في وداع سينمائيين كبار

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
04/08/2007 06:00 AM
GMT



 يذهب معظم رواد السينما لمشاهدة الافلام اعتمادا على اسماء وجاذبية من يظهرون على الشاشة ( الممثلات والممثلون ) وهنالك جمهور انتقائي تجذبهم اسماء من يقفون خلف الكاميرا ، ولا يظهرون للعيان الا من خلال نتيجة ما يقومون به من عمل ابداعي يصبح هو سمتهم المميزة ، وقد رحل في هذا العام ثلاثة من الكبار الذين كنا نحرص في القرن الماضي على مشاهدة الافلام التي تحمل اسمائهم ، وهم ايطاليان وسويدي ، وثلاثتهم في اعمار متقاربة (بالتسعين) وكان اول الراحلين مطلع عام 2007 المنتج الكبير كارلو بونتي – ربما يعرفه البعض بصفته زوج الممثلة صوفيا لورين – وهو أحد أساطير الإنتاج السينمائي، الذي أنتج نحو 260 فيلـما يعد بعضها من كلاسيكيات السينما العالـمية. اولها فيلم (البؤساء- 1948) واخرها فيلم ( السبت الاحد الاثنين- 1990 ) ومن اشهر انتاجاته ( الشارع 1954 ) اخراج فردريكو فيلليني ( الحرب والسلم -1957 ) اخراج كننغ فيدور ( الاحتقار – 1963 ) اخراج غودار (دكتور زيفاجو- 1965) إخراج ديفيد لين وفيلـم ( بلو أب- الفائز بسعفة مهرجان كان الذهبية عام 1967 ) إخراج مايكل أنجلو أنطونيوني احد رواد الواقعية الايطالية في منتصف القرن الماضي .. والذي توفي مساء الاثنين 30/7/2007 عن عمر 94 عاما بعد معاناة طويلة من صعوبة في التنقل والتكلم منذ اصابته بعارض في الدماغ عام 1985.

وفي كتاب انتونيوني ( بناء الرؤية) الذي صدرت مؤخرا ترجمته العربية يتحدث عن رؤيته لصناعة الفيلم والتوفيق بين الحدث والصورة ويتطرق في لقاءات معه وكتابات له حول السينما الى السمة الغالبة لأفلامه الشهيرة كـ (الكسوف، الصرخة، انفجار، المهنة صحفي، نقطة زابريسكي، الحمراء) وجميعها تمثل وجها اخر للسينما الايطالية فهي تختلف عن افلام روسيليني ودي سيكا ، وكان انتونيوني قد أحدث اختراقاً كبيراً في عالم السينما بظهور فيلمه ( المغامرة -1959 ) الذي ظهرت فيه موهبة أنطونيوني السينمائية واحرز جائزة التحكيم الخاصة في مهرجان كان عام 1960

وفيلم المغامرة هو الجزء الاول من ثلاثية ( الليل -1960 ) و ( الحب 1962) التي انصب فيها اهتمام أنطونيوني على استكشاف المشاعر والانهيارات في العلاقات والتواصل البشري والشعور بالملل والوحدة والخيبة وعدم القدرة على التفاهم في المجتمع المعاصر الذي جسد انتونيوني تناقضاته في عدد من أفلامه ومنها ( بلو آب ) الذي يعتبر واحدا من اهم كلاسيكيات السينما التي جسدت ظهور ثقافة البوب في القرن الماضي والذي يخلط ببراعة متناهية بين الحقيقة والخيال وبين الواقع والوهم الى حد انعدام القدرة على الفصل بينها .

وملخص فيلم ( بلو أب - وهو الاصطلاح الذي يطلق على عملية تكبير الافلام ) ان مصورا شابا ( يمثل الدور ديفيد همينغز ) يسعى لاصدار البوم لصور يلتقطها هنا وهناك ، ويقوده مسعاه الى حديقة عامة فيقوم بتصوير عشيقين خلسة ، ولكن المرأة تكتشفه ( تمثل الدور فانيسيا ريدغريف ) فتحاول اخذ الفيلم وتطلب منه ان يخرجه من كامرته ويتلفه ، وعندما يرفض تلاحقه الى منزله ـ وهناك تعرض عليه اقامة علاقة معه مقابل اعطائها الفيلم ، ويتظاهر المصور بالموافقة ولكنه يعطيها فيلما آخر .. ثم يقوم بتحميض الفيلم الاصلي وتكبير الصور ويكتشف انه قد صور جريمة قتل ! فيسرع في المساء الى الحديقة ويكتشف فعلا وجود جثة العشيق بين الاحراش ، فيعود الى منزله ليأخذ الصور التي تؤكد حدوث الجريمة ولكنه يجد موجودات منزله مبعثرة وان افلامه وصوره مسروقة !! ثم يذهب من جديد الى الحديقة فلا يجد الجثة !! وقد ادهشت هذه الحبكة المتداخلة من الواقع والوهم والتخيل المشاهدين والنقاد معا وكذلك الحكام في مهرجان كان عام 1967 فمنحوه الجائزة الذهبية !!

السينمائي الكبير الثالث الذي رحل هذه الايام هو المخرج السويدي انغمار بيرغمان ( مولود في 14 تموز 1918 ) الذي اخرج في حياته اكثر من اربعين فيلما - وكان مثل انتونيوني يكتب السيناريو لمعظم افلامه – وقد نال ثلاث مرات الاوسكار كاحسن مخرج اجنبي / وتزوج خمس مرات ورزق بتسعة اولاد وقضى السنوات الاخيرة منعزلا في جزيرة فارو على بحر البلطيق حيث رحل بهدوء وسلام كما قالت ابنته ايفا لوسائل الاعلام قبل ايام واعلنت الحكومة السويدية بان السينما والمسرح السويديين قد فقدا اسطع نجومهما عبر التاريخ !! وفي اخر مقابلة معه وصف بيرغمان حياته بانها جحيم يمكن احتماله !!

ولعل فيلمه ( التوت البري _ 1957) الذي حاز على عشرين جائزة عالمية يجسد بشكل واضح توجهات بيرغمان الفكرية والانسانية والاجتماعية مع فلميه ( الصمت – و – بيرسونا ) التي عالج فيها بارهاف كبير تساؤولات الانسان الفلسفية عن وجود الله والموت والحياة والعلاقة بين الرجل والمراة وتفاصيلها الصغيرة وجدوى ما يفعل وما لم يفعل ! ان بطل فيلم ( التوت البري ) البروفيسور بورغ يستعرض في اخر ايامه ما انجزه في حياته العملية وما عايشه مع الناس المحيطين به وكم اعطاهم من وقته واهتمامه ، وجدوى ما سيتركه من ذكرى بعد وفاته

والان مع رحيل المنتج كارلو بونتي والمخرجين انتونيوني وبيرغمان في عام واحد يستذكر مشاهدو السينما في العالم ما انجزه هؤلاء السينمائيون الكبار ويكتشفون اهمية الاعمال الرائعة التي حققوها والتي ستبقى في ذاكرة السينما العالمية جزء من التراث الثقافي الانساني !