حمار يحمل مدينة :معرض الفنان العراقي علي عباس سحر الرؤيا والتشكيل والألوان العراقية

المقاله تحت باب  معارض تشكيلية
في 
18/01/2009 06:00 AM
GMT




 
إحدى عشرة لوحة  جديدة . وإحدى عشرة  قديمة، اثنتان وعشرون لوحة فنية حصيلة الفنان العراقي المقيم في استراليا،علي عباس، وقد عرفت بيروت تجربته الفنية.في بضع سينين ماضيات ، وفي صالة زمان على وجه التحديد.هذا الفنان العراقي،المتجذر في التربة التشكيلية العراقية .في الحلم العراقي وفي كوابيس الإحتلال أيضاً. وكان ضحية هجرة الى بيروت أولاً ثم

الى استراليا. حيث بدأت في بيروت.معالم الطفولة والفردوس المفقود في لوحاته.رسم الأبوب ، والنخيل ، وأوحى بالأئمة والمقامات ، رسم الحب المذبوح ، الطيور ، والقمر والشناشيل ، وكأن الفن العراقي الذي أخرج جواد سليم ومحمد غني . أخرج شاكر حسن آل سعيد . والشاعر بدر شاكر السياب ، في هواء وماء من السحر الذي يغلب الفنان . حين يصاب بمسه ولوثته . ويحاول التعبير عن ذلك بكل الدم والجراح والندب والندم التاريخي . إلا أن علي عباس الذي لاذ أولا بعوالم الطفولة ، ما لبث أن أبحر في ليل العراق وفي نهارته ، وتدارك ضوءه ، وعتمته ، وأقانيمه ، وذهب إلى رؤيا إنسانية . تحمل في طياتها الحلم ، والعالم الذي كان لاستخلاص جمالياته ، وكأن المرأة ، الأم والحبيبة ، هي ملفى الحنين ، ومستند الرغبة ، وموطن العزاء والسلوان رغم أنه لا عزاء ولا سلوان عما حل بالعراق، لذلك عوض الفنان عن ذلك باستبطان لوحاته ، وإستيطانهما ، والبحث فيها عما يشكل عالماً حلماً أو جمالياً ، يستوعب نوازع الفنان تجاه رغباته ، وحياته المنقضية في العراق ، وحياة هجراته الطويلة ، وقدراته على مقاومة المنافي والغربات التي يعاني ، وتتوضح في إعماله حيث يتشبث بكل الحيثيات والتفاصيل العرقية ، ويدغمها في لوحات تعبيرية تجريدية ، وألوان فيها من الواقعية والسحر . فيها من أقمار العراق وشموسه وأقواس قزحه . لذلك تتعالى نبرة الألوان ، ويزداد جدلها بين الحار الساخن ، وبين الفاتر البارد ، حيث الزرقة والسواد ، والخضرة ، وحيث البنفسج والحمرة ، البرتقالي والأصفر ، معدلات لونية ، تختصر انفعالات الفنان ، وتفاعلاته ، ومشاعره ، وربما وعيه ولا وعيه . حين يسعى إلى توريق لوحاته ، وتريفها ، ونقشها ورقشها ، بالألوان والأشكال ، والخطوط ، والتكاوين التي خفت غنائياتها القديمة ، وتمكنت بنائيتها الجديدة ، حين يزحف التجريد إلى التعبيرية . ويمحو في طريقه الأشكال والحيثيات ويستبدلها ببقع الألوان المتحاورة المتجاورة...!

والفنان علي عباس يحمل العراق في قلبه . ويحمله في فمه ، يحمل ألوانه وأصواته حيث يطعم لوحاته بحروفيات في بعض مقاطعها ، ليست حروفيات في بعض مقاطعها ، ليست حروفيات مقرؤة ، لكنه يتراسم حركتها . أصواتها وأصداءها . ويتجاسدها لونياً . مضفياً على لوحته أبعاد هوية مبعثرة في كل أقاصي الأرض بسبب فداحة الكارثة ، وفداحة الهجرانات التي يعانيها العراقي ، ورغم الجماليات الشكلية واللونية التي يتعارم فيها الفنان ، ويتدافع في غرمها ، إلا أن إحساس الفجيعة والدراما يكاد يتدفق من اللوحات التي تمتلك جاذبيات جمالية وضوئية قوية . تأخذنا إليها ، وإلى تأملها وتمحيصها . ومساورتها ومساررتها . كما أقام الفنان فيها . فعله الفني الحر ، وفعله وتفاعله الدرامي ، مع أحواله ومقاماته . ومقابساته . فيما يتهومه ، ويتوهمه في دخيلته ، ويرغب في استخراجه ، واستدخاله ، في اعماق لوحته التي من سطوحها الداوية . تمتلك أعماقا سحرية ، وفضاءات محمومة . بما يرود الفنان حدائقها اللونية ، ذلك الرود الشهي الشجي . الذي يفضي فيه إلى شرفات الأحلام ، وإلى هاويات الكوابيس التي تتنازع الحضور في اللوحة ، والتي يجاهد الفنان إلى توازنها وتخفيف هيجانها ولهاثها . والحنين الذي يترقرق ويتموج فيها . خوف أن تودي به إلى عدم داخلي . وعبث فني يتحاشاه بقوة تعبيرية ، وقوة صياغاته وأبنيته . وقوة ألوانه التي تتأنس وتتميه وتتصخر أحيانا ، تبعاً لما يتبارق ويتراعد فيها ، ويتزلزل ويتبركن ، وتسيل صهارته . هنا وهناك ، لأن دلالة الألوان وإيحاءاتها هي الأقوى في لوحات الفنان ، وهي التي تقدم تعبيراته . بكل الرهافة والشفافيات التي يجهد لاستخلاصها من أخلاط الكوابيس . ويحولها. وينزاح فيها إلى شرفات الأحلام التي تتخالجه . وتتلجلج في جسده وروحه ، عبر إقامته البعيدة في منفاه الاسترالي ، وكيفية الحفاظ والتشبه بهويتهم العراقية ..!

لا شك أن مستند الفنان ومرجعياته عراقية الجذور في فنه ، مطعمة بثراء التجربة التشكيلية العالمية . فهو في لوحة البعد الواحد وهو يرصعها . ويجودها . يطربها ويغنيها أيضاً . انه يتعازف لوحاته وألوانه بنقامات لا نهائية . واشتقاقات وكيماويات لا حصر لها . خاصة وأنه مايسترو لوحته التي يضبط زمنها الموسيقي ، وإيقاعاتها ، لكأن الفنان في سواد العراق . وتلاويته المزدانه بألف لوين ولوين ، رغم أن الحرائق والسواد والشحار تتلامح في بعض لوحاته ، لكن في ضفاف تقابلها ضفاف ضوئية . صافية تظهر جماليات ضفتي وادي النهري . دجلة والفرات . المهم لديه أنه يدون تصوراته . وتخيلاته عن العراق . وكأن الغياب يستشري ، والمحو يأخذ طريقه . وكأنه في البصر والبصيرة ، يستجلي غوامضه وكوامنه ، وما تنطوي عليه الروح المهاجرة ، لذلك كان الحمار يحمل المدينة . رؤيا من رؤاه بسبب صبر الحمار ، ربما تعود به إلى بغداد سواء بالعودة الواقعية أو الوهمية ، لكنها ، عودة فنية بامتياز ، كأنه لم يغادر ذلك الفنان الذي يلون عوالمه الحرائقية السوداء . ويستوطن لوحاته ، كي يتقي خطر الذوبان والتلاشي في منافيه البعيدة ...!

وشغف علي عباس بالألوان . لا يعادله شغف آخر ، وكأن الألوان تسري مسرى الدماء فيه .وهي تمتلك خصوصياتها وحياتها ، فهو يعمر الأبنية بماء البحر ويكشف الشموس عنها . ويذهب في الأحافير والآثار . وكأنه يتغول ويتغور الزمن . ويتحاصد الماضي ، ليفعله في المستقبل .حتى أنه لا يتوانى عن الأنتباه الى الراهن. والراهن العراقي ، فضيحته وفجيعته . لذلك يتفاصح ذلك ويتفاضحه في لوحاته ، أو في جوانب منها ، انه في جدل الأضداد .وفي الخفاء والتجلي الفني واللوني ، حيث يتشاكل في لوحة مفتوحة الفضاءات والأبعاد . ويذهب الى التئامها والتغامها وتعضيها ، ان ما يتبارق من شهب ونيازك ، عبر ضربات ريشته تربط الضوء المشتت والمبعثر . وتلمه مشحات على المساحات والأشكال ، حتى أنه يشارق ويتغارب فيه ، يذهب في الحروفيات ، والأرابسك وكأنه يستزرع ذلك ويستنبته عبر هذه المتاهات الملونة ، فيما هو يتماكن ويتزامن في اللوحات . ويصير شرقياً أشراقياً بامتياز لوحة نستشعر قراباتنا فيها والحنين أليها . ونستشعر فيها ، أنها من أهلنا وحميميات حيواتنا بامتياز..!

والفنان في أعماله الجديدة . مقارنة بأعماله القديمة . يكون قد تطور باتجاه إيجابي . فقد غدت ألوانه أكثر تنوعاً واشتقاقاً . وأكثر صفاء ، ودلالة .كما ان اعماق لوحاته قد تجلت وشفت السطوح عنها ، صحيح أن الغنائية خفت لصالح البنائية . وهذا ايجاب في عين التشكيل . على أن الفنان . كأنه مهووس بالألوان شغوف بها يراودها عن نفسها ويرغب فيها باستمرار حضورها الضوئي . والأنوار التي يغدقها عليها . مشاعر الفنان ، وجيشانه تجاهها . وهو لذلك يمتلك أبجدية لونية . تتكامل معرضاً إثر معرض ،بحيث تغتني تجربته التشكيلية ، وتصير لوحته متحفية ، مشتهاة ، تحرك فينا مشاعر الحنين . والأسى إلى ما كانه العراق . وإلى جوهره الإنساني . وما يمكن أن يكونه ، طالما يحفظه فنانون عراقيون كعلي عباس تنطوي أرواحهم على وطنهم وعلى ناسهم وحيواتهم ..!
 
معرض الفنان العراقي علي عباس .

صالة زمان للفنون.