قضية نصب

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
18/07/2009 06:00 AM
GMT



قليلة هي القضايا الثقافية التي تثار في الوسط الثقافي العراقي، ليس لقلة هذه القضايا، وانما غالباً بسبب عدم تسليط الضوء الاعلامي (الثقافي) الكافي عليها، أو عدم اكتراث الوسط الثقافي بها، وخلال الاسبوع الماضي اثيرت قضية تبدو مهمة وجديرة بالاهتمام، تتعلق بأعادة نصب الجندي المجهول القديم لرفعت الجادرجي الى مكانه في ساحة الفردوس وسط بغداد.
حتى هذه اللحظة قرأت ثلاث مقالات لخالد السلطاني وسهيل سامي نادر ومنير العبيدي، تناولت الموضوع من زوايا متباينة، ففي حين بدا السلطاني مبتهجاً ومحتفياً بالموضوع، ويناصره العبيدي، بدا سهيل سامي متحفظاً على هكذا قرار، إن تم تطبيقه على الارض فعلياً، حسب رأيه، فسيكون مدعاةً لانتقاد اشد، بسبب عدم واقعيته، خصوصاً مع وجود نصب آخر للجندي المجهول بتوقيع خالد الرحال، وايضاً مع إلحاح حاجات أشد، في الوقت الراهن، تتعلق بالبنية المادية والحياتية لمدينة بغداد وساكنيها، والتي تعلو في الاهمية، حسب نادر، على حاجات اعادة الاعتبار لنصب سيكلف اموالاً طائلة.
وجهات النظر المتباينة حول الموضوع متعددة وكثيرة، ويتداخل فيها الثقافي والجمالي مع السياسي والاقتصادي والحضاري. ومن يقرأ مقالة منير العبيدي التي رد فيها على اراء سهيل سامي نادر، سيرى ان الكثير مما قاله معقول ومنطقي، إلا ان الاعتراضات التي اثارها سهيل سامي نادر تبقى حاضرة وتستحق التأمل، ولعل أهمها، هو ذلك الاعتراض المتعلق بطريقة انتاج القرار في مسألة التعامل مع النصب الفنية، والجوانب الحضارية والثقافية في معالم مدينة بغداد.
هل الامر في نهاية المطاف بيد السلطة السياسية، وهي من تقرر، حسب مزاجها، إلغاء نصب او استحداث غيره، او تغيير معالم معينة، كما رأينا حين طلت امانة بغداد تمثالي كهرمانة والرصافي باللون الذهبي.ـــــ
ام ان اجراءات من هذا القبيل تستحق، قبل اقرارها، مداولات عامة داخل الوسط الثقافي، باعتباره الاكثر ارتباطاً بهذا الموضوع.ــــــــــ
لا اريد هنا الانحياز الى طرف ضد آخر، فالموضوع غير قابل للتبسيط، ويحتاج حقاً الى مداولات جادة داخل الوسط الثقافي، ولكن الموضوع يحيلني الى قضايا لها صلة.
فإذا عاد نصب الجندي المجهول للجادرجي، في مكانه القديم، او في مكان جديد، او تم تكيف الجادرجي بانشاء نصب جديد حول (المواطن العراقي المجهول) حسب طلب بعض المعلقين، فأن هذا العمل، في كل الاحوال، يحيل الى ثقافة مدينية غير ايديولوجية، في الوقت الذي مازالت الكثير من ساحات العاصمة ومنصات النصب الصدامية القديمة، يتم شغلها بنصب ذات طابع ايديولوجي محدد، كان من نتاج مرحلة الصراع الأهلي، وما زال باقياً حتى هذه اللحظة، هذه اللحظة التي نستشعر فيها عودة الروح الى القيم الوطنية، او هكذا نتخيل.
هناك ساحة داخل بغداد، شهدت صراعاً بين فصيلين سياسيين عراقيين، صراعاً من نوع خاص، من خلال تمزيق نصب سياسي معين، واعادة ترميمه في اليوم التالي، ثم تمزيقه من الطرف المنافس في اليوم الثالث، ثم اعادته في اليوم الرابع، وهكذا، وكلما مررت من هذه الساحة ترى اثار الصراع الخفي، للحيازة على منصة تمثال لصدام ازيل يوم التاسع من نيسان من قبل المواطنين وليس السياسيين. ثم انتهى هذا الصراع بانشاء نصب جديد للفصيل السياسي المضاد أمام النصب الاول.
والامثلة المشابهة كثيرة، وهكذا حتى غدت اجواء بغداد وفضاءاتها العامة مزرعة لأصنام الساسة، بدلاً من تجاوز فكرة الاستعمار الرمزي لمناطق سكنية معينة من خلال النصب السياسية في ساحاتها، وترك الحياة تعود بعنوانها العام غير المتحيز، الى هذه الساحات، من خلال تكليف الفنانين العراقيين الموهوبين، وما اكثرهم، بانشاء نصب لها علاقة بالحياة والثقافة والاسطورة والخيال الشعبي العراقي.