المقاله تحت باب محور النقد في
15/10/2009 06:00 AM GMT
ألا يزال صالح القره غلي حيا؟ لا أدري. ما أنا على يقين منه أن الرجل هو اكثر حياة من كثير من الاحياء. فيه شيء من الخلود. شيء مستلهم من فكرة عراقية غامضة عن الكون بجانبيه المرئي واللامرئي. كان القره غلي الذي لا ينتمي الى زمن بعينه يقيم دائما في الجانب الذي لا يرى من الكون. نصف رغيف له والنصف الآخر لجلجامش، جده من جهة الام. كانت منحوتاته تعج بالنساء. انوثة منحوتاته تفصح عن نوع متوحش من الغرام.
لم تكن تلك الانوثة برية بل كانت تصدرعن حضارة أخرى. حضارة تسخر من ذكورتنا الكاذبة. سيترك الرجل لنا كائناته التي هي مزيج من رمادنا ولهبنا، من وجودنا وعدمنا، من ذكورتنا وانوثتنا لتسحقنا ببسالتها وعلو شأنها ونبل اخلاقها واعتصامها بصمتها. لقد ترك لنا القره غلي فضيحة لا تتشبه بأفعالنا الناقصة. كان الكمال واحدة من اعظم مشكلات ذلك النحات الذي ولد منتصف ثلاثينات القرن العشرين. في حقيقة ما انجز لم يكن الرجل باحثا عن الشكل النقي الكامل، بقدر ما كانت منحوتاته هي لسان حال ذلك الشكل. كان يجد ان من حقه ان يتجاهل العالم الذي يجاوره، أن يتجاهلنا ويتجاهل كل اسئلتنا الفانية. لا لأنه يعتقد انه سبقنا، فلم يكن مهتما بقياس المسافات، بل لانه لا يرى ان هناك شيئا ما يجمعه بنا. ندرته هي سبب عزلته وعزلة كائناته. لا اعتقد ان هناك احدا ما في امكانه ان يزعم انه عرف صالحا جيدا.
في المرات القليلة التي التقيته فيها كان يساورني نوع من الشك في ان الرجل كان موجودا دائما. غالبا ما كنت اتوقع منه ان يقول لي: اعتذر لاني قد اغيب في اية لحظة. على اية حال لم يكن الرجل صالحا للاستعمال الصداقي دائما. ما استنفد منه يبدو عصيا على اية محاولة للاستعادة. ما كان يختفي منه انما يحذف من الوجود نهائيا. المواد التي كان يستعملها في صنع منحوتاته وهي اسلاك وحبال وصفائح نحاسية وسلاسل وجير كانت تتحول بين يديه الى اشباح متخيلة تفر بعيدا عن كل شكل يشي بها. لا ينكر القره غلي مواده بقدر ما كان يسعى الى اعادة تسميتها: شيء من حقيقتها يمكن ان يكون نافعا في اعادة تربيتها عاطفيا. 2 لا أتذكر انه حدثني عنها. أشك في انه كان يتذكرها. كما لو انه كان يتركها في المكان الذي وجدها فيه مطمئنا الى ان احدا لا يمكنه العثور عليها. تلك الكائنات الخرافية التي يركبها من حكايات واشكال وأشعار واحلام وهذيانات كانت تتوارى. ربما تفعل ذلك لتنسى أنها كانت موجودة في مكان بعينه. هي ذاتها لا تعرف لماذا كانت موجودة. هل كان خالقها يعرف اسباب وجودها؟ كائناته المتوحشة لن تتعرف عليه وهو الذي كان يعيش منفيا في المكان الوحيد الذي كان في امكانه ان يتعرف عليها. ذات مرة رأيت تمثالا من القره غلي ملقى بإهمال في مرآب السيارات التابع لمركز الفنون في بغداد. كانوا يعرضونه للشمس (اسلوب غريب في الصيانة). غير ان حزن ذلك التمثال لم يكن ليخفى. يومها شعرت برغبة غبية في ان اغمض عيني عن الحقيقة.
حقيقة ان ذلك التمثال المطرود قد رآني. من كان اللص؟ صرت في سري اكره صالح القره غلي بل وصرت ألعنه. أكان لزاما عليه أن يخلق هذا الكائن الرهيب لأجده أمامي مشردا مثل ملك سومري؟ كلما التقيت القره غلي شعرت انه يعيش فائضا. تمثاله الملقى في الشارع هو الآخر كان فائضا. لقد ذكرني ذلك التمثال بأنني كنت فائضا. كانت تماثيل القره غلي تنظر إلى جهة غير معلومة، جهة لا يقيم احد ممن نعرفهم فيها. جهة لا يعود منها احد. هل تقيم الآخرة في مكان بعينه؟ أعتقد ان كائنات القره غلي الخرافية تحن إلى المنجم الذي خرجت منه. يد النحات وهي تحلم ما تفكر به لا تحن الى ماضيها. حملت ذلك التمثال المطرود جرحا الى المنفى. ذلك الملك المنفيّ الذي صرت اشبهه ما فتئ يأتيني في الاحلام. 3 لم يكن صالح القره غلي معنيا بالنحت الممكن. اختراع كتلة او استخراجها من المادة. لم يكن الفراغ ليعذبه وهو الذي اغمض عينيه على مطلق بعد ان رأى مثلما فعل جده جلجامش من قبل. بعينين مفتوحتين على المطلق يمد النحات نظره ليكون ذلك النظر بمثابة العصا التي تمس اليد بها الأشياء. تلك الاشياء المسكونة بسحر منافيها. بعريها الشعري من كل معنى. بفيض قوتها الاستفهامية. يجلب القرغلي كائناته من أرض لم يروضها الوقت. تلك بلاد أخرى. ستقول العين فيما اليد تلتقط ضالتها بيسر. غريبا كان القره غلي يقف وحده. ألم يحن بعد موعد القيامة؟ كائناته المسحورة المستسلمة لقدرها تفتش في مشكاتها عن بقايا مصباح. لا تنفع تلك الكائنات في الصداقة. حيرتها تنزع الاحجار عن الجبل وتقشر الصحراء.
عري كامل يذهب الى الفضيحة. كنت اجمع دموعا من عينين سومريتين. هل كان القره غلي يغرف مواده من بحيرة ساوة؟ صنع ذات مرة جسدا ملتبسا بثلاثة رؤوس لفتيات نضرات لم يغادرن البراءة بعد. خرافة تشبهه. تغريه أنوثة كائناته الحائرة بالجري وراء خرافة تعيد الانسان الى الينبوع: بداهة جمال. عرف القره غلي كيف ينجو بالصلاة من المعبد، يعيد الكاهنات إلى أجسادهن، يهب السابلة المرحين عيونا مستعارة من لحظة غزل لم يعشها أحد من قبل. لا اعتقد ان احدا رأى منحوتة من القره غلي ولم تطارده في أحلامه عينان مستفهمتان. ما الذي كان القره غلي يراه في أحلامه؟ أعتقد ان يده التي كانت تبث أحلامها في الفضاء لم تكن راغبة في سبر اعماق عينين مغمضتين، حتى لو كانتا عيني القره غلي نفسه. لن يكون القره غلي صنيعة منحوتاته، وهو الذي القى بتلك المنحوتات الى الحياة العلنية من اجل ان يتحرر منها. 4 لا بأس أن نتذكر هنا ان صالح القره غلي كان يدرس النحت في اكاديمية الفنون الجميلة ببغداد. هل كان طلابه سعداء بشبحه الصباحي اليائس؟ كان غريبا وسط طلابه مثلما هو غريب بين زملائه الذين كان بعض منهم يعرف جيدا قيمته الفنية. لقد عاش حياة شخصية سرية تشبه الى حد كبير تلك الحياة التي بعثها في أعماق كائناته الخرافية. في المرات القليلة التي زرته فيها في بيته لم الحظ آثارا لحياة أسرية. دائما كانت هناك صناديق ورقية مغلقة تحيط بنا. اما الاثاث القليل فانه يكفي لحياة انسان وحيد، متقشف ولا ينتظر أحدا. حياته الشخصية مثل منحوتاته لم تكن موضع نقاش مع الآخرين. يومها كنت أخرج من بيته وأنا مكتظ بأوهامه.
ليست هناك معلومة مؤكدة. كان الرجل خزانة أوهام. هل كان يستخرج منحوتاته من تلك الخزانة؟ ربما كان القره غلي هو النبوءة العراقية المبكرة للانتقال إلى فن ما بعد الحداثة. كان عالمه الذي لا ينتمي إلى زمن بعينه يتشكل من مواد يومية قابلة للتلف بما يجعلها تهبنا خيالا مغرما بالحذف والاضافة. عن طريق الخطأ وضعوا تمثاله تحت الشمس في المرآب، وكما أعتقد الآن فإن ذلك المرآب كان المكان الملائم لعرض ذلك التمثال لا القاعة المغلقة.
|