المقام علمياً ، هو مجموع الدرجات المحصورة بين القرار والجواب ، اما النغمة فهي الاصوات الصادرة عن درجات المقام وفق الابعاد الثنائية المقررة لها، وعليه فأن اختلاف النغمات او الأنغام يرتبط باختلاف الابعاد المذكورة والمقام العراقي يتركب من ثلاثة اقسام هي ـ التحرير والمتن والتسليم ، وما بين التحرير والتسليم مجموعة من الاوصال والميانات والقرارات ،والتحرير يعني المقدمة حيث يتوخى من خلالها المغني تهيئة جو المقام للاسماع ومن الضروري القول ان تحارير المقامات تنطلق عادة بنغم المقام الاصلي من دون أي تحويل ، وتؤدى عادة من طبقة هادئة وقورة وعلى قرار المقام، أي نوتاته المختلفة، ففي مقام الراست مثلاً يكون التحرير كله من نغم الراست وهكذا الى جانب ذلك فأن التحارير تغنى بالكلمات او العبارات المضافة فلكل مقام كلماته المعينة للتحرير ، فتحرير مقام (الاوج) يأتي من خلال عبارة (يادوست) وهي كلمة تركية، وتحرير مقام (الحجاز ديوان) يقوم على عبارة ـ فريا دمن ـ وتحرير مقام النوا مع عبارة ـ أمان ـ .
اما ـ المتن ـ هو الجهاز الجوهري من المقام يغنى مع ابيات القصيدة او اشطر الزهيري ، والزهيري الارتجال في الغناء بنظام شعر شعبي يتألف من سبعة اشطر ، تنتهي الثلاثة الاولى منها بكلمة متحدة في اللفظ وتتغاير عنها في المعنى ومثال لذلك ما غناه محمد القبانجي من مقام القطر.
نار الغضا لوعت مني الضمير بجاي
الغير منهم شرب كاس الوداد بجاي
تميت أعالج بروحي جالغريج بجاي
وانوح من بلوتي نوح الحمام ابغرب
أرعى نجوم الفلا هايم صباح أوغرب
ماهي مروة تخلّونا بدار الغرب
ابجي على شوفكم ماتسمعون بجاي
ومن المقامات التي يغنى فيها الزهيري ، الابراهيمي ـ وهو اكبر المقامات العراقية ، والمحمودي والناري والمخالف والمدمي والحديدي ، وسيصبح من المستحيل علينا في المستقبل نحن ورثة المقام العراقي من الاجيال الحالية واللاحقة ، ان نكتب تاريخاً لمجموعة البناءات المقامية العراقية ، الثوابت الغنائية اذا ما استندنا الى ابحاث كتلك ، فالمقامات العراقية بما فيها من نقاء وهجنة وتغريب تشكل وحدة من روح وتطور محدود ومحدد ، لايمكن ابداً العزل او الفصل بين عناصرها ويجب على الفنان الا يتخيل ابداً انه باستطاعته ان يفهم احدى العمارات البنائية لاية مجموعة مقامية من دون العودة الى بقية المجموعات الاخرى التي تترابط وتتآلف معها، وهذا ما وعاه الفنان حسين الاعظمي سواء بالحس الفطري ام بالدراسة فيما بعد، ان ولادة هذه المجموعات المقامية وانتشارها وتثبيتها الباطني لاتقع في حقبة تاريخية واحدة، انها نتاج ثري لحقب تاريخية متتابعة ومتعاقبة، قد يصعب تحديدها ولكن هذه المجموعات المقامية تملأ قروناً عديدة، تملأها عطاءً واخذاً فيهما التبادل والازدهار المدهش بخصوبته وثرائه، وحتى نضوج مذهل وتحولات شكل تأخذ مداها المحافظ ولكن اشكال هذه المقامات الغنائية وتراكيبها ،
هي ربما تخضع في قليل او كثير الى التغيير والتحويل المتدرج، اذ ان في اعماق هذه المقامات تكمن الروحية الواحدة ذاتها، وهذه الروحية هي ذاتها التي تنطق بفرادتها الفنية العجيبة ، هذا التغيير ابدأ مع المغني العراقي (رحمه الله بن شلتاغ) المعروف باسم كوكاز، وقد احضروه الى بغداد صغيراً، فنشأ في افيائها وترعرع حتى مات فيها.. (1793 ـ 1871) والى رحمة الله بن شلتاغ تعود بعض المحسنات والاساليب التجديدية في المقام العراقي ، فهو الذي ابدع مقام (التفليس) وغنى من خلاله مقطوعة تركية، يقال انه نظمها، وقد سار على نهجه المغنون البغداديون الى يومنا هذا، والامثلة كثيرة وعودة الى الجوهر الموضوعي لتاريخ المقام العراقي ، نقول عاشت اقوام واجيال في بغداد وكان كل شيء في بغداد في حال من تحفز وتوثب واستعداد وترقب ، وقد تبدت أولى ارهاصات المستقبل عبر صورة غنائية سيطرت على اسماعها ، وقدر لها ان تكون فاتحة المستقبل الريادي الذي ينتظر هذه المدينة التاريخية المتفردة وتبدت هذه الصورة بخطوط واضحة ، حيث اعلت هذه المدينة شأن نظام مقامات معقد نسبياً وتقاطر مغنوها في ارجاعه الى الغناء العباسي القديم عبر ابراهيم الموصلي واسحاق الموصلي، غير ان الحقيقة ان هذا النظام خضع لتأثيرات محلية في العصور الوسطى التركية، وايضاً الفارسية والكردية، واذا كان الأثر الاوروبي اقوى تسلطاً على الفن المصري واللبناني وعلى حوض البحر الابيض المتوسط ، فأن مثل هذا الاثر هو اقل وضوحاً في العراق ، وقد تقرر الى جانب هذا التراث البيئي العريق المضي في الفن الغنائي بتنظيم واتجاه وهدف ورغبة، ذلك ان شيئاً ما أدركته البصائر الثاقبة، وهو ما يزال في حرم الغيب، والمستقبل البعيد، انه شيء كان ما يزال انذاك غامضاً، مظلماً مبهماً، لكن القناعة بولادته ومجيئه وترعرعه كانت وطيدة راسخة ، ومنذ ذاك الحين فيما بعد، عاشت بغداد رؤى هذا الفن وكان يرافق عيشهم هذا، احساس عميق بأن بغداد لابد ان تكون حاملة مشعل فن غناء المقام عبر موجة تدحرجت في تيارات من رؤى هبت ومن بغداد ايضاً استيقظت مشاعر التمسك بالفن الغنائي الذي اعطى نبضاً جديداً للحياة في المدينة التي قدر لها ان تحمل رؤى فن المقام العراقي وتنافح من اجله وتدافع عن ديمومته طوال عهود واجيال وحقب وقد نمت على جوانب الفن الغنائي البغدادي سلاسل من الاساطير لها صفة (الناموس) وهي كلمة تستخدم لأشد جميع المناهج قابلية للتمثل والادراك، أي انها كلمة ترتكز اساساً على التقييم،
ان داخل المقام العراقي شيئاً ما مقرراً وثابتاً أي راسخاً مسحوراً بتكوينه الفني، ويملك الفنان المقدرة الديناميكية على التشكل الفني الذي يلقى هوى لدى الاسماع والقلوب ويمتلك السر بين يديه وحنجرته ونبراته، اكان هذا المقام كما كان في القديم بعضا من سحر فعال ، ام انه كما هو في ايامنا هذه ، قانون موسيقي رياضي فني تقليدي ؟ لا نريد ان نجيب اجابة قاطعة إنها سلسلة من الحوار يعلو فيه السؤال وتتغافل فيه الاجابة ! فالشعور داخل السؤال هو نشوة من نشوات البحث يرافق كل خطوة تجريبية تقرر شيئاً ما في ميدان الفن الغنائي لقوالب المقام العراقي ، فهذا الفن كما هو الحال لأي فن غنائي عربي عريق (الموشح ، القصيدة ، الدور ، الموال ، المالوف ، الاغنية الشعبية ، والطقطوقة) وسواها هو نواة، مفهوم ، مرتبة ، نسق تكتمل فيه ملامح الجاذبية الفنية التاريخية بالرغم من ان المقام بقي ميلاً عظيم التأثير.. أعلتج في صدر الفن الكلاسيكي العربي القديم، عبر التجربة الانشادية وداخل سجن منهاج فني من روابط مقامية ونغمية لايقبل تعديلاً أو تبديلاً ، ان الخبرة التي تشكل عبرها المقام العراقي ، وفق هذا المفهوم الصارم، المحافظ ، تشكلت عبر صيغتين ـ النظرية والتقنية ـ وكلتا هاتين الصيغتين تتطلبان تدريباً للفهم البشري والمران الغنائي الالقائي، فالنظرية تتطلب موهبة المعرفة التي تمتلكها القلة من العقول النيرة من الفنانين الى حد البصيرة المشرقة كتلك التي يمتلكها (الواسطي) العراقي الرسام الذي استولى بمهارة خارقة على الفراغ الادائي التشكيلي وعثمان الموصلي النابغة العراقي في الموسيقا والشعر والتصوف وعلوم اللغة القريبة (1854 ـ 1923 ) وسيد درويش الذي حول الامتداد في الالحان الى العمق التصويري (1892 ـ 1923 ) ومحمد عبد الوهاب بعبقريته جعل للموسيقا دفقاً من الانطباعات في وحدة شكلية امتلكت جرأة الاستقلال النسبي عن الكلمة الغنائية (1897 ـ 1991) وزكريا احمد، الذي حول تصورات الحس العربي في اللحن الى تأمل مطرب (1896 ـ 1961) ومحمد القصبجي الذي اجرى الهرمنة المشتقة من روح اللحن العربي (1892 ـ 1966 ) ورياض السنباطي الذي وحد تفاوت الوجدانيات والاحاسيس في مقدرتها على التبليغ (1906 ـ 1981) وفريد الاطرش صاحب التناغمات السببية في مجاري الالحان العربية بانشاءات .. خارقة (1910 ـ 1974) ، وانها لنظرة الى الفن بأعمق ما لها من مفهوم أولي وبالمثل هناك التقنية التي تعني تقنية سحر دفاعية عن النظرية وهو ما يميز العقل البشري الفني بين بدائي وناضج، والعمل التقني في المقام العراقي يفترض مسبقاً القدرة العقلانية للربط، والفنان النظري هو العراف المندد، النقاد اما الفنان التقني فهو المكتشف بما له من إحاطة مفاهيمية ، القانون القابل للتبليغ به، والمقام العراقي بما له هذه الفعالية العظمى على مستوى تاريخية الفنون الغنائية، فهو يمتلك خفقانا وايقاعا وتتاليا الى جانب الثوابت، وهو فن متحرك يمتلك عنصر التوتر نظراً لان الفنان الداخل الى بوابته يعرفه ويستخلص منه وشائج القربى بين مختلف مقاماته وانغامه ، فهو والحالة هذه فن الزمان والمصير والاتجاه والعنصر والتاريخ والهوية ، وقيمة الفن الادائي الذي يمثله الفنان حسين الاعظمي، هو الاستعداد للابداع من خلال ملامح عديدة، لعل في مقدمتها القدرة على تمييز شدة الاصوات وعلوها (البشري) و(الآلي) اولا ثم ـ ثانيا ـ تمييز الزمن الذي يستغرقه الصوت الموسيقي ـ ثالثاً ـ الاحساس بالايقاع، رابعاً ـ الذاكرة الصوتية ، خامساـ ادراك الاشكال والبنى الموسيقية والقدرة على تقليد الصوت المسموع لفظياً او بوساطة آلة موسيقية، ويمكن القول ان حسين الاعظمي كفنان اندرج في قوالب أداء المقامات العراقية عبر تاريخ يتحرك في مساحة زمنية تربو على العقود الثلاثة ، يمتلك في ادائه غنى.. التصورات والترابط القوي بين التمثلات السمعية والبصرية مع المحتويات العقلية والانفعالية المتميزة.
وقد يكون من المفيد القول، ان الفضل الرئيس لحسين الاعظمي يكمن في كونه قد انتزع المقام العراقي من قوالبه الثقيلة والمعقدة وابدى على الدوام اهتماماً بواقعية الائتلاف مع روح المعاصرة الحياتية، والذين يناقضون هذا الاتجاه من غلاة المتعصبين يجهلون ان تاريخ المقام العراقي ان هو بأكمله سوى تحولات مستمرة للطبيعة الانسانية في فن الأداء الفارض نزعة التطور والمسايرة الحثيثة للتطور الزماني، ذلك انه لايوجد فن ولايمكن ان يوجد فن لا في القوانين الموضوعية، للغناء والأداء يملك الحق في ادعاء البقاء على حاله، حيث تغدو الحركة الدائمة هي القانون الجوهري لكل ماهو موجود، في هذا الاتجاه، نحن لا نقول وداعاً للماضي ولكن نقول نحن ننطلق من الماضي الى الحاضر ، فلا تجديد للحاضر من دون ماض نجدده، هذه قاعدة ، وحتى تتبين ما في المقامات العراقية من بناء فني شاهق واصول مرعية ضاربة جذورها في اعماق الذهنية العربية.
ونأتي على مذهب (اسحاق بن ابراهيم الموصلي) المتوفى في عام 235 هجرية، فقد صحح أجناس النغم والايقاع واضاف ما استنبطه أهل الصناعة مما ينسب الى العرب خاصة من دون الذين جاورهم من الامم وبذلك، أ ستكملت عند القدماء ملامح الاصول العميقة التي تعد دعامة الغناء العربي والعراقي عبر عصور ما قبل الاسلام حتى نهاية الدولة الاموية، عندما تعاقبت عائلة من الاذهان حاولت ان تفرض اصول الغناء وقد حسنوها بفطرتهم وطبائعهم ثم جاء مذهب المتوسطين واقرب هؤلاء الى القدماء من الذين بدأوا منذ القرن السابع للهجرة في تعريف اجناس النغم والايقاع والجماعات اللحنية.. بمسميات اصطلحوا عليها لتكون بازاء الادوار الشهيرة وتقوم مقام التجنيسات التي وضعها القدماء على مذهب اسحاق الموصلي، وتاريخياً هم اول من استنبط الاجناس اللينة واستعملوها في جماعات النغم، ثم اتجهوا الى تقسيم الانغام الى اصول وفروع، اما المرحلة الثالثة ما كان على مذهب المتأخرين، ومذهب المتأخرين هو امتداد لمذهب المتوسطين حيث يبدأ من القرن العاشر للهجرة ويتيمز تماماً بالتوسع في فروع الاصول وانتقاء ما يتشعب منها، وجل مؤلفات هذا النمط كان في اراجيز او في رسائل قصيرة.
اما المرحلة الرابعة ما كان على ما درج على مذهب المحدثين والى يومنا هذا، حيث يبدأ من القرن الحادي عشر للهجرة، عندما اخذت امور النغم والايقاع والتسميات الموضوعة إتجاهاً وإصطلاحاً في الاستقرار، وكان لأهل الصناعة العملية من الاتراك والعراقيين والمصريين اثر واضح في انتشار اكثر المصطلحات المعهودة لمقامات الالحان الى عصرنا الحالي.
وعبر اثني عشر قرناً من الزمان اندلعت حرب فكرية للمحافظة على التراث الفني للمقامات العراقية التي هي جزء عظيم من فعالية الجهاز الفني لشجرة الانغام الكونية، هذه الحرب القوية العميقة المؤثرة امتلكت عناصر الديمومة عبر التاريخ، لان هذه المقامات غنائية، ذلك ان النفس تستغني به عن غيره من الملاذ البدنية اثناء حالات السماع التي تصل الى حد الوجد، لذلك قال فيثاغورس( ان فضل الغناء عن الكلام كفضل الناطق على الاخرس) ويغدو الغناء فاعلا عبر التقنية ، وهي مجموعة الخبرات المكتسبة من الحياة اليومية ، انه اكتساب قهري لا طوعي ، ذلك ان الانسان قد انصت الى تحولات الطبيعة، وحفظ الملاحظات المسموعة والمرئية عن تلك التحولات وقد بدأ بتقليدها بوساطة وسائل تلك الملاحظات تنفع النبض الداخلي لروحه وتفيده، هذا الاستنطاق الملحاح الذؤوب للطبيعة قد مر عبر الحنجرة بوصفها كوناً صغيراً يطيع مشيئة الفنان وحده، لقد تقدم الغناء عبر الحنجرة ، لان هذه الحنجرة التي وهبها الله تبارك وتعالى للبشر هي قوى حياة مطمورة، التقنية التي تعلمناها من الطبيعة هي التي دفعت بالانسان الى التعريف على تفاصيل هذه الحياة المطمورة من تفاعل وانفعالات واحساس وشغف وحب وتعبير، انها دراما النبض الانساني الشخصي مخاطباً النبض الكوني وبهذا تصبح التقنية الغنائية الصادرة من الحنجرة البشرية ذات سيادة ، ففيها تتبدل الخبرة الاولية الغنائية الغريزية الى معرفة غنائية واعية وكما ان (اسطقسات) وهي اصول اولى ومبادئ لفظ معرب عن اليونانية جمع ـ اسطقس ـ الوجود هي اربعة اولها النار، وهي عنصر حار يابس ، ثم استحال منه الهواء وهو حار رطب ، ثم من الهواء الماء وهو بارد رطب ثم استحال من الماء التراب وهو بارد يابس ، فهذه استحالات العناصر وكذلك كانت الاصول الاربعة ، فأنه اول ما استخرج مقام ـ الرايست ـ ثم استخرج منه العراق ثم استخرج من مقام العراق مقام الزيرفكند مقام ـ الاصفهان ـ فهذه الاربعة ـ الاصول ـ هي اساس لوجود جميع الانغام ، ومنها جاء اشتقاق المقامات من الاصول فالراست تولد منه، الزنكلاه والعشاق والعراق خرج منه ـ الحجاز والبوسليك والزير فكند انبثق منه ـ الرهاوي والبزرك والاصفهان نما منه ـ الحسيني والنوا.
وهكذا تكاثرت شجرة الانغام والمقامات عبر عصور التحول في مجالات الحياة الفكرية والعملية ، وعليه فأن الرجوع الى النظرة التاريخية لتقدير ظاهرة المقامات العراقية المنتسبة للماضي، قد يكون اشارة للعودة الى واقعية الغناء الاصولي، لقد تسكعنا طويلا في الضباب الرومانسي للاساطير والمعتقدات وانها لمتعة ان ننزل الى الارض ، ففيها عائلة كاملة من الحناجرالتي مارست فن الغناء العسير، فن المقامات العراقية ابتداء من (رحمة الله بن سلطان اغا بن خليل شلتاغ) مروراً بـ احمد زيدان والملا عثمان الموصلي، وابراهيم العمر بن عمر بكر الحافظ الاعظمي ورشيد القندرجي ، وقدري العيشة والحاج جميل بغدادي بن السيد سلمان بن مصطفى بن علي ويوسف الكربلائي وعلي جوامير وشاكر البنا وعبد الفتاح معروف، ونجم الشيخلي وصديقة الملاية ومحمد القبانجي والسيد جميل الاعظمي واسماعيل الفحام ومحمد العاشق وعبد القادر حسون وعبد الهادي البياتي ومجيد رشيد ، وحسن خيوكة وعبد الرحمن خضر ويوسف عمر والحاج هاشم الرجب ونسرين شيروان وناظم الغزالي ورسول كيردي وشعوبي ابراهيم وعبد المجيد العاني وعبد الرحمن العزاوي وحمزة السعداوي الى سليل هذه الشجرة المعطاء الفنان حسين الاعظمي وبقية الاصوات الاخرى حامد السعدي وخالد السامرائي وطه غريب وسواهم. وكان ثمة تقدم ملحوظ في بحث المقام العراقي وفي دراسة المستويات الدنيا من بنية المقام بصفة خاصة، لايمكن حسابه او التحاسب معه من قبيل المصادفة ، لأن هذه المستويات بالذات تعتبر حقلاً موائماً لتطبيق المناهج الاحصائية بنظمها الرياضية المعدة اعداداً ماهراً ، وسر هذه المواءمة يعود الى ماتتمتع به هذه المستويات من تميز واضح في وحداتها ، كما ساعد استخدام النظام الرياضي للمقام العراقي على اقامة نماذج معقولة لأبنية ايقاعية موسيقية شديدة التعقيد، ويقتضي بعد ذلك تطور الدراسة العلمية للمقام مزيداً من معالجة المشكلات العامة المتصلة ببنية العمل الشعري والزجلي العائد للمقام العراقي وبهذه الصورة يمكن ملء الفجوة بين دراسة المستويات الادائية للمقام العراقي وبين القضايا الفنية لتاريخ المقام العراقي وبالنسبة لتعدد المقامات والانغام، فأن المنطلق الاساسي لدراسة هذه الناحية يتمثل في ادراك خاصية التناقض الظاهري التي تميزه من حيث هو ، ومن ثم فلو لم يكن وجود المقام العراقي حقيقة قائمة ولا تقبل الجدل لأمكن تماماً التدليل على انه من غير الممكن التثبت من وجوده واساس التناقض الظاهري في المقام يتركز في الآتي، ذلك ان من المعلوم ان اية لغة موسيقية لاتخلو من نظام بمعنى انها ليست حرة من القواعد التي تنظم عملية التوفيق والمزاوجة بين العناصر المكونة لها، فعند إجراء هذه العملية توجد ضوابط معينة ينتظم منها جملة القواعد في لغة ما، وبغير وجود هذه الضوابط، فأن اللغة لايمكن ان تخدم ما وجدت له من غايات اتصالية غير انه من الممكن ايضاً في المقابل ازدياد هذه الضوابط المفروضة على اللغة الموسيقية للمقام يواكبه في الوقت نفسه تضاؤل استجابتها لروح العصر! والنص الشعري والزجلي العائد للمقام العراقي يخضع هو الاخر لكل ما تخضع له اللغة الموسيقية للمقام من قواعد، ولكنه يزيد على ذلك بما يفرض عليه من قيود جديدة اضافة الى تلك التي تتعلق باللغة الموسيقية ، مثل ضرورة مراعاة المقاييس الوزنية الايقاعية وتنظيمها طبقاً للمستويات الصوتية والتقفوية والمعجمية والفنية والجمالية ، ولذلك سعى الفنان حسين الاعظمي الى محاولة معالجة هذه المشكلة بتخفيف ضغط القواعد الفنية وفتح نافذة الأداء المعزز بطاقة معقولة من الحرية في التنقل بين المقامات والانغام والأخذ بما ينسجم وايقاع العصر، أي الوعي بمنابع الدلالة المعرفية لفن المقام، وان حسين الاعظمي قد أدى المقام عبر مقولة، ان فكرة الفنان تتحقق في النماذج التي ينتمي اليها واقعه!
النص البنائي الموسيقي للمقام العراقي هو عمل على درجة عالية من التنظيم وهو تنظيم تحقق عبر طريقتين (الاولى) على صعيد النظام الغنائي يمكن تحقيقه بخصيصتين جوهريتين ـ الموقعية والسياقية ، موقع المقام وسياقاته الفنية. (الثانية) على مستوى النمطية تحقق عبر خصيصتين ـ التكافؤ والتسلسل وخاصية التنمذج ، المميزة لكل أداء مقامي ، ذلك ان العمل المقامي على مستوى الأداء نموذج! ولكن نموذجا لأي شيء ؟ انه نموذج للاسماع في عصر ما، نموذج للفنان في عمومه، وهذا بدوره يتوقف على طبيعة الثقافة التي يندرج فيها غناء المقام ، وفي داخل سياق هذه الحقيقة لابد ان يتواكب عنصرا التماثل والتنوع معاً، الامر الذي وجدنا في أداء حسين الاعظمي ما يبشر بالجنوح نحو دائرة التعبير الى التلقائية، الى جانب النزوع الى دائرة المضمون الفني الى اللاتلقائية ، ومن ثم فإن ـ ميكانيزم ـ التعبير في هذه الخاصيات ليس ذا اهمية او قيمة بذاته ، بل يدين بذلك الى ملتقى الفن الادائي الذي لايسترعى انتباهة هذا الميكانيزم ، الا حين يخطئ المؤدي في العمل، وحسين الاعظمي في ادائه التجديدي للمقام يؤجج الصراع فيه بين التلقائي واللاتلقائي ، ذاك الصراع الذي يمتد على رقعة جميع عناصر البنية الادائية وواقع أداء المقام عند حسين الاعظمي يتحقق على الدوام من خلال مقياسين متلازمين ، الاول ـ السعي الى الالتزام لتطبيق النظام لعدد من القواعد ، الثاني ـ السعي الى تجاوز هذه القواعد نسبياً مع مراعاة ان جسم المقام لايمكن ان يتفجر في الحناجر المؤدية معزولاً عن هذين المقياسين ومستقلاً بنفسه، فبالعلاقة بين هذين التصورين وبالتوتر البنائي وبالمزج بين ما ليس ممتزجاً، يتم إبداع النتاج الفني للمقام العراقي ، وهذا في حد ذاته الخط الذي سلكه حسين الاعظمي.
ان أي نظام وزني في الغناء يقصد به الى خلق التوازن في الوحدة الغنائية، ويفضي الى اعتبار ما هو متوقع من نبرات وزنية وكأي غناء يعلو فيه المنهج الاعتباري لا يتجلى بكامل وضوحه عبر الغناء ولاحتى خلال الانشاد ، بل من خلال الاحساس الذي يجلو عن قوانين توزيع النبر، وهو ما يسمى بالتقطيع الغنائي الذي يكثر في المقام العراقي ، وهذا التقطيع المقصود به اللجوء الى تكثيف الزخرفة في الغناء ، هو ليس عملية حكمية صرف، على اعتبار ان دوره يكمن فقط في الكشف عما هو مستكن في الغناء من قوانين البناء الفني (الجنس المقامي، نمط البنية الايقاعية والاسلوب).
إن التناقض بين ماهو غناء وما ليس بغناء ، يتجلى في شكل آخر ، فالغناء يمثل لا كشيء احادي التكوين، وإنما كطاقم نموذجي من الاوزان الموسيقية المتاحة التي تشترك في الانتماء الى المقام العراقي، وتتفاضل بينها بعلاقاتها الاسلوبية والنوعية.