المقاله تحت باب مقالات فنيه في
11/01/2009 06:00 AM GMT
قبل لقائي به لم أكن أعرف عنه الكثير بينما الجميع كانوا يعرفونه حتى لو لم يتسن له - حتى ذلك الوقت - أن يقوم بزيارة القاهرة. كان اسمه قد بدأ يتردد لماماً بعد صدور ديوان سعدي يوسف (أيروتيكا) مشفوعاً بنصه البصري (الذي أراد له أن يكون الكاماسوترا بأسلوب غربي لكن بريشة فنان عربي)... وعلى الفور تداولت الأيدي الصور والأشعار كاختلاس لذة محرمة. ليلة سفري إلي روما أعطاني المخرج السينمائي الكبير محمد كامل القليوبي- (والذي كان صديقاً له وكانت تربطني بالقليوبي صداقة عميقة)- لفة محزومة من صور فوتوغرافية- لهما معاً- طالباً مني أن أحملها إليه وهكذا كان قد نصب لي الشرك فاندفعت داخله ملبياً رغبة غامضة لا راد لها. أما الشرك الذي وضع في طريقي كخيوط عنكبوتية غير مرئية فكان لوحاته التي هي حياته مروية عبر فضاءات جمالية.
هكذا تعرفت جبر علوان في منفاه والذي ذهب إليه طواعية في بداية السبعينيات.
أما لقاؤنا الأول فكان في منتصف التسعينيات - طبعاً من القرن الماضي - عندما ذهبت إليه في مرسمه القديم الذي كان يشغل حجرة أرضية واسعة من مبنى قديم (والذي تم هدمه بعد عام تقريباً من قبل بلدية روما) كان يقع بالقرب من سوق »vittorio emanuel« بشارع يسمى »الأمير أوجينو« يقطنه كثير من المهاجرين الآسيويين وتصطف على جانبيه دكاكين الجزارة »الذبح على الطريقة الإسلامية« وبعض محلات تأجير شرائط الفيديو للجاليات الهندية والبنجلاديشية.. هناك في تلك الحجرة وبين لوحات وأنابيب الإكليريك دقيقة الحجم وبخر الهواء المكتوم برائحة السيجار الذي يدخنه تجرعنا أولى قطرات النبيذ الأحمر التوسكاني.
ألعاب انشطارية
إن لوحات جبر علوان هي تسريد narrativit لذاته واغتراباته وانشطاراته الروحية - وأيضاً الإسلوبية - فهي مجرد انعكاسات مرآوية لوضعه الإنسانى الذي وجد نفسه عليه مقسراً على قبوله، وقد تمزق بين عالمين وزمنين وثقافتين. إن الانشطار والثنائية والهوية الممزقة، والتي هي ركيزة أساسية لعوالم هذا الفنان لا تطول - فقط - القناع الإبداعي له دون فصل حاد بين لوحاته / حياته لكنها بالأحرى تخترق هويته الشخصية - بل اسمه - كأنه شخص لا أحد يعرفه على وجه اليقين. جبر - أو - جابر كما يروق للآخرين - وله - أن ينادونه بهذا الاسم وكما يعرف أيضاً في ايطاليا والمحافل الأوروبية GABER وليس (جبرا) كما نعرفه نحن، والذي يغفل تاريخ ميلاده في تقديم سيرته البيوغرافية مكتفياً بذكر العام الذي ولد فيه 1948 ذلك لأنه ببساطه يجهل اليوم والشهر اللذين شهدا ميلاده في احدى القرى النائية لبابل. فلم يكن متاحاً في ذلك العهد تدوين شهادات للمواليد وهكذا ترك حراً في هذا العالم - دون قيد أو شرط - في أن يختار اليوم / الشهر الذي يرغب في أن يحتفل فيه بميلاده. في نهاية العام 1972 يهجر جبر (بابل) إلى روما فيما يشبه صدمة التعرض للضوء المفاجئ بعد نعاس طويل، حيث مجتمع التحولات العنيفة الذي لا يزال يئن تحت مشكلات بنيوية حادة. روما ما بعد 1968 كانت بحق هي بابل أوروبا: مثقفون.. مهاجرون.. حركات يسارية.. فوضويون.. أجنحة يمينية فاشية متطرفة.. ازدهار فني.. مافيا واغتيالات سياسية. هذه هي روما التي ذهب إليها(جبر) في داخل هذه المشهدية الكرنفاليه يجد نفسه وحيداً، موزعاً منقسماً بين عالمه الأول الذي جاء منه وعالمه الثاني الذي وفد إليه. لم يخلف الماضي وراءه تماماً، فقد حمل معه عبقاً مطلسماً من أرضه القديمة: ارتجافات عباءات سوداء فضفاضة يستتر وراءها شبق حسي عارم. ظلال هفهافة لسلطة أبويه جاثمة. حرارة ضوء سيتفجر بوهجٍ قاسٍ عبر ذاكرة وعين شخص يشعر بوصمة نفي يظل يلازمه ويشرخ روحه كبقية أصدقائه من العراقيين الذين نفوا أنفسهم بعيداً عن أنظمة سياسية متعسفة أو عن مصير موت في غياهب سجون لا يعرف عنها شيئاً في صورتها الحقيقية سوى تجريد الألم حتى يمكن للعقل استيعابه. هؤلاء - الذين جمعتني وإياهم سهرات عامرة بالمسرات - لم يُسلم أحدٌ منهم وجهه تماماً إلى الأرض الجديدة التي هاجروا إليها فقد حملوا معهم أشجانهم وآلامهم وخلافتهم السياسية فكان التشظي في كل صوره والخوف وقلق الحاضر والحنين المعذب ومجاراة الحداثة الأوروبية كلها معارك محتدمة فيما بينهم، كعرض ليلي يتلوه سكون مطبق - بعد شعشعات الشرب - وصوت ناظم الغزالي وبكاء وأصوات ملتاثة تنفي عن نفسها تهم وجرائر تخصهم وحدهم. في روما تبدأ مكابدات »جبر« الحياتية بالعمل كرسام بورتريهات في ساحة »نافونا«، أن يرسم العابرين والغرباء »مثله« في نفس الوقت الذي يكرس نفسه لدراسة فن النحت. في العام 1975 يحقق أول معرض شخصي له في جاليري LA GIADA بروما عارضاً أعمال تلك المرحلة والتي لا تنبئ على آية حال من الأحوال بصيرورته الفنية حتى ليخيل للمرء »أنه كان يمتلك عدداً من الأيدي داخل قفاز واحد«. كان قد أخبرني متذكراً تلك الفترة: »أنه كان يائساً من الإتيان، كان ينتابه الشك في مقدرته على الرسم«. إن تحولات »جبر« الفنية لعنيفة وتشي بعراك حاد مع النفس، وآلام روحيه في الداخل. أن يصل إلى رؤيا عميقة تجسد عوالم خرساء غير قابلة للتصريح بها. لقد سار في كل الطرق مجرباً كافة أساليب وتقنيات التصوير الأوروبي متنقلاً بين محاكيات شتى لطرق متعارضة فيما بينها. لقد جرب كل شيء في الحقيقة من أجل الاستكشاف والإمساك بحقيقة الفن الذي على شاكلة روحه.
خلال الثمانينيات أو تلك المرحلة المزدهرة كثيفة الغنى والمميزة لعمله الفني - كان يبدو أنه قد أمسك بالعطية الفنية التي ظل يبحث عنها - فيما وراء قلقه- أمسك بشيء كان عصياً بالفعل وأنه قد وجد ذلك الشكل الخيالي الذي يتفق مع ماهيته. في هذه الفترة يرسم »جبرعلوان« عن المنفيين والمتروكين في العراء. الهائمون على وجوههم تحت لواء الغربة والغرابة. هؤلاء الذين تتلاعب بجسومهم وأرواحهم النزقة قوة ما غير منظورة. نتأمل في هذه المتتابعة البصرية والتي تضم ثلاثة لوحات حققها »جبر« في النصف الأول من الثمانينيات: في اللوحة الأولى »أجنبية في المتحف« سنرى امرأة مطموسة الوجه تقف متأمله لوحه آخرى تمثل شقاً في أرضية اللوحة في داخله شكل شائه الملامح لامرأة خطوطها مغيبة في خليط لوني. اللوحة الثانية »طالب أجنبي« والتي هي صورة ذاتية للفنان نفسه حيث تصدمنا نظرات الرعب في عين شاب يحمل بعض الكتب ناظراً خارج الإطار منجذباً كلياً خارج وجوده داخل المسطح. اللوحة الثالثة »أجنبي في روما« والتي تمثل ذورة هذه المرحلة حيث يصور »جبر« ذلك الكائن الإنساني الذي يمتلك وجهاً كقناع يطفو به من وراء ستار أسود يحتل 2/3 من اللوحة وقد ابرز يده في وضعية متشنجة على خلفية مرمدة اللون وكأنما يؤدى عرضاً هزلياً أمامنا نحن جمهرة المتفرجين لذلك الغريب الذي يبزغ في غرابة في لعبه اتفاقية - بيننا وبينه - لكن الوجه الطفلي المربد بزرقة شاحبة يوجه إلينا نظرة صارمة وصادمة كأنما يشهدنا على إثم ما؟ لقد وجد »جبر« أن الحل الأمثل لإشكالياته الوجودية أو حالة التشظي التي وجد نفسه معتقلاً داخلها في منفاه هو إسقاط »المكان« وحيل المنظور بتحويله إلى بقع لونيه وشظايا فاقده للتنظيم، حيث يستحيل المسطح إلى وعاء أقرب إلى الإفراز أو العصارة اللونية. فاللون لا يتطابق أبداً مع الشكل بل يلتهمه التهاماً في طقوسية شرهه. إن اللوحات السابقة هي اقرب إلى »تعليقات« ذاتية لعابر متورط بين نوازع وذكريات تشوش عليه واقعة، وتمنعه من الانخراط العاطفي في الحدث / العرض. إنه ذلك الأجنبي الذي لا يمنح نفسه أبداً لأحد أو لمكان لأنه ليس له مكاناً على هذه الأرض. إننا أمام مفارقة عضوية مدهشه تعنى بالتشابك الملغز بين الصانع ومخيلته من ناحية، وبين متطلبات الوجود ومتطلبات الفن من ناحية أخرى. إن مفارقات »جبر« الحياتية تتشابك بمفارقات الخلق والإبداع: قد ظلت السلطات الإيطالية تعانده في منحه المواطنة حتى بعد تدخل العديد من المثقفين و الشخصيات العامة حيث انتهى به إلى تمزيق هويته الأصلية وكأنما يعلن في عرض كرنفالى (إنني لا أنتمي سوى لذاتي، أنا حيث تطأ قدمي الأرض) حتى نزلت وزارة الداخلية عن اعتراضها ومنحته الجنسية الإيطالية في عام 1994.
انشطارات أسلوبية
في هذه المرحلة تتبدى عبر أعمال »جبر علوان« بعض الخصائص المكونة لعالمه الفني حيث يفصح عن ولعه »بالبنية الكرنفالية« التي تتردد كثيراً في مشهده التشكيلي: فالتخفي والمواراة وتبادل الهويات هو قانون المشهد الذي يتنازعه عنصران رئيسيان يتسيدا اللوحة: الخفه / الرسوخ - هذا الحراك المرئي الخفي كما في لوحة »أجنبي في روما« أو في لوحتين أخريتين حققهما في العام 1986 »القناع / نساء من عالمين« في لوحة القناع سنجد استعاره بصرية لمشهدية الكرنفال الفنيسي الشهير حيث يحتجب الوجه الحقيقي وراء القناع المصنوع والمشطور إلى نصفين يتنازعهما الأصفر/ الأزرق. أما لوحة »نساء من عالمين« فيجتمع مرة أخرى الانقسام والانشطار ملبياً هوى داخلياً - بل غواية ساحقة - عند الفنان داخل بورتريه جماعي يمثل ثلاث نساء جالسات وإن كن مختلفات عن عالمنا الإنساني - واللوحه تحيلنا في تكوينها إلى أيقونة فنان العصور الوسطى الروسي »أندريه روبلوف« في الثالوث المقدس ولكن بوجوه محورة وكائنات غرائبية وحيث يقيم من أردية النسوة خريطة من مسطحات لونية متداخلة وهو ما يحيل إلى صميم الأسلوب الكرنفالي المثقل بماديته وزخرفيته الفادحة التي تلغي أي عمق أو وحدانية للكائن. من الممكن هنا أن نشير إلى استخدام »جبرعلوان« لأسلوب الباستيش PASTISHE في الجمع بين طرائق أسلوبية أو عمل استعارة تناصية مع لوحات وأعمال فنيه بعينها وهي سمه مميزة لأعمال بعد الحداثة تشير إلى حرية الاقتباس من أي عمل سابق دون أن يبدو أنها واعية بأية دوافع لهذا الاقتباس. كما أنه يفيد في بناء مشهده من فنون أخرى مثل السينما / المسرح وتقنياتهما المختلفة حيث يلجأ إلى تقنية الشاشات أو فتح نوافذ داخل المسطحات التصويرية في متن اللوحة يعرض داخلها مشاهدات أيقونية. أيضاً يعمد »جبر« في كثير من لوحاته إلى طمس وجوهه أو إحراقها في كثافة لونية مشبعة تمحو معها الخطوط الخارجية للوجه كما في لوحة بعنوان »تعبير« التي تمثل بورتريه لامرأة قد التوت تقاطيعها وتشوهت. ذلك الوجه الفقمة والمنتفخ بجزام روحي كما لو أن ما تحت الوعي يسري في أوصال العضوي حتى يخيل للرائي أنه قد استنسخ من وجوه »فرانسيس بيكون« المنتفخة وأجسامه العضوية المشوهة في أوضاع قسرية تبرز الثقل غير المرئي لوجود يضغط الجسم البشري داخل منظور فراغي ليسطحه. هذه الانطباعات المرتسمة على الوجوه والناتجة عن تصادمات بين وعي خام بفرديته وألم قهر وعزل اختياري. في جانب آخر من عمله يعكف »جبر« على تيمة الاستدعاء لمشاهد طفولية حملها معه في منفاه لكنها على الدوام منزوعة الحنين. إنها شهادات لشخص لا ينتمي سوى للمسطح الذي يسجل عليه صوره. في لوحه بعنوان »اختي« mia sorella يعرض علينا وجه امرأة نائمة مفتوحة العينين بينما يدها ممدودة كأخلاط لونية شائهة بجوار رأسها، معلنة في ألم في تلك الوضعية كأشلاء أو كإعلان صريح على الشهادة. »وجبر« نادرا ما يمعن في رسم تفاصيل الوجه لكنه هنا فان الوجه المستدعى من الماضي يتسم بوضوح تعبيري مكلل بألوان متألقة.
ينفي »جبر« عالمه الفني عن الواقع المعتاد المباشر. إنها عوالم مصفاة من لوثة اليومي موضوعة داخل اسلبة بصرية تمثل انعكاسات هشة للعالم، فعوالمه المغوية تنتمي أكثر إلى مرسمه أو المكان الذي يبتدع فيه خيالاته وشخوصه التي تتحول إلى أشلاء لونية أو عصابيات متألمة تروع في تكتلات غنائية خاصة »اللوحات التي تعالج عوالم نسائية« بل انه ينفي نفسه أيضا عن أشكال الثقافة الشعبية الرائجة اليوم في أوروبا وأمريكا بتقنيتها الشائعة مثل استخدام نتف المواد المستعملة او عوالم الشاشات vedio art فهو يظل دائما رصينا ووفيا لطرائق أسلوبية اشد قدما لكنها مدعوكة على طريقته. يظل عنيدا ومصابرا وسط تيارات متلاطمة من سوق الفن الذي يرفع راية التغيير يوما بعد يوم ليلبي مطالب »الكتل الجوف« وتحولات المزاج في منظومة إعلامية رأسمالية شرهة. إن مادة »الاكليريك« التي يبتدع من خلالها تشكيلاته معجونة بمزاجه وسيطرته الكاملة على أدائه فهو يبدع للحظته دون وضع تخطيط مسبق للوحته. فتجربة التشكيل تحمل دوما معها مفاجآت غير متوقعة، وفعل الإبداع يشبه ما يحدث في »ألعاب الفيديو التفاعلية« من حيث تتبع مسارات ثنائية بين الشاشة واللاعب، وهذا ما يحدث أيضا بين الصانع والمسطح في محاورات ثنائية الطابع تشبه المضاجعة مع اليد والمخيلة. أن عناصر المشهد البصري عند »جبر علوان« لا تبعث أبدا على الراحة، إنها مرهقة لعين الرائي بالرغم من اقتصاره على مفردة أو مفردتين تشكيليتين. وفي الحقيقة فان »جبر علوان« هو بحق فنان الابتسار كشاعر مشحون بدلالات شعرية يفجرها عبر عدد قليل من مفردات اللغة. انه ببصيرة نافذة لا يرسم اللوحة إنما يقوم بالتخديم عليها، فمشاهده التشكيلية تبدو وكأنها قد التقطت في تسارع لذة يبغي صاحبها أن يفرغها سريعا مستعيرا تقنيات الكاميرا المختلسة/ المراقبة في التصوير السينمائي. انه مصور اللحظة الدرامية الحرجة فالمفارقات البصرية التي يختارها ليشيد منها لوحاته، تحمل تاريخيتها التي تخاطب خيال الرائي فيما وراء سرديتها التشكيلية المعلنة، إنها لمحات مشوشة كما تتداعى في ذاكرة عشوائية أو هذيانية بكيفية انفجارات ضوئية خاطفه لا تترك للمرء أن يتبين محتوى ما يراه، فهي مضغوطة إلى أقصى حد ممكن وكأنها مجرد اقتراحات بصرية لحالم وقد أجريت عليها عمليات التكثيف والمونتاج التعسفي غير الخاضع لأي قانون سوى الانفعال اللحظي للصانع نفسه، حيث لا تترك هذه المشاهد للرائي سوى تفسير بدئي لما يراه أمامه. إنها إحدى ألعاب الفن الماكرة في صنعتها والتي توحي للرائي انه قد امسك بإبعاد الرؤية لكنها في الحقيقة لا تمثل سوى رؤيا أثيريه للوجود وقد تجاوزت السطح الخلاب للعالم.
انعكاسات مرآوية
لا يكتفي »جبر« بتصوير المنفيين والموصومين من حوله بل يظل يبحث في نماذجه البشرية ritratto عن انعكاسات لذاته المنعزلة، فيرسم الشعراء المجانين وأيضا السحرة. إنهم جميعا احتمالات وجوديه له، »الجواهري« الشاعر العراقي في عذابات المجاز والمنفي، أما الساحر الذي يصوره وحيدا تفر من أكمامه الحمام والخيالات، بلا مشاهدين »يا له من ألم أن تعجز ألعاب الفن عن جذب الآخرين!« ذالك الساحر المتيم بألعابه والذي بمنزلة مبتكر لأشكال احتيالية هو صنو ورصيف السأم المنفي في كبرياء خيالاته النهمة الى الظهور والتجسد، فقط تسيطر »اليد« على المشهد بكامله، تلك اليد التي يكتنفها دائما التواء عصابي متشنج وكأنها مفصولة ومعزولة عن بقية الشكل. إنها تمثل لزمه ودال متكرر leitmotiv في لوحات »جبر« والتي تحمل في داخلها إشارة ضمنية وصريحة ليد الصانع - الرسام. تلك اليد المشبقة التي تبغي أن تجرح السطح وتكاد تكتسب في اللوحات زخما عضويا كأنها تمثل احد الأطوار التخليقية لكائن ما، مثل حوافر الكلب الذي صوره في لوحة من لوحاته وهو يهرع بشراسة نحو عطية ما ملقاة على أرضية اللوحة ؟ انه الكلب المختار بعناية فائقة- دون الكلاب جميعا- ليكون صرخة الفنان وهو يلهث ككلب للإمساك بتخاييل روحه. كلب.. وعطية ملغزة.. وأرضيه زرقاء كأنها وحشة الموت. في عام 1995 يعود »جبر« مجددا ليعرض لوحه أخرى عن الشاعر »الجواهري« لكنه يصوره وسط أجواء غرائبية والشاعر جالس في وضعية تأمل وانفصال مستخدما التعبير التصويري المعتمد على تداخل الألوان ودرجاتها والتي تبدو معها الأشكال غير محددة. حيث يكلل الشاعر برداء احمر تحوطه شلالات لونية كإسقاطات ضوئيه لسينوغرافيا اللوحة، التي تتناص مع لوحه أخرى لفنان الباروك الهولندي »رمبرانت« لوحة: »النبي ارميا حزيناً على دمار اورشاليم« حيث يستعيد المشهد التوراتي هناك في بغداد المدمرة بالقصف مستدعيا الشاعر بعد موته وخراب المدينة التي نفي »جبر« »نفسه عنها«.
يتردد عبر لوحات »جبر« وبصخب تأملاته الخالصة في الفن وجوهره وأسلوب المحاكاة، فكثير من لوحاته تتقوت على طبيعة عمله كفنان تشكيلي وهو احد الموضوعات الأساسية التي تشغل اهتماماته، والتي يصور فيها نفسه وهو يمارس عمله أو ما يطلق عليه »ميتا لوحه« في سعيه إلى تحويل حياته نفسها لعمل فني. في إحدى اللوحات او autoritrato والتي يلجأ نادرا فيها الى تجسيد المنظور الفراغي للمكان مشيدا لوحته من وحدات هندسية، مبرزا أبعاد المكان / الاستديو حيث يجلس جبر محاطا بلوحات من أعماله، بينما يعمد بشكل توثيقي إلى رسم ملامح وجهه بدقة مدهشة تصل الى النزعة الفوتوغرافية. وفي لوحة أخرى يصور نفسه عاكفا على تشكيل وجه هائل لامرأة بازغة التقاطيع بينما قد احتلت موديل طمست ملامحها الجانب الأيسر من الفور جراوند وقد أعطت ظهرها لعمل الفنان. ان »جبر« في الحقيقة لا يكتفي بالتخلي عن الأصل (العالم/ الموضوع) في مقابل (الصورة/ الذات) بل يبحث عن تبرير للحياة في الفن ذاته، وبتعبير آخر فإنه يقوم بتشويه الأصل، فالفن هو التعويض الوحيد عن صدمات الحياة وعلى انه اصدق تحقق واكتمال لوجود هو في ذاته ناقص وغامض المعنى. أن الفن عند »جبر علوان« ليس تحريرا من اسر الوجود أو تعبيرا عن بهجة الحياة أو على الأقل محاكاة للعالم، بل أنه يذهب بعيدا مثلما ذهب من قبلة »فرنسيس بيكون« الذي لا تخرج أعماله عن كونها سجلات غامضة عن الطبيعة البشرية بكل تناقضاتها المفجعة.
أشباح الإطار
خلال النصف الأول من التسعينيات يتبدى »جبر علوان« في كمال ذروته الفنية معنيا بشيئين أساسيين يقومان فنه: قيمة الفن عبر المكابدات التجريبية في خلق نص تشكيلي يتسم بالفرادة وأيضا الذاتية، وقيمة التجربة البشرية بكل غرابتها المفارقة لوضعها المحكوم عليه بالنفي والموت اللذان هما السقف والأرض عند فنان مثل»جبر« يظهر هذا جليا في اللوحات التي تعالج بشفافية جريحة العلاقة الغامضة »بل الملتبسة« بين الرجل والمرأة. أو موضوع الحب الجسدي وعاطفة الحب المثقلة بصور الانشقاق كما في المشهد المستعار من شكسبير »لوحة عطيل وديدمونة حيث يقع الرائي في الالتباس الواقع في منطقة رؤيوية سحرية لا تبين إذا كان المشهد هو لحظة القتل أم انه العناق الجنسي؟..... أو في لوحات أخرى تعالج النفي الجسدي للشهوة المحمومة وهي موضوعات تغلب عليها بلا شك سوداوية الكاتب السويدي »اوجست ستراند برج« أو كآبة »ادفار مونش«. إن شخصياته المصورة - بألم شخصي - تبدو وكأنها مقبلة لحظتها على التفجر، أو أنها قد انتهت لتوها من تفجر مدهش. إنها مشاهد قلقة لوجود مهدد بعنف طاغ وتثبيت للحظة مقتطعة عن سياقها - لحظة معلقة - وفي انقطاعها تتقرر حتميتها المؤلمة، لحظة غارقة في ضبابيتها أو هيوليتها، كأننا نبصر اللوحة عبر حاجز يفصلها عما نراه بالفعل. أما وجوه نسائه فهي دائما مطموسة وقد شوهن بلطشات فرشاة عنيفة. إن نساء »جبر« يتفجرن من بعضهن البعض كيرقات منجذبات إلى الانحباس في اسر اللون والإطار، مستنسخات بصورة كربونية ليس لهن شبيهات لكنهن أيضا مسطحات الأعماق، وكأنهن مقسرات على أداء عرض مسرحي، متكلفات في أوضاعهن الغنائية داخل اللوحة.
...عندما التقيته كان يقترب حثيثا من الخمسين من عمره. كان يبدو هادئا أمام الجميع، وإن كانت عيناه تخفي قلقا يشوبه الحزن والأسى. في ذلك الوقت كان قد حقق العديد من المعارض الهامة في باريس وبلجيكا، كما اقامت له بلدية »رافينا« معرضا كبيرا قام بتقديمه وزير الثقافة والبيئة الايطالي »آنذاك« (فيلتر فيلتروني) »لكنه كان أيضا في سبيله إلى التخمة والرفاهية الفنية التي تنتهي الى تكرار كل شيء. كان بداخله تساؤلات يائسة لفنان في منتصف العمر لم يصل بعد إلى إجابة ما.. وماذا بعد؟ لا شيء سوى السأم والضجر... كان يرسف في قيود الصنعة ونشدان المخيلة أن تأتي بجديد، يخبئ انفعالاته وراء التلهى بصور الحياة اللذيذة وكان في قرارة نفسه يعي مأزقه، وكنت أرى بوضوح عبر عينيه نظرة عدم الرضا والقنوط وهو يقف أمام لوحة لم تكتمل بعد دافعها الوفرة الفنية وليس العوز إلى يقين فني يقيمه من عثرته. في لحظات كان يفاجئني بغير متوقع عبر لطشة فرشاه كثيفة سريعة ومخاتلة تغير كل شيء في لمح البصر أو قطع حاد لوجه. أشياء من هذه القبيل تأتي عفوا ويكون »جبر« في تلك اللحيظات المارقة قد نسي تاريخه وشهرته ويعود خفيفا متألقا كأنما يبدأ توا من جديد، لا يعبأ بشيء من حوله وكأنه في عناق شهواني مع خيالاته الثملة. في اليوم التالي عندما أمر عليه أجده جالسا في صمت يدخن سيجاره وهو يتطلع الى لوحته التي تكون قد تشكلت نهائيا، وقد أضاف إليها لمسات غير مرئية - اخالها سحرية- وقد أخرجتها من حيز المشابهه بما كان قد حققه من قبل.
»يلوح لي إنني سأظل على الدوام سعيدا في المكان الذي لست موجودا فيه، واذا شئنا المزيد من الدقة: حيث لا اعثر على ذاتي«... هذا ما قاله يوما الشاعر(شارل بودلير) ولكن من الممكن أن يردد »جبر علوان« نفس العبارة وهو ينظر مبتسما بسخرية إلى حياته ولوحاته.
|