بغداد بفرشاة حره. قراءة في اعمال الفنان فيصل لعيبي.

.

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
14/01/2010 06:00 AM
GMT



لعل اهم ما يميز الاداء التشكيلي للفنان فيصل لعيبي هو قدرته الفائقه على التوظيف وعلى مستويات متعددة، على صعيد التكوين والاداء التصويري، وقدرته على توظيف ذاكرته الصورية قبل هذا وذاك. هذا التوظيف مكنه من ان يلتقط الحياة البغدادية بعدسة جمالية فائقة، عكست عمقا تعبيريا وثقافيا واضحا. لكن اللجوء الى تحليل الاداء التوظيفي لاعماله قد يظلمها بعض الشيء لان العمل الفني الناجح يتميز بقدرته على اذابة المناطق المتعددة في ذاكرة المتلقي الصورية لتشكل منطقة واحدة لها خصوصيتها.
 

 
ان القاء نظرة متمعنة لشخصيات فيصل لعيبي يحيل المتلقي الى الاداء الفني الشائع في اعمال الريليف في الاختام الاسطوانية والمسلات السومرية والبابلية بالاضافة الى النحت الاشوري.

 
لكن ما يميز لوحات فيصل لعيبي هو ان وجوه ابطاله تواجه المتلقي احتفاظ اجسادهم بالاوضاع الجانبية وهو عكس ما نراه في الرسوم المصرية القديمة حيث الجذوع المواجهة للمتلقي بينما تاخذ الوجوه والاقدام وضعا جانبيا. هناك ايضا جانب التوظيف السومري المتمثل في عيون شخوصه بشكل مهيمن كما يكمن في التقوس المسيطر على اجساد ومفاصل اولائك الشخوص، والذي لا اعرف لماذا احالني الى تمثال الملك السومري كوديا. من جانب اخر هناك التوظيف التكويني الذي يذكر ببواكير الفني القوطي، حيث كانت مكونات اللوحة ثنائية الابعاد، فبالرغم من كون الرسم قد تجاوز مشكلة البعد الثالث منذ الفن القوطي المتاخر الا ان فيصل لعيبي اثر الاحتفاظ بثنائية الابعاد في مفردات الديكور والاثاث ولا يتجاوز ذلك الا في الوجوه والملابس التي احتفظت بايقاع الريليف حيث الايحاء الجزئي بالبعد الثالث. المستوى الثالث هو التوظيف الفوتوغرافي. ان شخوص فيصل لعيبي تنظر الينا وكانها من شخوص الصور الفوتوغرافية العراقية القديمة، تلك الصور التي لها في ذاكرتنا طعما خاصا، لارتباطنا العميق بها وهي تخاطب الحنين فينا، نحن الذين نكاد نقدس الماضي، انها تخاطب فينا النقاء والبساطة.

 
 اننا حين نتامل اعمال فيصل لعيبي لا نتامل شخوصا في لوحة فنيه ولكننا نداعب مناطق ذاكرتنا المحببة ونعيد ترتيب اوراق خيالنا ليتوافق مع هذا الوجود الخالص، انهم الشخوص الحلم في يوتوبيا الذاكرة. هناك جانب اخر في هذا التوظيف، يكمن في ان اللقطة الفوتوغرافية تحاول ان توقف الزمن لوهلة لكي تلتقط انظارنا انفاسها، او لكي تؤشر لحظة ما.

 
ولكن اللقطة الفوتوغرافية دائما ما تفشل في ذلك لاننا حين نتاملها تكون قد اصبحت تلك اللحظة من الماضي، ولا سبيل لاسترجاعها. لكن فيصل لعيبي نجح فيما لم تنجح فيه اللقطة الفوتوغرافية. ان الاداء الجانبي لاجساد الشخوص في لوحاته والذي تمثل ارتباطا بزمن الحدث المصور ، يواجه بنظرة الشخوص الموجهة الى المتلقي، فينكسر ايقاع هذا الزمن عبر نظرة الشخوص الى المتلقي. ان تنوع مستويات التوظيف التاريخي والفني واسقاطه على شخوص البيئة البغدادية لغرض اسطرتها، صاحبه اداء لوني مبهج في كثير من اللوحات ليعطي هذا البيئة بعدا مضافا اشبع الطقس الاحتفائي لدى المتلقي. لقد منح فيصل لعيبي البيئة العراقية حضورا يليق بموقعها في ذاكرته وذاكرتنا.


 
 يبدو ان تحرره من سطوة الزمن جعله يتحرر من التقنينات الاسلوبية فتحرك بحرية بينها، فهو نموذج لرسامي المنطقه الحرة* التي يغلب على ادائها التشخيص لكنها مشحونة بطاقة رمزية عالية، ما مكنه من تخليد مفردات الحياة العراقية فأسطر بساطتها واحتفى بشخوصها، فقدم لذاكرتنا بهجة تلون ما تقادم من الزمن.