.
المقاله تحت باب مقالات فنيه في
31/10/2010 06:00 AM GMT
(القيت مقتطفات من هذه المقالة في الحفل التأبيني الذي اقامته جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين في بريطانيا في لندن 23-10-2010
كل انسان يحمل معه لحظة ولادته بذرة فنائه الا المبدع فانه يحمل معه منذ الولادة بذرة خلوده الادبي ، فيبقى صدى ابداعه وفنه يتردد مع الزمن ، لانه لم يشا ان يمر على لوحة الحياة مرورا عابرا ولكنه اصر على ان يترك بصماته عليها. والمبدع رسالة يكتبها ابداعه، كلماته والوانه ولكي لا تمر هذه الرسالة بيننا عبثا علينا ان قراها بمحبة ونجعل من كلماتها جسرا يمتد بيننا ليبقى معنى التواصل الانساني الذي يمثل جوهر رسالة الفنان في كل زمان ومكان.
يقول الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز ان الكاتب الذي يعرف ان يمنح الاشياء اسماءها فقد انقذ نصف روحه، وغاده ، ليس فقط بفنها وانما بمواقفها اعطت للمحبة معناها الذي ارادت فكان لها في قلوب من عرفها عن بعد وعن قرب هذا الاثر الذي يتجسد في ما تركه غيابها المفجع في نفوس من عرفها. ولكن، ورغم ماللموت من ايقاع موجع للنفوس، يبقى له كما للحياة معنى نسبي. يكتسب قيمته من كيفية تعاطي المرء مع قيمة الحياة اولا، فقيمة الموت مرتبطة جدلا بقيمة الحياة ذاتها، من هذا الجانب يجب ان ننظر للقيمة التي منحتها غاده حبيب للحياة، وبالتالي ما يمثله غيابها القاسي والمفاجيء من قيمة مضافة. فالموت هنا بوصفه غيابا يتضاءل لان الحياة كانت مفعمه، مضيئة، نابضة في قلوب من عاشها، والحياة ليست كالعيش.
وكما قال اليوت: كم من الحياة اضعنا في العيش وغاده في رحلتها كانت حياة، تنبض في عيون وقلوب من عرفها عن قرب او عن بعد. ولعل ابرز معالم هذه الحياة هي الجسور التي مدتها مع الاخرين، رغم فقدانها لوسيلة تواصل بالغة الاهمية، لكنها لم تجعل من هذا الفقدان جدارا كما يفعل الكثيرون في العيش، ولكنها بكل ايمانها بالحياة، بنت جسور التواصل. لقد حولت الفقدان الى حافز اكتشاف، محطة انطلاق لفضاء ارحب ان مجرد القاء نظرة سريعة على سيرتها الفنية كفيل على ان يشعر القاريء بالاعجاب والتقدير لنشاطها الانساني والابداعي المتواصل، رغم ان فقدان السمع في سن حرجة، كان يمكن ان يشكل عائقا حقيقيا امام التواصل الاجتماعي فضلا عن التواصل الابداعي.
يعود الفضل لهذا الانجاز للارادة القوية التي تمتعت بها غاده وهي تكسر حاجز الصمت الذي احاطها، لتملا الحياة صخبا بالوانها ، كما يعود الى ما يمثله الفن من لغة انسانية عالية وعميقة في الوقت ذاته، مكنتها خلق ادوات التواصل الحقيقية مع الاخرين. قد يقال ان مقدرتها على قراءة الشفاه ساعدها في فهم رسائل اللغة المحكية، ولكن مع هذا فان ما تمتلكه من حس فني عال لعب الدور الابرز. ذلك ان محاولة التواصل مع الاخرين حتى بدون حواجز هو اشكال بحد ذاته في عصر زاد تعقيده من تشتيت قدرتنا على ايصال واستيعاب الرسائل، حتى مع اكثر الوسائل الفة وشيوعا –الكلمة- ربما لاننا نظن ان الفتنا للكلمة وتشابة طرق استعمالنا لها، يضمن التواصل الحقيقي، ولكننا نكتشف بعد حين باننا احسنا الظن كثيرا بالكلمة، ونسينا ان الكلمة لا تملك القدرة وحدها على حمل الرسالة بدون السياق، والسياق يتبع عالم المتكلم، وكل منا له عالمه الخاص.
اننا نعيش في عالم يوصف بانه قرية صغيرة ولكننا فيه نبتعد فيه عن بعضنا كما تتباعد الكواكب والنجوم في كوننا المتمدد. اقول ان حساسية غادة الانسانية والفنية اعطت مثلا صريحا على ان الكلمة اداة قاصرة مع غياب القدرة على استيعاب الاخر واستيعاب الاخر يتطلب وعيا عاليا مبنيا على روح معطاءة، وتلك هي ميزات غاده حبيب الوعي والعطاء.
كما ان الفن محبة، لان اساسه التواصل مع الاخر عبرة لغات تعبر حواجز الثقافات والالسن، وبالتالي فان غاده لم تكن بحجاة للغة التواصل المالوفة .. فما عندها كفيل ان يوصل اعمق رسالة، وربما ، وكما كانت تقول ان فقدانها لحاسة السمع منحها الحماية من لغة افرط في سوء استعمالها، وليس اجمل من ان ينصت الفنان المرهف الحس لموسيقى الروح وهي تتحر من قيود المالوف او المشوه ولذا فان وجود غاده بين احبتها واصدقائها كان تمثلا لتلك الموسيقى العذبة التي تنشر السلام والطمانينة والمحبة لكل من حولها.
ان غاده حبيب صوت عراقي مشرق بابداعه وحياته كما هي في كل حالاتها بسمة مشرقة مفعمة بالخضرة والحب. انها فنانة عراقية بجدارة الارادة التي تواجه قيود القسوة والعنف بكل قوة ان هذه القيود لا تملك القدرة على تفرض نفسها على ارادة غادة فروحها هناك .... حيث الشمس المشرقه، وهي ترسل اشعتها لمن هم خلف تلك الحواجز، هؤلاء هم الذين يعيق احساسهم بالقيد فرحها ويحاول ان ياسر اشراقه لوحتها باسلاك شائكة....
ولكنها تعلم ان الفنان وفي لحظات كثيرة لا يملك الا ان يصلي بفرشاته وهي تنحني على قماشة الروح، للمعذبين، ان صلاتها هي لحن مواساة يطل من نافذة الحياة الى ضحايا العنف. انها فنانة تحتج ضد كل عناوين العنف والقسوة ولكن باشراقة الجمال والمحبة والامل. انها تبصر كل تلك الماسي ولكنها تبقى مصرة على العزف وكانها مؤمنة بان صوتها سوف يهدهد الضحايا ويواسيهم في منفاهم القسري عن الحياة.
ان فرط احساسها بحجم المعاناة التي يعيشها الضحايا ممن تحب ومن تهتم لامره، هذه المعاناة المجسدة في اجساد منتهكة يلقيها العنف دامية مهملة، يجعلها، تحاور صرخة الفنان ادوار مونك وكانها تمنح هذه الصرخة صوتها ولونها وهي تستحضر الماساة. انها هي ذاتها رحلة الالم وهي تخطو بفرشاة الفن عبر الزمن الالوان اداة التواصل الانساني الحقيقي، هي مؤمنة بانه دورنا ان نشدد على الصرخة بوجه الالم والمعاناة، ايا كانت، لقد سمعت غادة روحها المرهفة تلك الصرخة، وقد عادت مرة اخرى ولكنها تشير الى الم جديد ومعاناة اشد....
ان غاده صوت انثوي مفرط في حبه للحياة والجمال ورغم مسحة الحزن والالم التي توشح قماشتها بين الحين والاخر، لكن نساءها رغم الحزن الذي يفرض نفسه على ملامحهن، لا يفارقن التمسك بالحلم، انه دلالة تمسك بالحياة التي يسعين اليها ويحلمن بها، انها تمنحهن وتمنحنا معهن طوق النجاة، من كماشة المعاناة والالم. هي تابى ان تظهر الجرح دون ان ترشدنا الى البلسم، انها رسالة الفنان المؤمن بالجمال رغم كل القسوة والقبح التي يراهما وبوضوح اكبر منا ورغم عمق الجرح الذي تتركه هذه القسوة في اعماق الفنان، لكنها تابى ان تغادر عيوننا اعمالها من دون ولو اشارة للجمال واقعا كان ام حلما.
ان اعمالها تجسيد لذلك المعنى الجمالي الانيق، والمشرق، والمراة في عالم غاده حبيب عالم مرتبط بالخضره والاشراق، وكانها تستدعي عوالم الطفولة الحلمية وهي ترسم نساءها، ويكاد يصبح متلازمة هذا العالم الحلمي الاخضر مع كل حضور انثوي على قماشتها، انها ترى المراة رمزا مرتبطا بالجمال، وهي تلبس نساءها اثوابا احتفالية، وكانهن على موعد متواصل مع خضرة الحياة والروح، بل انهن جزء لا يتجزء من روح الطبيعة الغضه.
إنها وكما هو اسمها شجرة حب غضة تجمع لحظات المحبين والاصدقاء، ان لبسمتها لمسة الاغصان التي تظلل الاخرين وتحنو عليهم، هي شجرة محبة تزهو بخضرتها وبمن يجتمع تحت اغصانها، وهي ترى نفسها هناك شجرة حب وفرح على ارض معشبة، كما هو حلمها وكما ستبقى في ذاكرتنا لوحة محبة وجمال.
|