المقاله تحت باب مقالات فنيه في
15/01/2009 06:00 AM GMT
تميز معرض د. علي شناوة وادي بانشغالات فكرية / معرفية ومع التجريدات الواضحة انطوت لوحاته تعدد في أبعاد العلاقة معها ، وأنا واثق بان الحضور معلن عنه في الغياب واللا مرئي متضح في المرئي وحسب توصيفات سلفرمان يبدو لي الخارج في الداخل والحاضر أيضا ً متجليا في الغائب .هذه الثنائية المتضادة هي التي أنتجها التجريد المغلق على نفسه ، والمعلن عنها أحيانا ً. الحضور قريب من المتلقي ، وأعني به المفهوم اليومي / الموضوعي . والغياب هو التلاشي / التجريدي وعدم الوضوح . وفي كل الحالات ظل الحضور مرئيا وصاعدا وسط اللا مرئي / التجريدي وصاغ اللا مرئي سياقات لوحاته وجعل منها نصيّات مكتوبة بالألوان التي اتضحت أكثر شفافية ضمن أطر تصميمية واضحة هي الأكثر قربا ً من الكرافيك .
تعددت الانطولوجيات في لوحاته ، الحياة / الموت / التجدد / الانبعاث / سيادة السواد ، الجنس عبر رموز عانية لم تكتمل بسبب غياب قاعدتها في الأعلى وفي الأنموذج عند الأسفل ، وتبدّت انطولوجيا الممنوع وغير المسموح من خلال الإشارة المرورية الدالة على ذلك ، هذه الإشارة اختصرت تماما ً الكثير من المشاهد الحياتية وسيادة القمع وهيمنة الإزاحة نحو مساحات السواد المزاحمة للحياة المتشبثة ببقائها واستمرارها ، إنها السيرورة المدورة وكأنها محكومة بحركة المواسم / والفصول وهذا ما كشفت عنه عدد من لوحاته الضاجة بحركة لولبية ملتفة حول مركزها أو بؤرتها ذات التلاوين المتنوعة تعبيرا عن الدالات والمعاني المختلفة . وعلى الرغم من وجود تناظر في انشغالات السطح التصويري بتنوع الألوان فأن النمطية واضحة ، لكنها مخترقة بوجود مركز وافد يعيد التوازن بين القديم والجديد في الأعمال ، وكثيرا ً ما ظهرت التماثلية في الأعمال المحيطية . لكن تكرس البؤرة المتشكل باللون ، يفكك المنمط ومثال ذلك وجود ما يشير للسلالم بتكرر ملحوظ ، لكن الفنان علي شناوة كسر هذا المتماثل الملحوظ في السلالم من خلال إطار أبيض لطرفي السلم وكرر اللون على الروافع الداخلية ، وتجسدت دلالة مغايرة ووظائفية جديدة لهذه العلاقة ، إنها الصعود نحو المتسامي ، بينما كررت لوحاته الأخرى سلالم سوداء والإشارة لذلك تعني النزول الى العالم السفلي عالم الموت في الحضارات الشرقية .
ولم يكتف الفنان بوجود السلم الأبيض بل جعل لمساند السلم الأبيض امتداد على جانبيه ، الأيمن والأيسر ، مكونا ً من باقات زهور ، وبذلك حصلت إعادة لتشكيل الصليب المقترن مع الفادي والمضحي الذي صار بديلا ً لبني البشر .الرمزي يفرض الذات . والذات لا تؤسس الرمزي كما قال هوسرل ، لأن الذات تخاف من أن يكون الرمزي بديلا ً لها وبهذا يتقلص دور الذات ومجالها . لكن الفنان علي شناوة تعامل مع العكس وخلخل مقولة هوسرل « الذات لا تؤسس الرمزي « لأنه وجد في ابتكار الرمزية داعما للذات والرمز الذي تعامل معه خاصا ً به فقط ولن يكون لغيره ، هذه اللمحة الذكية جعلت من الذات منتجة للرمزي وتحول الرمزي الى فضاء دال على الذات فقط وأعني به بصمات الإبهام المتكررة في عديد من لوحاته ، هذه البصمات الرمزية تشير الى ذات الفنان ولا يمكن أن تكون لذات أخرى ، وعلى الرغم من أن هذه الرمزية لا تفضي إلا الى الأنا / الذات ، لكنها أفضت الى تناظر لوني مع البيوض وانحرفت هنا الدلالة كليا ً ، لأن وجود البصمات البيضاء الكثيرة على مساحة سوداء ، هي مساحة اللوحة ، فإنها رامزة الى أن الحياة متجددة ، والانبعاث قريب وقادم ، لأن البيوض هي الحياة الآتية ، ويبدو لي بأن تكرر هذا الرمز في عديد من لوحات شناوة قصدي وكأنه يعلن احتجاجا ً على السواد / الاندثار الذي شكل مساحة اللوحة ، المساحة الدالة على الموت / والرماد ، وإذا أردنا الإفضاء الأكثر ، فلا بد من استدعاء الأسطورة الحاضرة في ثنائية الولادة / الحياة الانطفاء / الموت ، أجد دلالة رمزية أكثر دنوا ً من حياتنا العراقية وهي أسطورة السيمرغ / الفينيق / العنقاء التي تحترق وتتحول رمادا ً أو من رمادها يتحقق التجدد . و البيوض هي التجدد وسط الرماد ، لكن الانبعاث يظل لا مرئيا ًَ ، غير مصرح به في اللوحة .
وأنا أعتقد بأن المغيب داخل السياقات النصيّة هو أسطورة ، لأنها النص المرتضي بالاختفاء والتحصن بالرمز و المجاز . وأرى بأن الفنان شناوة أعاد قلب دلالة الأسود الواضح بدلالته الى ما هو معاكس وهو الحياة الناهضة وسط رماد احتراق الفينيقات العراقية . واهتمام الفنان د.علي شناوة بالمحيط وخصوصا ً الجدران حيث أراد أن يغيب المتروكات والآثار . والتجريد الكلي لذلك قدم لنا ما يشبه الحفريات الكاشفة عن الرؤوس بوصفها بقايا وحيدة للإنسان ، لأنها ـ الرؤوس ـ التي كانت الديانات الشرقية معنية بها ، فإن الثقافات الحاضرة مهتمة بها باعتبارها المتعالي في جسد الإنسان ، وهي ذاتها التي انشغلت بها الشرقيات القديمة ، بوضع الخرز الملون في فتحات الوجه تعاملت معها ـ الرؤوس ـ بالذبح الحيواني المتوحش ، وتمظهرت لنا سابحة وسط شبكات خيطية مقيدة للعقل ومعطلة له تماما ً . الإنسان محاط بما هو عنكبوتي ، وشبيه بامتداد الأشنات ، المحاصرة له ، إضافة الى السواد ولون الدم ولوحة اتسعت فيها المدرجات التي تبدو مكتشفة ، ومعلنة عن تاريخ قديم ، مدرجات عريضة ، تآكل أجزاء منها ، لكنها صاعدة بسبب حاكمية اللون المؤثر على المتلقي كي يتعامل معها وهي متسامية على الرغم من تآكلها .الجدران كثيرة اخترقت التماثليات التي تبدو من خلال التشظي وكسر الانتظام في السياق ودائما ما يفضي عبر الانسجام الى ما يشبه البناء العشوائي ، قليل المهارة . وتتضح في الجدار ما يشبه فتحات الكهوف ، وتمركزت عيون خضراء مستدعية المتلقي ، جاذبة له ووجدت بأن اللون الأخضر الأكثر ندرة بين الألوان وقليل التوظيف وإن تكرر فباقتصاد ، لمما ساعد الفنان على الدقة في موضعة هذا اللون ، وتميز بقوة رامزة ، هي التي فرضت الذات المبدعة .
قال المفكر سبينوزا : كل تعيين نفي ، وكأنه يؤشر تصورا ً خاصا بالتجريد الذي صار مدرسة جاذبة ، توفر فضاءا ً مهما ً للمتلقي لإنتاج العمل الفني وإعادته مرة وأخرى . وهذا واضح في معرض الفنان علي شناوة ، الانفتاح الواسع وتكون بؤر للرأي والتأويل والاختلاف ، التوافق ، التباين ، وفر للمتلقي أكبر مساحة لاقتراح قراءة ومنحه حقوقا ً كما قال ستانلي فش في الاقتراح والتجديد ، لذا كان فضاء التأويل أكثر حركة ونشاطا ً ، ويظل متفاعلا ً . تكررت ملاحظات من قبل مشاهدي المعرض حول التأثر بالصوفية ، وهذا أمر من الضرورة الانتباه له والانشغال به ولو سريعا ً كل المعروضات دالة على المحيط الاجتماعي الواسع جدا ً ، وما حصل فيه من دمار / قتل / حرائق / انهيارات . . الخ هذه كلها رؤى التلقي وهي أقرب الى الواقع والموضوعية ، والصوفية نوع من العلائق مع الغائب / المطلق / التجريد الكلي ، إضافة الى أن المتصوف متمتع بصفاء العلاقة مع المتعالي / الواحد غير المتكرر إلا عبر رموزه الدالة عليه [ لأن الصوفي يعيد تحيين هذه الرموز كاشفا ً عنها الحجاب في أفق الروح بواسطة التأويل ، فإنه يستطيع أن يصبّها في قوالب مماثلة لثقافة معينة أخرى ، وبالتالي إذ يحقق الصوفي وحدة هذه الرموز بداخله عن طريق آلية المطابقة ، فإنه يترجمها في عمله بحيث يصبح هذا العمل الشاهد على هذا التركيب الجديد : داريوش شايغان / ما الثورة الدينية / الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة / دار السامي / بيروت / 2004 / ص92 ]
ومثلما ذكرت فإن الرموز المتبدّية في لوحات المعرض متشكلة في عمق اليومي / الواقع الرتيب ، المعروف للجميع ، وهي ـ الرموز ـ ليست من الأنماط البكرية الأولى ، المقدمة ضمن طقوس تمثل عبر استعادتها تحيينا ً مع زمنها الذي دائما ً ما يحصل تحيين له من خلال العود الأبدي كما قال نيتشة أو مثلما أعاد تشكيله مارسيا إلياد في مجالات العقائد والطقوس المتكررة والتي لحظة الرموز البدئية ، أنه عود أزلي للتكونات الأولى .
أما الرموز التي صاغها غياب البؤر التشكيلية في المعرض ، فهي ليست من ذلك النمط المتعالي ، إنها آنية وتومئ في أحيان لما هو حضاري . وعلى الرغم من وجود مبدأ المطابقة التي أشار لها داريوش ، فإنها ـ الرموز ـ ليست خاصة بالواحد المطلق والمتعالي ، بل هي جمعية يشترك بها عدد غير قليل من البشر . كما أن اللوحات خالية تماما من لحظات الإشراق والتجلي التي عرفتها الصوفية . وبالإمكان حرف المصطلح نحو الشعرية المفتوحة ، ذات التكون الشبكي من الرمزيات اللا مرئية ، رمزيات خاصة جدا ً بالمتلقي / المبتكر لها ، وهنا تتشكل فضاءات دلالية جديدة .
|