الى استراليا. حيث بدأت في بيروت.معالم الطفولة والفردوس المفقود في لوحاته.رسم الأبوب ، والنخيل ، وأوحى بالأئمة والمقامات ، رسم الحب المذبوح ، الطيور ، والقمر والشناشيل ، وكأن الفن العراقي الذي أخرج جواد سليم ومحمد غني . أخرج شاكر حسن آل سعيد . والشاعر بدر شاكر السياب ، في هواء وماء من السحر الذي يغلب الفنان . حين يصاب بمسه ولوثته . ويحاول التعبير عن ذلك بكل الدم والجراح والندب والندم التاريخي . إلا أن علي عباس الذي لاذ أولا بعوالم الطفولة ، ما لبث أن أبحر في ليل العراق وفي نهارته ، وتدارك ضوءه ، وعتمته ، وأقانيمه ، وذهب إلى رؤيا إنسانية . تحمل في طياتها الحلم ، والعالم الذي كان لاستخلاص جمالياته ، وكأن المرأة ، الأم والحبيبة ، هي ملفى الحنين ، ومستند الرغبة ، وموطن العزاء والسلوان رغم أنه لا عزاء ولا سلوان عما حل بالعراق، لذلك عوض الفنان عن ذلك باستبطان لوحاته ، وإستيطانهما ، والبحث فيها عما يشكل عالماً حلماً أو جمالياً ، يستوعب نوازع الفنان تجاه رغباته ، وحياته المنقضية في العراق ، وحياة هجراته الطويلة ، وقدراته على مقاومة المنافي والغربات التي يعاني ، وتتوضح في إعماله حيث يتشبث بكل الحيثيات والتفاصيل العرقية ، ويدغمها في لوحات تعبيرية تجريدية ، وألوان فيها من الواقعية والسحر . فيها من أقمار العراق وشموسه وأقواس قزحه . لذلك تتعالى نبرة الألوان ، ويزداد جدلها بين الحار الساخن ، وبين الفاتر البارد ، حيث الزرقة والسواد ، والخضرة ، وحيث البنفسج والحمرة ، البرتقالي والأصفر ، معدلات لونية ، تختصر انفعالات الفنان ، وتفاعلاته ، ومشاعره ، وربما وعيه ولا وعيه . حين يسعى إلى توريق لوحاته ، وتريفها ، ونقشها ورقشها ، بالألوان والأشكال ، والخطوط ، والتكاوين التي خفت غنائياتها القديمة ، وتمكنت بنائيتها الجديدة ، حين يزحف التجريد إلى التعبيرية . ويمحو في طريقه الأشكال والحيثيات ويستبدلها ببقع الألوان المتحاورة المتجاورة...!
والفنان علي عباس يحمل العراق في قلبه . ويحمله في فمه ، يحمل ألوانه وأصواته حيث يطعم لوحاته بحروفيات في بعض مقاطعها ، ليست حروفيات في بعض مقاطعها ، ليست حروفيات مقرؤة ، لكنه يتراسم حركتها . أصواتها وأصداءها . ويتجاسدها لونياً . مضفياً على لوحته أبعاد هوية مبعثرة في كل أقاصي الأرض بسبب فداحة الكارثة ، وفداحة الهجرانات التي يعانيها العراقي ، ورغم الجماليات الشكلية واللونية التي يتعارم فيها الفنان ، ويتدافع في غرمها ، إلا أن إحساس الفجيعة والدراما يكاد يتدفق من اللوحات التي تمتلك جاذبيات جمالية وضوئية قوية . تأخذنا إليها ، وإلى تأملها وتمحيصها . ومساورتها ومساررتها . كما أقام الفنان فيها . فعله الفني الحر ، وفعله وتفاعله الدرامي ، مع أحواله ومقاماته . ومقابساته . فيما يتهومه ، ويتوهمه في دخيلته ، ويرغب في استخراجه ، واستدخاله ، في اعماق لوحته التي من سطوحها الداوية . تمتلك أعماقا سحرية ، وفضاءات محمومة . بما يرود الفنان حدائقها اللونية ، ذلك الرود الشهي الشجي . الذي يفضي فيه إلى شرفات الأحلام ، وإلى هاويات الكوابيس التي تتنازع الحضور في اللوحة ، والتي يجاهد الفنان إلى توازنها وتخفيف هيجانها ولهاثها . والحنين الذي يترقرق ويتموج فيها . خوف أن تودي به إلى عدم داخلي . وعبث فني يتحاشاه بقوة تعبيرية ، وقوة صياغاته وأبنيته . وقوة ألوانه التي تتأنس وتتميه وتتصخر أحيانا ، تبعاً لما يتبارق ويتراعد فيها ، ويتزلزل ويتبركن ، وتسيل صهارته . هنا وهناك ، لأن دلالة الألوان وإيحاءاتها هي الأقوى في لوحات الفنان ، وهي التي تقدم تعبيراته . بكل الرهافة والشفافيات التي يجهد لاستخلاصها من أخلاط الكوابيس . ويحولها. وينزاح فيها إلى شرفات الأحلام التي تتخالجه . وتتلجلج في جسده وروحه ، عبر إقامته البعيدة في منفاه الاسترالي ، وكيفية الحفاظ والتشبه بهويتهم العراقية ..!
لا شك أن مستند الفنان ومرجعياته عراقية الجذور في فنه ، مطعمة بثراء التجربة التشكيلية العالمية . فهو في لوحة البعد الواحد وهو يرصعها . ويجودها . يطربها ويغنيها أيضاً . انه يتعازف لوحاته وألوانه بنقامات لا نهائية . واشتقاقات وكيماويات لا حصر لها . خاصة وأنه مايسترو لوحته التي يضبط زمنها الموسيقي ، وإيقاعاتها ، لكأن الفنان في سواد العراق . وتلاويته المزدانه بألف لوين ولوين ، رغم أن الحرائق والسواد والشحار تتلامح في بعض لوحاته ، لكن في ضفاف تقابلها ضفاف ضوئية . صافية تظهر جماليات ضفتي وادي النهري . دجلة والفرات . المهم لديه أنه يدون تصوراته . وتخيلاته عن العراق . وكأن الغياب يستشري ، والمحو يأخذ طريقه . وكأنه في البصر والبصيرة ، يستجلي غوامضه وكوامنه ، وما تنطوي عليه الروح المهاجرة ، لذلك كان الحمار يحمل المدينة . رؤيا من رؤاه بسبب صبر الحمار ، ربما تعود به إلى بغداد سواء بالعودة الواقعية أو الوهمية ، لكنها ، عودة فنية بامتياز ، كأنه لم يغادر ذلك الفنان الذي يلون عوالمه الحرائقية السوداء . ويستوطن لوحاته ، كي يتقي خطر الذوبان والتلاشي في منافيه البعيدة ...!
وشغف علي عباس بالألوان . لا يعادله شغف آخر ، وكأن الألوان تسري مسرى الدماء فيه .وهي تمتلك خصوصياتها وحياتها ، فهو يعمر الأبنية بماء البحر ويكشف الشموس عنها . ويذهب في الأحافير والآثار . وكأنه يتغول ويتغور الزمن . ويتحاصد الماضي ، ليفعله في المستقبل .حتى أنه لا يتوانى عن الأنتباه الى الراهن. والراهن العراقي ، فضيحته وفجيعته . لذلك يتفاصح ذلك ويتفاضحه في لوحاته ، أو في جوانب منها ، انه في جدل الأضداد .وفي الخفاء والتجلي الفني واللوني ، حيث يتشاكل في لوحة مفتوحة الفضاءات والأبعاد . ويذهب الى التئامها والتغامها وتعضيها ، ان ما يتبارق من شهب ونيازك ، عبر ضربات ريشته تربط الضوء المشتت والمبعثر . وتلمه مشحات على المساحات والأشكال ، حتى أنه يشارق ويتغارب فيه ، يذهب في الحروفيات ، والأرابسك وكأنه يستزرع ذلك ويستنبته عبر هذه المتاهات الملونة ، فيما هو يتماكن ويتزامن في اللوحات . ويصير شرقياً أشراقياً بامتياز لوحة نستشعر قراباتنا فيها والحنين أليها . ونستشعر فيها ، أنها من أهلنا وحميميات حيواتنا بامتياز..!
والفنان في أعماله الجديدة . مقارنة بأعماله القديمة . يكون قد تطور باتجاه إيجابي . فقد غدت ألوانه أكثر تنوعاً واشتقاقاً . وأكثر صفاء ، ودلالة .كما ان اعماق لوحاته قد تجلت وشفت السطوح عنها ، صحيح أن الغنائية خفت لصالح البنائية . وهذا ايجاب في عين التشكيل . على أن الفنان . كأنه مهووس بالألوان شغوف بها يراودها عن نفسها ويرغب فيها باستمرار حضورها الضوئي . والأنوار التي يغدقها عليها . مشاعر الفنان ، وجيشانه تجاهها . وهو لذلك يمتلك أبجدية لونية . تتكامل معرضاً إثر معرض ،بحيث تغتني تجربته التشكيلية ، وتصير لوحته متحفية ، مشتهاة ، تحرك فينا مشاعر الحنين . والأسى إلى ما كانه العراق . وإلى جوهره الإنساني . وما يمكن أن يكونه ، طالما يحفظه فنانون عراقيون كعلي عباس تنطوي أرواحهم على وطنهم وعلى ناسهم وحيواتهم ..!
معرض الفنان العراقي علي عباس .
صالة زمان للفنون.