
يجب ان يقوم التحديث الفني التشكيلي العراقي على انقاض الحداثة , فما كان بالاسس قوام الحداثة كالذاتي فانه يندفع مابين الذاتيات في انفصال في نمط تصور الذات ادراكا وفعلا ،فاندفاعها المتواصل غيمة للعدم كتجاوز فضاءات الانا والهنا ، لتجعل الاتي حقولا لديناميكية هذا التحول. والفنان التشكيلي ـ هنا ـ تصور خاص للزمن في حركته ـ فأشكاله وتجاربه ومغامراته اما ان تتحرك في خط متواصل نحو شكل معين او يكون متقطعا تلعب فيه الانيات المستقلة او القافزة دورا رئيسا فيه , شرط ان تودي فيه الى غاية (!) وهذا الزمن الحداثي (الفنان /نتاجاته ) وان سارعلى شكل او اسلوب في خط متصل الا انه لايتخذ لنفسه اتجاها واحدا فهو شكل/ نمط يستوجب ويتجه الى المستقبلي ـ لكن لايحياه ـ المحلق باسراب / منظومات الخيال الحدس .
قد يتوهم الفن التشكيلي العراقي يسقط في مخافي خارجة منه, فالفنان قد يسقط في عوق الوعي التاريخي ومركزية الانا التاريخية .
لكن من امن بالحداثة فان اشكاله ستقوم رغما عنه بدور الانفتاح في كل التصورات والمرجعيات المحتملة فهي (هو ) تقوم على التجديد وتظهر دائما بجلباب الشكل فوق جسد الرؤية او الوجود المفترض ليكون امكانية تقنية في البيئة البصرية للمتلقي والمعاش .
ان حداثة الفنان التشكيلي العراقي وكل الحداثات الاخرى وان كانت ذاتية فهي عقلية ، فالفنان ( كما الحداثة ) يعيش في منظومة دولة القانون والديمقراطية ،ونقد القيم والتقاليد وانتشار العلم والتكنلوجيا ,واعلاء المنظومة الاقتصادية في ان تكون الانسانية العنصر الاساس والفاعل فيها , فهي اذن جدل (ديالكتيك ) مستمر ما بين الوجود / العقل / البيئة /المكان / التواصل والمادة /الذات /العدم /التمرد / والانفصال . ونحن هنا لاننكر ان تحتوي كل المنظومات الاخرى التي يعيشها الفنان ضمن هذه الجدلية وخاصه الحركات الاجتماعية الانسانية الفاعلة فيها .
تتطلب الحداثة التشكيلية الفنية سلسلة من التجريب والتجديد والتمجيد للاخطاء والذنوب والمغامرات ،فالفنان الحداثوي يحمل في داخله فصامية تناقضاته في الهدم الذاتي المستمر ،والبناء الذاتي المستمر, ولذلك فان التشييد و الهدم هما غايتان متارجحتان لاتستقران على سيولة الوجود وتحوله الى صيرورة ما، أي ان العمل الفني الحداثوي؛ وجود جدلي لايستقر بين فعلي الهدم والبناء ،او الحضور والغياب فما يتوسطهما سكن للذات والعقل معا ،او امتزاج الوجود والعدم معا ، ولذلك فالعمل الفني في هذه المنطقة نوع من القلق اللامنطقي .لذلك تبدو تجارية مفاهيم تسكن الرفوف ووسائد التاريخ ،وانماط حداثته مراوغه ومخاتلة وتلك المراوغة هي اكثر المشاعر خلاصا للفنان اتجاه ذاته .
تتطلب الحداثة التشكيلية العراقية ان ينفصل كل جيل مع الماضي ، هكذا وبالافادة من (كامباثيون) في مفارقات الحداثة , لتشكل القطيعة تقليدا لتلك الحداثة , لكن أليس تقليد الانفصال بالضرورة نقي الانفصال ؟فالتقاليد الحديثة كما يقول (اكتافيوباث) ؛ تقاليد تنقلب على ذاتها ,وهذا التناقض ينذر بمصير لحداثة الجمالية المتناقضة بذاتها ومع ذاتها فهي تؤسس وتنفي الفن في ان واحد , تعلن حياتها وموتها ،عظمتها وانحطاطها في الوقت ذاته ,
يكشف تزاوج المتضادات عن الحديث بصفته نفيا للتقليد/ يعني بالضرورة تقليد النفي ، وهو نوع من الاحراج والمازق النظري لمفهوم الحداثة .
يسعى الفنان التشكيلي الحداثي الى ان يسل الابدي من العابر ،بالرغم من ان الحداثة تحمل في جوهرها العابر ، والهارب والطارىء ، والفن منها ينتمي الى الابدي ، واللامتغير ، ينبغي على الجمال الغريب الذي تصنعه فيها الحياة الانسانية اضطرارا ان يسل منها ويستخرج .
الحداثة تضطرنا ـ بشرط سعادتنا بذلك الاضطرار ـ على ان نكون ماخوذين على انهار نتاجاتنا معنى الحاضر ،بالغاء علاقاتنا بغيره ، على انها تتابع في حداثات متفردة ، بخيال يصيغة القوة التي تجعلنا نحس بالحاضر وندركه ويفرض نسياننا للماضي ,فالحداثوي هو وعي الحاضر و الحداثة وحدها . وبهذا المعنى فالزمن فيها يأكل نفسه ، ليس كما يتحرك بنفسه بل كما يحركه الشكل/ النمط الذي ينفصل عنه ، والفنان يتحول فيه كما يصفه (بودلير): الفنان يعيش روحيا في نقاهه دائمة ، او هو او هي / طفل يرى كل شيء بصفته جديدا او مدهشا ، انه او انها في حالة سكر . ولذلك فان الحداثيون الاوائل لم يبحثوا عن الجديد في حاضر يميل الى المستقبل ، بل كانوا يبحثون عن الجديد في الحاضر ،والتمييزالجوهري ولاساسي ،بطولتهم كانت بطولة الحاضر لا المستقبل ، لانهم لم يكونوا يعرفون الطوباوية ، لم يفكروا ان فن اليوم سوف يسقط غدا بالضرورة ، ولم ينكروا فن البارحة .
وقع الفن العراقي في هوى الحول فهو وان ادعى ذلك الا انه دعى ويدعو الى التاريخانية والزمانية والمجايلة وعدم التفريط بالاباء والاجداد , فضلا عن الدعوات الشخصية والاسلوبية ،و لذلك اسباب ، لعل من اهمها العيش في فضاء اجتماعي وثقافي وتأريخي وسياسي واقتصادي متخلف ، وطليعته لم تكن طليعة كما تتصورها الحداثة ، ولعلهما كانا متناقضين في الوله فالحداثة حاضرية وحضورية وانية ،والطليعة مستقبلية, لكنها وان كان لها وعيها التاريخي ؛لكنها تجعل لارادة الهدم شرعية طالما ان النظرية المستقبلية لها حجة الهجوم والتقويض .
فالرسم العراقي قد اوهم نفسه في المطالبة لان يشكل لنفسه ( يرتدي )قناعا جديدا للتعيينات( الدوغمائيات ), فلم تنشط نماط /بنى /اشكال المستقبل او حتى الوله بالحاضر, ولذلك فانها حركة استرضاء لاتتناسب مع حركية وفعل الحداثة ،وقلقها : فالحداثة التي لم يفهما الكثير من الفنانين العراقيين ,انها احداث اثارة انطلاقا خارج حدود الذاتي بفعل التمرد والعدمية المستمرة, وبفعل كون العدمي يرتكز ما بين ما هو عقلي وما هو ذاتي .
إن الكثير من النتاجات التشكيلية العراقية بنيت وفق مرجعيات ايدولوجية ، بل ان الاشكال/ التجارب اصبحت انعكاس لها ، ولم تدع الى التخاصم مع الايدولوجيا, وتسعى الى التحرر لتندفع في وعيها الى الامتداد الى المجهول والمهمول, وفق اساس شكي يمتزج مع يقين الوجود .
واخيرا فان الرسم العراقي في جل نتاجاته كان بحاول بناء هياكل ثابتة والحداثة الشاملة انما هي تعددية ضد التوحد او الواحدية فهي تسعى الى تفكيك الهياكل الفكرية او فنية لامتناهية ومتجدده على الدوام ،وفق ديالكتيك حيوي التجدد والخرق والتثوير, يتأسس على هيئة ضرب من التوتر الداخلي مسبوق أو متسقا مع الفكر اللامقدس والعدمي .