المتحف العراقي.. ينفض عنه غبار التخريب وصدأ الوحشة

المقاله تحت باب  أخبار و متابعات
في 
24/02/2009 06:00 AM
GMT



رغم الخلافات حول موعد افتتاحه يوم الاثنين

المتحف العراقي.. ينفض عنه غبار التخريب وصدأ الوحشة

 اقترابا من موعد افتتاح المتحف الوطني العراقي، لا بد من القول انه خبر سار، مفرح، مؤثر، خبر تضحك له الانفس، وتنشرح له الاسارير، فالمتحف العراقي.. عاش محنة كبيرة، عاش خلال السنوات الست الماضية وهو مغلق كئيب، لا يضم اشياءه سوى الظلام، لا تحتضن قاعاته سوى الفراغ، فهذا الاثر الشامخ علامة من علامات بغداد المميزة، مكان من امكنة التاريخ والحضارة، والخبر.. يقشع الغمامات التي تلبدت في سماء بغداد، يفتح افقا جديد في التصورات الجميلة للحياة التي تعود اليها بغداد، فالافتتاح لن يكون حدثا عاديا، بل سيكون تأكيدا على ان بغداد تنفض اخر ذرات الغبار عنها وتفتح ابواب التاريخ من جديد، وقد لا اكون معنيا بالخلاف، بقدر ما وجدت نفسي اشعر بأبتهاج، ان اقفز مثل لاعب كرة قدم يسجل هدفا، او حتى حين تذهب كرته لترتطم بالعمود، ان ازغرد في (ليلة حنة) لعريس شبع انتظارا، فأنا لا احتمل ان امر من باب المتحف ويواجهني بكآبته ووجهه المغلق الجامد، لست معنيا الا بالخبر، وسواء (تعاركت) وزارتا الثقافة والسياحة، فلن انظر الى عراكها، بل سأردد قول الشاعر الراحل يوسف الصائغ:
 
(أنا لا أنظر من ثقب الباب الى وطني/
لكن انظر من قلب مثقوب /
وأمّيز بين الحب الغالب والحب المغلوب).

 وزارة الدولة لشؤون السياحة والآثار العراقية اعلنت ان الافتتاح سيكون في يوم الاثنين الثالث والعشرين من شباط / فبراير الحالي، ولا تغيير في الموعد، على الرغم من الخلافات التي كانت حول موعد افتتاحه، وان احتفالية كبيرة رسمية ستقام بهذه المناسبة بما يستحقه المتحف، كما اشار فوزي الاتروشي وكيل وزارة الثقافة (ان الاجراءات ماضية لافتتاح المتحف رغم الاعتراضات)، فيما اعلن المستشار الاعلامي لوزارة الدولة لشؤون السياحة عبد الزهرة الطالقاني للوكالة الوطنية العراقية للانباء/نينا/ (الاحد) ان يوم (غد) الاثنين سيشهد افتتاح المتحف بعد ان تمت اعادة تاهيله بالكامل، واضاف: ان الوزارة بذلت جهودا كبيرة لافتتاح المتحف في الموعد المحدد وبدعم مباشر من رئيس الوزراء نوري المالكي ووزير الثقافة ماهر دلي، واوضح: ان المتحف سيستقبل (يوم الافتتاح) مسؤولين حكوميين عربا واجانب، تمت دعوتهم لحضور حفل الافتتاح، كما اكد ان المتحف سيستقبل كذلك بعد الافتتاح السفرات والمجموعات السياحية من السكان المحليين والسائحين العرب والاجانب الراغبين بمشاهدة الاثار العراقية، ومن المتوقع ان يحضر حفل الافتتاح رئيس الوزراء نوري المالكي ووزيرا السياحة والاثار والثقافة بالاضافة الى عدد من الوزراء، كما اكد قيس حسين رشيد، رئيس الهيئة العامة للآثار والتراث / وكالة في تصريحات صحفية على افتتاح المتحف في الموعد المحدد له، موضحا ان المتحف سوف يفتتح جزئيا وبواقع  تأهيل 9 قاعات من مجموع 23 قاعة.

 من جهته اكد المركز الوطني للاعلام التابع للامانة العامة لمجلس الوزراء العراقي عن تعاطت الصحف الغربية مع خبر قرب إعادة افتتاح الحكومة العراقية للمتحف الوطني بإيجابية، مشيرا الى  صحيفة نيويورك تايمز التياكدت (أن افتتاح هذا المعلم البارز الذي طال انتظاره  سيضاف الى الجهود التي تبذلها الحكومة لاسترداد وحماية المواقع الاثارية والمواد التاريخية بعد ستة اعوام من الضياع والتدمير الذي طالها نتيجة احداث العنف، ونقل المركز عن الصحيفة تصريحا لوزير الدولة لشؤون السياحة والاثار قحطان الجبوريقال فيه: إن الحكومة العراقية عملت على تجديد وترميم المتحف الوطني بوسط بغداد منذ اشهر، وتخطط لافتتاحه أمام الزائرين قبل نهاية الشهر الحالي، مضيفا أنه سيتم حماية المتحف والمواقع الاثارية الأخرى من قبل قوات تابعة لوزارة الداخلية تسمى بقوات حماية الاثار. 
 
  وكان عليّ وانا اسمع الخبر، على الرغم من الجدل والخلافات حول موعد افتتاحه، ان اقف بمواجهة المتحف واتطلع الى جغرافية المكان الذي يقع فيه، انه مكان يتركز في وسط المدينة، ويمتلك خصوصيته، وقد  بني مطلع الستينيات وفق الأساليب الفنية الحديثة في بناء المتاحف وافتتح عام 1966،على الرغم من انه تأسس عام 1926 وكان يقع في منطقة ساحة الرصافي الحالية قرب شارع الرشيد، وان استذكر محتوياته التي كنت اشاهدها عيانا حينما ازوره واتجول في قاعاته، واعاين تحفه وكنوزه، واتأمل الحضارات وهي في متناول نظراتي واستمد منها فخرا كبيرا، وتدفعني الى قراءة واقع العراق في الازمنة الغابرة وما يمثله في الواقع الحالي، حيث تتعالى في سقف ذاكرتي اضواء لامعة ومواكب تترى، واشخاص بهيئات ملونة يعبرون، ذوو سحنات مختلفة وازياء غير متشابهة وبلغات ولهجات عديدة، راجلين وراكبين، على البر او في البحر، تتغير من حولهم الاشياء، ولا يتغيرون، ترتفع اصواتهم بالغناء والتراتيل والحداء، اصوات.. تتجسم نبراتها او تنخفض، وعيونهم تبرق بألتماعات تتباين في صورها واشراقاتها، والنظرات تتطلع الى البعيد، الى افاق لا حدود لها، اما الملامح فهي مما نراه كل يوم في الشوارع والاسواق وكل الاماكن الاخرى.

  فالمتحف المهيمن بسحره على المكان، والذي يمثل علامة فارقة هناك، يقع في منطقة (الكرخ) بالتحديد في (علاوي الحلة)، وعلى مقربة منه ساحة تحمل اسمه (ساحة المتحف)، في نهايتها،خلف السياج، يرتفع مجسم لباب عشتار البابلي، لابد ان يراه العابر، وباب المتحف الرئيسي يطل على شارع جميل تتعالى فيه الخضرة وتتعالى اشجار النخيل ويترامى الهدوء، يؤدي الى (الصالحية) وحيث امامه يمتد حي الصالحية، كان عليّ ان انظر التمثال الابيض الواقف خلف السياج ليمثل دلالة على المتحف، انه يشير الى نفسه كواحد (مستنسخ) من حضارات سادت ولم تزل اثارها تضيء ازمنة غابرة، تطلعت الى الباب المغلق، تراءى لي وهو يشهق بمصراعيه وينفض عنه صدأ الغربة التي عاشها على مدى سنوات ست.

 لسان حال المتحف الذي كان يحتل المرتبة السادسة على مستوى العالم.. حين يحكي حكايات الذاكرة التي يحفظها داخله، تجده يحكي عن قصة الامس القريب، حين تحول الى ضحية من ضحايا الحرب، وقد استبد به العبث عام 2003، وراحت محتوياته تتعرض للنهب والسلب والتدمير، اصبحت قطعه تتناهبها ايدي اللصوصية والكراهية والحقد، تحمل ما خف وزنه، وتحطم ما ثقل وزنه، وتهشم ما تهشم بقسوة ودم بارد لعين، وتشوه ما تشاء من التحف والكنوز، واختلف اللصوص بملامحهم ولهجاتهم التي يرطنون بها، ليس ثمة فرق في التسمية، كلهم عابثون بهذه الذاكرة الحية لوادي الرافدين، كنت ارى كيف اصبح المتحف عبارة عن مجرد قاعات خالية ومظلمة باردة، وكيف راحت محتوياته من البرونز والرخام والحجر الجيري يطاح بها وتتحول الى نثار، وكيف راحت قطعه تتراكم على بعضها في احواض سيارات وتهرب بعيدا في اتجاهات العالم المختلفة، كنت ارى تمثال حجري للملك المقاتل شلمنصر الثالث من القرن التاسع قبل الميلاد وهو يقيد بالحبال، وارى وجها من الرخام لامرأة سومرية وهو يستغيث، وارى تمثال الفتاة السومرية أو ما يعرف بـ (موناليزا العراق) وهو ينتهك بقبح الايدي السارقة، ورأيت ثورين من البرونز يخضعان للصيادين، ورأيت عشرات الالاف من القطع تبكي على فراق المكان الذي احتضنها بالفخر والسرور.
 
هاهو المتحف الوطني العراقي يحرك ما سكن منه، يتململ من سباته، يجري التحضيرات لاعادة نفسه الى الحياة بشكل مميز، يعيد الى بغداد شيئا من سعادتها وابهتها، وسيعود اليه الناس مستفيدين من شعاعات الحضارة، فيما سيذهب طلاب المدارس اليه لاستقراء صور عن اجدادهم وكلمات خلفتها حضارات وادي الرافدين العريقة.