الفنان برهان صالح.. وقساوة البَوح الذاتي

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
21/06/2009 06:00 AM
GMT



من الصخبِ والضجيج ومن التوحد والانسلاخ ومن روح الحركة المشبعة بالوجوه والملامح المعذبة التي تومئ لأغوار النفوسِ الغارقةِ بالمتاهة والنسيان،ومن سراديب الألم الوجودي إلى إضاءاتِ الأقمارِ والأهلة الوامضة بعشق الارض والناس تنبثق اعمال الفنان (برهان صالح) من أديم أزقةِ كركوك وأُطر ِمعمار بيوتها وزخارفها ونقوشها المحفورة على الأعمدة الرخامًيه وعلى الأبوابِ والنوافذ واطاراتِ المرايا والصحون والملاعق وحتى الأمشطةِ الخشبية والشرفات التي تتوهجُ فوق هاماتِ المنازلِ في الحارات القديمة،لينقُل لنا في أعماله الغزيرة مخزون حركة الأسواق الشعبية التي عايش الفنانُ تفاصيلَ تلاطمها اليومي الزّاخر بألآفِ الأجساد والعباءات المتداخلة تحت تنقلاتِ أضواء الشمسِ وألوانها التي أُختزلت في أعماله التعبيرية وبحركةِ سريعة الى أقسى واشفِّ عنصرين لونيين متضادين ... الاسود والابيض..

إن هذه التشخيصات التعبيرية وخاصة في بداياتِ أعماله، قبل أن تعتريها العقلنةُ الفنيّة ، تنهضُ من وشائجٍ فنيّة وحياتيه عديدة ومرهقة نابعة من الجذرٍ الخفيّ المُستحكم في أنقاضِ الذات المبدعة بعفوبةٍ أستثنائية ذات معايير ومؤثرات مختلفة من المعايشة اليومية الى امتلاكِ ناصية الثقافةِ البصريّة والدراسة الأكادمية وقراءات فنيّة وأدبية ومتابعة نظريات ومدارس جماليّة وتجريبية متواصلة رَبطت جُلّ أعمال الفنان (الكرافيكية ) الى حبلٍ سرّي مع عوالمٍ في غاية الإستلابِ والبوحِ الذاتي المرير والمتناسلِ من العُتمةِ والنور اللذان يتواشجان بعنفِ وقسوة حتى يستبيحان مجمل مناخات أعماله في تداعيات لاحصر لها تتمركز في بؤرة افتراضية تحاول باستمرار ان تتجلى بين الغياب والحضور وبين الإيماء والايحاء والرمز في مفردات فنية تنزع دوما نحو تجاوز الاساليب الشخصانية للتعبيرية الى الثيمات الجوانية المبهمة والغارقة بالغموض ....أنه يستدرج المتلقي بخطوطه واشكالة المكررة نحو مساحات النزوع الى الالم الانساني الصارخ...

في الواقع ،لم تفاجئني اعمال المبدع(برهان صالح)في مقاربتها للهدم والانشاء في منظور الفني لاجل احالته الى الفجيعة الانسانية لكوني من نفس البيئة الجغرافية والتضاريس التاريخية الحافلة بالاستيلاب والتهميش والقتل الجماعي ،ولكن ماهالني حقا هو اسلوبه في الطرح الانفعالي والفنتازي لمعالجته الفنية التي تقارب دهشة الطفولة امام عالم منهار يتوارى خلف ركائز فنية غاية في الاتقان والمرونة وفي ادق حيثياتها التي تستبيح خرائب وجودنا بصياغةٍ تماهي الَصدمة التي تتعدى حدود جراحات (كركوك)نحو اصقاع انسانية بعيدة الغور .....

انه ،وبكل بساطة وعمق ،يستحضر محيطه البيئي الخاص ليتماثل مع الاشتراطات الانسانية في اوسع مساحاتها متجانسا مع فضاء اللوحة من اكثر المحاور إضاءة لمنافذ التعبير ليطغى ويتفاعل رتمه المحلي سواءا بالتشخيص او التجريد مع شروط توترات روحة القلقة وذاته العنيفة الرافضة للبؤس بكل ذبذبات نقاطها وخطوطها الدقيقة والقاسية برتمها العارم ...

لقد كتب الفنان العراقي المرحوم (شاكر حسن آل سعيد ) في عام (1986) عن اعمال الفنان موازياً مع هذه النقطة بالذات بعد تشتيته الركائز البصرية في اعماله بالوهلة الاولى للوصول الى انعكاسات الداخل المتالق بالبوح الذاتي الخاص...

حينما اطلعت على اعمال السيد (برهان صالح محمد) لم اجد فيها لاول وهلة ماهو جديد في الامر ولكنني سرعان ما ادركت انه لايخلو من لوعة في البحث عن (جوهر) العمل الفني ،وذلك حينما تاملت مغزى معاملته للخطوط والاشكال في لوحاته الكرافيكية المرسومة بالاسود والابيض....

ان ممارسة فن الكرافيك تظلُّ على قدرٍ كبير من الخطورة والاهمية ،لانها تحفلُ بالطاقة على رهافة التعبير وشموليته في نفس الوقت ،وهي وان بَدت لاول وهلة مجرد مهارة في التعبير وإتقانٍ في استيعاب الفكر التكنوقراطي ،فإنها تظلُ في طوعِ الفنان ومقدرتهِ على تمثيلِ طبيعته الانسانية بل موقفه الانساني وذلك فيما لو استطاع ان يتحكّم بامرِ فنّه ،ان مثل هذا الجذر المهم يبدو لنا في رسوم (برهان صالح)الكرافيكية (اسلوب الحفر على الخشب) ،فهو ينساب متسقاً مع عواطفهِ واحساسيسه في إختيار الموضوع المعبر،إنسيابه وإتّساقه مع روحه الشاعرية في استثماره (للتكرار)بواسطة الخطوط والنقاط حتى لكأنه ،فيما لو جُرّد اعماله عن نزعته التشخيصيه،متوصلا ايّما تواصل الى نوع من التجريدية الشعريه،ولكن متاعب هذا الطريق تظلّ مقرونة ،بالطبع ،بمدى إكتشافهِ الدؤوب وايمانه باهمية ...

إن العملَ الفنّي يظلُّ اكثر إنتماءً الى (الابداع) منه الى (التقليد) وانه في جميع الاحوال ليبشر بمستقبل زاهر ويعد بالكثير من العطاء في المستقبل قياسا بجهودِه المخلصة والدؤوبة في البحث والعمل المتواصل )

( شاكر حسن ال سعيد ـ بغداد ـ 1986)

ان هذه الافتراضات الفنية السديدة احكمت خطوات الفنان نحو البحث والتجريب والممارسة الجادة بكثير من الصمت وبكثير من الإنزواء الخلاق جعلت الفنان ينهمك على دراسةِ اعمال الفنانين العراقيين في منتصف ثمانينات القرن المنصرم بكلِّ جدية و تأن محاولا ً إستقراء َ ملامح الفن العراقي وخصوصية مدارسه ومنابع روافده المتعددة، فساهم مع مجموعة من زملائه الفنانين العراقيين في تاسيس (جماعة افق ) عام (1986) لاجل ايصال صوتهم الرافض والمتمرد على القيم الفنية الإتباعية السائدة والاستهلاكية والشروع فورا بالمساهمة مع المتغيرات الفنية على كل المستويات تلبية لنداء رفد الحركة الفنية في العراق بدماء جديدة ورؤى مستحدثة تحمل بصمات مابعد الحداثة في الفن وإرهاصات ملامحها ، فشارك مع زملائه في جميع معارض الجماعة والتي سبقها معرضه الشخصي الثاني على قاعة المتحف الوطني للفن الحديث في بغداد عام (1986) بعد معرضه الشخصي الاول في قاعة (كركوك)عام (1982) ،فأصدر كتيبا عن حياته واعماله ومشاركاته في المعارض الجماعية العراقية عامة،فكتب الناقد (فاروق يوسف)في صفحات الكتيب اهم سمات اعمال الفنان في ذلك الوقت تحت عنوان ( الانسان وسط عزلته) ...وباللغتين العربيه والانكليزية....

(منذ البدء ،وجدَ (برهان صالح) ان الرسمَ صفةٌ لماهو غير قابل للوصف ،لذلك نظرَ الى الإنسان وسطَ عزلتهِ ،كونه اللؤلؤة التي تزداد لمعاناً كلما مضى عليها الوقت .

لذلك نراه لايتماشى التعبير وبشكل مباشر عن الالم ، ليس باعتباره الحالة الاستثنائية في الوجود، بل بإعتباره المؤشر الوحيد الذي يؤكد موقفه عند مستوى انسانيته ...

لقد جرَّ (برهان صالح ) الرسمَ الحديث في العراق الى المنطقة التي كان يتحاشى البقاءَ فيها طويلا (التعبيرية)...فلايغيظهُ ان يكون وحده تعبيريا ً بل يصر على ان يكون تعبيريا حتى في اشدِّ لوحاته انحيازاً للتجريد .

واذا ماكان هذا الرسام يلجأ في احيانٍ كثيرة الى ان يصنعَ لوحاتَه باحجام غريبة عمّاهو متداول ،فان هذا الفعل لاينمُّ عن روحٍ استعراضيةٍ ترغبُ في تحقيق الإختلاف المظهري،بقدر مايظهر قوةَ الصلةِ بين الشكل الذي يتخذهُ العملُ الفنّي مظهرياً وبين مايظهره العملُ من تعبيرٍ عن مشاعرَ داخلية دفينة، يسعى الرسامُ الى اظهارِها من خلالِ خطوطٍ مختزلة ،خشنة، ومساحاتٍ توحي بالخشونةِ ، وهذا بالتحديد ماجعل تقنية الحفر على الخشب هي اكثر تقنيات الرسم ملائمةً لنقل مايرغب هذا الرسام في ايصاله الى المتلقي ...

وقد يكون مناسباً ان اؤكدَ ان هذه التقنية تظهرُ واضحةً حتى في تلك الاعمال التي ينفذها الرسام بالزيت ،فهي لاتعبر عن خضوعه لتقنية معينة بقدر ماتعبّر عن خاصيّته ...

هذا الرسام الذي لم ينجح فقط في تذكيرنا بالانسان وبعذاباته ،بل نجح ايضا في ايقاظ قدر كبير من إنتمائِنا لعالِمنا الجّواني،ونجحَ في دفعِنا الى ملاذِنا الحقيقي حيثُ نكون اكثر صدقاً في كلِّ مانطلقه من عاطفة....

فاروق يوسف
{عضو الرابطة العالمية لنقاد الفن(أيكا) }

هناك قَّلة من الفنانين التركمان الذين اثاروا جِدالا وتساؤلاتاً حولَ أعمالهم الفنيّة مثلما فعل الفنان (برهان صالح )،ولازال رصيده من هذه التساؤلات يتصاعد في كل معرض جديد يقيمه في خارج الوطن،فنقاد الفن محقين بهذا الصدَد في الكتابة عن اعمالهِ لأنها تشكّلُ بالنتيجة علاماتَ استفهامٍ كبيرة عن المنابع الاساسية التي يستقي منها الفنان عالمه الغرائيبي ،فمنهم من تناول اسلوبه التعبيري في طرح احاسيسه وافكاره الفنية ومنهم من أكّد بعمق ٍ على مقدرته الفنية في انجاز الشكل الفني (التقني والحرفي) المطلوب والمناسب لكلِّ لوحةٍ من لوحاتهِ بصرف النظر عن احجامها وقياساتها ...وقد تاخم الناقد (فاروق يوسف ) بخبرته الفنية العالية هذة النقطة الحساسة في كل ماكتبه حول الفنان وجماعةِ (افق) في الثمانينات في حين ظلت دراسة المحتوى الفني لاعمال الفنان مشرعةً على إجتهادات فرديّة تتقاطع فيها البيئة والظرف الزماني والمكاني والاحداث التاريخية والسياسية وتاثير الطفولة والخصوصية القومية والوطنية ومؤثرات الفولكلور والمثيولوجيا والاساطير والموروث الاثني والذاكرة الجمعية والظرف الاجتماعي في تكوين البنية الداخلية (النفسية والسلوكية) والتي تتلامح ، شئنا ام ابينا ،في اعمال الفنان واعماقه...

والغريب ،بان النقد التشكيلي العراقي ،او بالاحرى ، الدراسة المنهجية العراقية لاعمال الفنانين لازالت محكومة بتطبيق القواعد النمطية لكل الفنانين العراقيين قاطبةً وبنفس القياسات بدون ان تتناول تلك القواعد النمطية الصيرورة التاريخية والاجتماعية التي تؤثر،سلبا ً او ايجابا ً ، على الفنان وتحتم خصوصية ابداعه من منظور إنتمائه الاثني ومن خلال خصوصية ميراثه القومي ...

فهذه الالتفاتة للاثنيات القومية المتعددة في العراق ليست خطاباً سياسياً بل ترسيخا لمنابع الابداع الزاخر بروافده التي تزيد الفن الرافديني ثراءاً وغنىً انسانياً وثقافياً وفنياً ،فلا يمكن تجريد لوحة (جورنيكا) لبيكاسو مثلا عن خطابه الانساني العام وعن تنصاته المحلية المشحونة بالدلالات والرموز الزاخره في الموروث الاسباني وينطبق نفس الحالة على اعمال الفنانين والادباء والشعراء العالميين عندما نتناول اعمالهم بالدراسة الاستقرائية الجادة والمعمقة

لقد توافرت لديّ مقالاتٌ عديدة ودراسات جميلة عن الفنان (برهان صالح) وعن تجربته الفنية وملفِّهِ الفني العميق ،ولكن مااثارت حفيظتي حقا هي مقالة للناقد (عدنان حسين احمد) الذي يحاول فيها لوي عنق التاريخ وادخاله من ثقوب ابواب موصدة فيما يخص مدينة(كركوك)تحت يافطة (تعددية الاعراقُ) فيها وتكراره الممل لمدلولات ِ هذه الجملة ومترادفاتها ،وتأكيده على ثراءِ (كركوك)بالاساطير والميثيولوجيا والقصص الخرافية والفولكور الغارق في القدم الذي يملكه هؤلاء الـ(متعددوا الاعراق) الساكنين فيها ،والمقصود بهم المستوطنين الاكراد في المدينة،متعددا (الذكريات المحفورة على جدران حيّ المصلى وآجُرُ القلعة القديمة والازقة الشعبية وـ الشواخص الاثريه ـ التي خلفها الانسان المتحدر من اصولٍ تركمانية وكردية و...و..و...) ..ثم يسرد متحدثا عن رموز ميثولوجية وعن القصص والحكايات والاساطير فيها ولا ادري إطلاقاً عن اية مثيولوجية واساطير وقصص،ناهيك عن (الشواخـ ..ـص ... الاثـ .. ـر .. ية) التي يملكها الاكراد في مدينه (كركوك)وهم استوطنوا المدينة قبل خمسة عقود فقط!! في جميع الشواهد والاثباتات والوثائق والمستندات التاريخية ...وكيف تمّ هذا التراكمُ ُالحضاري من القصص والاساطير والميثيولوجيا ومن (الشواخص الاثريه ) في خمسين عاما فقط من المعايشه في مدينةحتى كتاب الستينات فيها او ماتسمى (بجماعة كركوك) اجحافاً،اقولُ اجحافاً لانها شملت واحاطت باسماءِ الكتّاب والشعراء الذين يكتبون باللغة العربية فقط ومنهم كتاب من القوميه التركمانيه امثال الكاتب وحيد الدين بهاء الدين والمرحومين قحطان الهرمزي وسنان سعيد في تلك الفترة والذين لم ياخذوا استحقاقاتهم المطلوبة في حين كانت المدينة حافلةً بالادباء والشعراء ورواد الصحافه والفنانين التشكيلين والمسرحيين والمؤرخين وقُرّاء المقام المبدعين الذين ارسلوا بجدارة سمات مدينة (كركوك) وطابعها التركماني في فترة الستينات فلم تتمُّ الاشادة والإ شارة بهم من (المركز)العربي لكونهم فضلوا الكتابة بلغتهم الام التي كانت تتقنها غالبية (جماعة كركوك) الذين عكسوا في قصصهم وقصائدهم وروايتهم الكثير من المناخات الاسطورية والاجواء الشعبية وحتى النكهة التركمانية لطابع المدينة مثل فاضل العزاوي وجليل القيسي وانور الغساني (الذي يقر بتركمانيته)بالاضافة الى النهليستي (جان دمو)الذي ربطتني به خصوصية صداقه متميزة قائمة على احترام متبادل ،ربما لاول مرة في حياته،والذي كان يحثني دوما على قراءة المزيد من اشعار الشاعر التركماني (فضولي ) التي كان يتذوقها بتأمُّل ٍ خاص مرددا بان روح الشاعر (فضولي) لازالت تهيمن على طابع اجواء كركوك...

لقد عاصرتُ الحركة التشكيلية في كركوك وساهمت في معارضها الفنية منذ نهاية الستينات فلم اجد كرديا فيها حتى نهاية السبعينات بينما ساهم اخواننا العرب مساهمة فعالة في المعارض التي يقيمها التركمان،ادارة وتنظيما وابداعا، مثل الفنان محمود العبيدي والاستاذ المبدع ناصر خلف بالاضافة الى بولس عيسى وجميل شمعون لاحقا من القومية الاشورية

انني حتماً مع المعايشة الاخوية العراقية القائمة على العدل والانصاف والابتعاد عن الشوفينيه البغيضه واسلوب الاحتواء والبعد عن الحقيقة والتسلط بقوة السلاح والادعاء الاحمق بضم قلبٍ خافق بالثراء الانساني النبيل الى خنجر جسد مسموم يسمى كردستان،متيقنا بحكم المعايشه بان هذه المدينه ذات طابع تركماني في كل حيثياتها الثقافية والتاريخية وفي (شواخصها الاثريه)قاطبة وبدون استثناء وفي طابع معمارها وجوامعها وتكاياها ومقابرها وخاناتها وحماماتها وعاداتها الشعبية الغائره بالزمن وفولكلورها ومراسيمها الاجتماعية واساطيرها وقصصها وملامحها وقصائدها ومراثيها واغاني هدهداتها وسمات اشعارها الشعبية في اغانيها وفي كل ملامح اجوائها الثقافية، التي تبدو الان في كتابات بعض المستوطنين مثل زهدي الداوودي مستكردة او مستعربة،لقد حملت هذه الاجواء ولازالت تحمل نواة تفتحها الخاص في اعمال الفنانين التركمان ومنهم الفنان (برهان صالح)الذي تلاقحت اعماله واشرأبت بضبابيه خجوله حينا ً وصارخة مؤلمه احيانا من أديم هذه المدينة ومعاناة تغيير طابعها الديموغرافي والثقافي .....

لقد كتب الناقد (محمد مهدي حميده)عن تباريح الفنان ومنجزه البصري العميق في (الف ياء)مايلي ...
(يمتلك التشكيلي العراقي (برهان صالح )تجربة تشكيلية عريضة في ابداع اللوحات المصورة او الرسوم المنفذة بتقنية الحفر الخشبي (الكرافيكية ) والتي تمتاز في الوقت نفسه بالغزارة في الانتاج والسعي المتواصل نحو تجريب دائم يفي بحاجة الفنان الداخلية للوصول الى نتائج لم تستهلكها العين من قبل وتمنح البصائر استشرافات نضرة لاتملُّ ابداً من استجلاها عبر طاقاتِ اللون او نصاعة ِالابيض ورصانة ورسوخ الاسود، وهو فنان يعشق الاشتغال الدؤوب كما انه دائم البحث في شتى العلاقات البصرية ، الخطية واللونية التي من شانها ومن توالداتها المختلفة ان تضيفَ الى تجربته الابداعيه رُؤى وحلول جمالية متجددة لاتخضع لاسلوب محدد ولاتتوارى خلف قناعات سطحية عديمة الجدوى وهشة لاوجود لها ولامكان مع عمقِ الطرحِ الذي ينبع عبر علاقات ومكونات لوحات تقدم ذاتها دونما إدعاء او تضليل ...

الصياغة ومايجب ان تكون عليه هي احد الركائز الاساسية من منطلقات (برهان صالح) الاشتغالية التي يُوليها جُلَّ اهتمامه في السبيل الى تفعيل خطابه البصري،وهي في ذات الوقت معلم من معالم عالمه التشكيلي فمنها وبها واليها تولد المعاني وتتتابع النتائج وتتحلق القلوب في موضع يرتجي منه دوما ان يكون بؤرة التقاءٍ وتجاذب كلما كان امينا في ايصال الاحاسيس ونقل التعبيرات والانفعالات وتدشين المضاميين ...

فالتفكير المرئي الساعي دوما لايجاز دقيق لمجمل من الافكار والطروحات الذهنية والاحاسيس والمشاعر الوجدانية لهو احد اهم المستهدفات التي يحاولها التشكيليون في منجزاتهم التي يتخيرون اظهارها للوجود من خلال اساليب بعينها يرونها تتسق مع قدراتهم الادائية اضافةً الى كونها الاكثر ملائمة في لعب دور الوسيط الامين بين المحمول الذهني والمنتج المرئي المتحقق فعليا مع الانهاء من عملية الابداع ذاتها ،ولوحات (برهان صالح)تعني فيما تعني من موضوعاتها العديدة بعوالمٍ اسطورية مستلهمة من الموروث الحضاري العراقي القديم ،وهو موروث عريق وعميق تجلّى في كثير من الاثار والمنجزات الفنية الحضارية منذ الاف السنين ونرى له الان صدى واستلهامات كثيرة في شتى فنون البصر وغيرها من افرع الابداع الاخرى كما انها تعني ايضا بالشخوص البشرية من نساء ورجال يؤلفون فيما بينهم مشاهد درامية متنوعه وموحيةٍ باكثر من معنى ،فنراهم تارة يستجيبون لعناقٍ والتحام حد الذوبان والاندماج في كيان واحد وتارة نراهم شاخصين في حالة من الترقب والانتظار والتحديق الى حيث لايمكن لنا ان ندرك المتوارئ في تلك المرامي والماورائيات النائية ...

وتاتي الرموزُ والاشارات الخطيّة والرسومية كالزهور والأهلة والنباتات واجزاء من الاسيجة الخشبية او المعدنية وغير ذلك من العناصر المنتثره في ثنايات المسطحات البصرية كادلةٍ صغيرةٍ تقودُ نحو المضامين العميقة والفلسفات والافكار الرصينة التي لاتتكشف الاّ لمن تريدُ من متامليها والباحيثين باخلاص عن كنهها...

إن ظروفَ الاعتقال ، والتجارب النفسية المريرة،وماولدتهُ من ضغوط شديدة الوطاة تركت بصماتها على منجزه الكرافيكي خاصة والتشكيلي عامة ، وقد تجسدت هذه المعاناة الشخصية في اعماله الفنية،فلوحته او عمله الكرافيكي لايضج فقط بالرموز والاشارات الاسطورية ،وانما هناك طلاسم وايقونات ، وشيفرات توحي بالضغط النفسي الذي كان يتعرض له الفنان طوال حياته في العراق ....

ولان خطاب (برهان صالح)هو خطابٌ لونيٌّ في الاساس فان المسطح البصري لديه يضج بالالوان الصريحة الزاهية التي تتجاور فيها الالوان الحارقة مع الالوان الثلجية والباردة في تباينات لاتزكي روح التنافر بالقدر الذي يسعى فيه لخلق نوع من التعايش والالفة تحت مظلة منشودة تهدف الى تصالح المجموع في عالمهم الواحد الذي يكون لكل منهم دوره المستقل فيه والذي لاغنى عنه بالنسبة للبقية الباقية،ان الالوان المتباينة تتصالح فهل تتصالح الطوائف والعرقيات هي كذلك بالشكل المامول والطريقةِ المنشودة ....؟؟

ويؤكد (برهان صالح)في لوحاته على تحرك وديناميكية المسارات الخطية وتداخلها بمايسمح له بانتاج فيض من مساحات متقاطعة مع بعضها البعض ومتنوعة في اشكالها وكذلك فيما تشغله من ابعادٍ تتباين او تتشابه خلال المساحات الكليّة لمختلف اللوحات التي يتسبح خلالها الفنان سيمفونياته اللونية المشبعة بالرغبات والطموحات وكثير من امنيات الإنعتاق والتحرر والذهاب الى حيث تكون الرحابة التي يصعب استقصاء حدودها او تصور كنه خطوطها الخارجية المتلاشية حتى بداخلِ المخيلات...!!!