رغم محاولات التشويه… الموسيقى العراقية تصدح

المقاله تحت باب  في الموسيقى والغناء
في 
13/10/2009 06:00 AM
GMT




 
ربما التمرد، أو المقاومة… ربما الهروب حيث الجمال من عالمٍ بات القبح ومنظر الدم أهم ملامح وجهه الكالح المغلف بدخان الموت ورائحة البارود، ما يكمن وراء اندفاع الموسيقي العراقي نحو زاوية الفن والإبداع، مبتعداً وروحه عن منظر الخراب ورائحة الموت.

الملاحظ، ورغم كل ممارسات الخراب التي شهدتها البلاد، أن توجهاً فنياً لا ينقصه الإصرار يقوده العديد من الموسيقيين العراقيين، يتجه نحو محاولات جادة لإنعاش الموسيقى العراقية والارتقاء بالذائقة الفنية لدى الفرد العراقي، تلك الذائقة التي تعرضت للتشويه والميوعة سنوات عديدة، من خلال كم الأغاني الهابطة التي بدأت بأغاني الحروب وتمجيد الديكتاتور، وصولاً إلى التغزل بالموت والفواكه ورقص الغجريات وزج العديد من المفردات الشاذة في عالم الأغنية والموسيقى العراقية ” يا ريت تصير أنتَ الموت والدفّان والتابوت، حبيبي “، ” أجيبك للدرب لازم أجيبك… متراهن عليك أصبح حبيبك “، ” يا ريت أنا رصاصة وأدخل بقلبك حبيبي “، ” يا حلو يا حنطاوي، طولك مدفع نمساوي ” هذه النماذج وغيرها الكثير من الإسفاف ومحاولات التشويه، ظلت توخز مسامع الناس لفترة استمرت لأكثر من عقدين وبفترة أنتجت جيلاً مشوهاً من ( المطربين والملحنين والشعراء )، مفرداتهم الأسلحة وجملهم اللحنية لا تتعدى النشاز حاملة صور الموت بأحسن الحالات، وهذا الحال استمر طويلاً حتى بعد مرحلة دخول قوات الاحتلال، حيث هاجر هؤلاء ( الفنانين ) الجدد حاملين تشوهاتهم وخرابهم إلى الدول العربية والعمل هناك في الملاهي الليلية والاستوديوهات الرخيصة، والذين سرعان ما تلقفتهم القنوات الفضائية الهابطة وتلك التي تعمل جاهدة لتشويه صورة الفن العراقي… إلا أن البلد الذي تشبَّع بطقوس الفن الراقي في فترات سابقة خصوصاً فترة السبعينيات، والذي يمتلك جذور فنية راسخة وذائقة فنية وموسيقية عالية، الذي يمتلك أذن موسيقية تدربت على موسيقى وأصوات، ناظم الغزالي، منير بشير، وحيدة خليل، زهور حسين وسليمة مراد، الكويتيان صالح وداود، رضا علي وعباس جميل ومحمد القبنجي وغيرهم، ناهيك عن تلك التي تحتويها البيوتات العراقية من أغانٍ لفيروز وصباح فخري والصافي وأم كلثوم والعديد من كبار الفن العربي، لا يمكن أن يستسلم بسهولة مهما تمادت محاولات التشويه التي أنزلت على كاهله… فاليوم ورغم كل تلك المحاولات، نجد انتعاشاً ملحوظاً تعيشه الموسيقى العراقية. الواقع الذي نتلمسه اليوم داخل الساحة الفنية العراقية، يشير إلى انبثاق روح الموسيقى العراقية المبدعة من تحت ذلك الخراب، فهي الآن تنحو صوب العلمية والبحث والتجريب، وتتجه صوب هدف طالما طالبت به الكثير من الأصوات الثقافية والفنية العراقية وخصوصاً النقدية منها، أصوات كانت تطالب بالوقوف والتصدي العلمي والمدروس بوجه موجات تخريب الذوق العام التي كانت سائدة… فرق موسيقية انبثقت من وسط الدخان وأصوات الرصاص، وأخرى كانت قد سبقتها في الظهور، مثل فرقة ” منير بشير ” التي تعد أول فرقة موسيقية عراقية متخصصة بالأداء التقني لآلة العود، حيث تأسست عام 2001 وأثبتت قدرتها على التجريب الموسيقي الحديث، والتي تضم أكثر من عشرة عازفين درسوا الموسيقى وتخصصوا بآلة العود، يعمل أغلبهم في مجال تدريس الآلة في المعاهد والجامعات العراقية… اليوم وعلى الرغم من التهديدات المستمرة التي يتلقاها الموسيقي العراقي من جهات عدة، ورغم محاولات التهميش، نجد الساحة العراقية عامرة بالعديد من الفرق الموسيقية التي تقف بوجه التحديات بعد أن تلمّست محاولات طمس تاريخها وأرثها الموسيقي والغنائي… لعل اسم فرقة ” خماسي الخمّاش ” الموسيقية يحمل دلالاته العميقة، فالموسيقار الراحل، فلسطيني الأصل، روحي الخمّاش ( 1920-2000) أرسى أسس مهمة في عالم الموسيقى والإنشاد العراقي، والفرقة بهذا الأسم تكون قد أحيت ذكرى هذا الموسيقي الكبير، وأحيت وأيضاً ذكرى فرقة ” خماسي الفنون الجميلة التي تأسست عام ( 1975 ) والتي كانت تضم خمسة عازفين من أهم أساتذة الموسيقى العراقية في معهد الفنون الجميلة، وكان الراحل روحي الخمّاش من بينهم… فرقة ” خماسي الخمّاش ” تعتمد تقديم الموروث الغنائي العراقي بطريقة مبتكرة حيث تقنية الاستغناء عن الكلمات واستبدالها بجمل موسيقية تحرك تأثير الكلمات الغائبة داخل روحه المستمع، وكأنها دعوة لمشاركة المستمع في غناء وجداني يعتمد الإيحاء الموسيقي… الفرقة يقودها عازف العود أحمد عبد الجبار، وتضم عازفين متمكنين درسوا الموسيقى في المعاهد والكليات العراقية…

على الرغم من أن الموسيقي العراق صار يعمد إلى إخفاء آلته الموسيقية في أكياس القمامة السوداء خوفاً من الاغتيال بعد موجات عارمة من التهديد، إلا أن الحضور الموسيقي العراقي الذي تشهده قاعات العروض والمنتديات صار سمة ملازمة لكل فعالية فنية كانت أم أدبية… ولم تكتفِ الفرق الموسيقية العراقية الجديدة بهذا، بل راحت تحفز جهات ثقافية أخرى على إحياء موروثاتها الفنية والأدبية التي تعد كنوزاً جديرة بالتداول والظهور… هذا الهم نجدة متجسداً بفرقة ” الجواهري للموسيقى والغناء ” التي تأسست حديثاً بهدف إحياء قصائد كبار الشعراء العراقيين والعرب من خلال تحويلها إلى قصائد مغنّاة، قصائد للجواهري، بلند الحيدري، بدر شاكر السياب، محمود درويش، نازك الملائكة وغيرهم، بالإضافة إلى إحياء فن الموشحات والطقاطيق بأصوات غنائية جديدة ومؤثرة مثل المطرب كريم الرسام والمطربة وفاء عبد الجبار، وتتألف الفرقة من عازفين على آلة القانون والكونترباص والناي، والكولة والإيقاعات وآلة الكمان مع الفنان باسم مطلب… فرقة أخرى اتخذت من زرياب اسماً لها ” فرقة زرياب الغنائية ” يرأسها الفنان إحسان محمد وتضم أربعة عازفين شباب درسوا الموسيقى وشغفوا بها، مثل عازف العود محمد الإمام الذي يعد امتداد مهم لمدرسة بغداد في العود التي أرسى قواعدها الموسيقار الشريف محيي الدين حيدر… فرق موسيقية عديدة تقدم موسيقاها بمتعة خاصة يمكن قراءتها في عيون العازفين، تقف الفرقة السمفونية العراقية في مقدمتها على الرغم من قلة عروضها التي يقف الوضع الأمني والتكاليف الباهظة عائقاً بوجهها في أغلب الأحيان… وهناك فرق موسيقية وغنائية أخرى تهتم بالمنولوج والأغنية الشعبية والمربعات أصبحت تصدح في سماء بغداد مجدداً.

موسيقيو عراق اليوم، الذين اتخذوا من إحياء تراثهم الموسيقي والغنائي طريقاً مقاوماً لكل محاولات طمس الهوية الفنية العراقية، هم في الحقيقة ثمرة جهود نبيلة لأساتذة كبار كانوا يقاومون سموم الحروب وطعنات تشويه جسد الثقافة العراقية التي كانت تمارسها السلطة السابقة، كانوا يعدّون طلبتهم لمرحلة أكثر صعوبة وتعقيداً من تلك التي كانوا يعيشوها… إنها المرحلة الحالية بكل دمائها وفتاوى القتل والإرهاب… أولئك الأساتذة أصحاب الأرواح المبدعة التي طالما احترمت وشغفت بالموسيقى وعوالمها، كانوا يعملون بالخفاء لإعداد الأجيال التي نستمع إليها اليوم، أساتذة كانوا يشكون التهميش والإهمال رغم ما يمتلكون من طاقات مبدعة، منهم من كان أستاذاً في معهد أو أكاديمية أو جامعة، ومنهم من كان يفتح بيته لطلبته هرباً من تكاليف الحياة وخطورة الموقف، إنهم الآن يحصدون ثمرة جهود نبيلة زرعت داخل أرواح فتية تستحق الرهان.

التراث الغنائي العراقي ينتعش في أوربا

فرق موسيقية غنائية عراقية تأسست في أوربا، تبنت إحياء التراث الموسيقي والغنائي العراقي… موسيقيون ومطربون حملوا تراث العراق الغنائي والموسيقي وجابوا به المدن والعواصم الأوربية يحركهم شغفهم وارتباطهم بهذا الفن الجميل… في أوربا اكتشف الفنان العراقي شغف الفرد الأوربي بالموسيقى العربية… وتحت تأثير فسحة الحرية وامتلاك الوقت راح الفنان العراقي متجهاً صوب البحث والتجريب ليزاوج بين الآلة الشرقية والغربية صانعاً لوناً موسيقياً جديداً صار صداه يصدح في أروقة المحافل الأوربية… والملاحظ أن طابع الموسيقى الصوفية والموشحات والمقامات العراقية هو الطابع المهيمن على نتاجات تلك الفرق… في هولندا نتلمس الحضور اللافت لفرقة المقامات العراقية التي يقودها الفنان محمد حسين قمر والفنانة فريدة محمد علي، وفرقة ” البصري ” التي يقودها الملحن حميد البصري والتي تضم صوت غنائي خاص هو صوت الفنانة بيدر البصري. وفي لندن فرقة مقامات أخرى بقيادة قارئ المقام العراقي حامد السعدي، وفي بلجيكا فرقة ” مقامات ” بقيادة الموسيقي أنور أبو دراغ، وهناك فرق أخرى في السويد وألمانيا وإسبانيا وفرنسا، إلا أن الإشارة المهمة في هذا المجال تتجه صوب آلة العود التي باتت نجماً موسيقياً يحي الحفلات والأمسيات منفرداً، فلقد عرفت قاعات العروض في أوربا معزوفات لعازفين عراقيين يشار لهم بكل اهتمام، أحمد المختار، عاصم الجلبي، عمر منير بشير وسالم عبد الكريم، وآلات موسيقية أخرى مثل القانون والسنطور بأنامل الفنان باهر هاشم الرجب وفرات قدوري ووسام عبد الأمير ….