المقاله تحت باب مقالات فنيه في
10/12/2008 06:00 AM GMT
وقفة الابداع
منذ بدايات القرن اعشرين وإلى يومنا هذا سجل الفن التشكيلي في العراق حضوراً ابداعيا ومعرفياً واتسم بعطاءات متفردة ليس لجهة ولادة وبروز التيارات والمدارس والاجتهادات – بغداد للفن الحديث ، البعد الواحد ، واقعية الكم- وانما في سياق تواصل وولع الفنان في بحثه وتجريبه وفي اصراره على خلق بصمات خاصة تميّز تجربة فنية عن الأخرى وفنانا عن الثاني الذي سبقه أو جاء من بعده وهذا التميّز كان على المستويين الجمالي والفكري.
ورغم ظروف الاستبداد والتدجين والحروب ارتقى الفن التشكيلي داخل العراق ، انه كذلك اعتلى بوابات الابداع في الشتات مطوّراً أدواته الفنية ومجددا هواجسه ومقدماً منجزات فنية لم تفقد هوية أرضها الأولى وان بعدت عنها جغرافيا وتأثرت بمحيط أرضها الثانية وبيئتها الاجتماعية ومنظومتها المعرفية.
ومن المعروف أن تلك المنجزات التشكيلية قد أثارت سجالات وتساؤلات في الاوساط الثقافية العراقية والاقليمية والعالمية وحصل الكثير من مبدعيها على فرص متميزة لعرض نتاجاتهم في المعارض والمتاحف والصالات المعروفة في العالم ودرست ومع تنظيراتهم وأفكارهم واجتهاداتهم لها في الجامعات الفنية الكبرى بالاضافة إلى أن بعضهم منح جوائز مهمة في عالم الفن التشكيلي وفازت أعمال البعض الأخر كنماذج لجوائز تمنح في المهرجات الثقافية والفنية ويمكن هنا أن نشير إلى النحات العراقي منقذ سعيد وعمله النحتي الذي فاز في مسابقة دولية اقيمت في هولندا في التسعينيات القرن الماضي وساهم فيها العديد من الفنانين الهولنديين والعالميين . منقذ سعيد واحد من أبرز المجتهدين العراقيين الشباب في المجال النحت وبعد حصوله على شهادة التخرج من كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 1983 ومن ثم حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة امستردام عام 1995 تواصل مع اقامة معارضه في العديد من البلدان وفي كل معرض يقدم مقترحاً نحتياً بصريا جديدا ومثيرا للجدل وهذا ما هو ملاحظ في الكثير من منجزاته النحتية خاصة في في منحوتاته الزجاجية التي تناولت موضوعة الماء حيث ساهم بها مع تسعة من أشهر فنانات الغرافيك في فرنسا المنتميات لمدرسة "انفيرا أندو" واللواتي طرحت أيضا في نحوتاتهن موضوعة الماء وحضوره في الفلسفة والحياة.
وقفة مع منجزه
تتأسس أعمال منقذ سعيد النحتية عبر دراسة فنية دقيقة للكتل وماهيتها ، لعلاقاتها مع بعضها ، مع أرضيتها ومحيطها من جهاته الست ، الأمام ، الخلف، اليمين، ألشمال ، التحت ، الفوق ، والتي تتشكل كمنظرات فراغية مدروسة بعمق وتنوّع يتيحان للمشاهد حرية اختيار المنظور الذي يتطلع من خلاله الى العمل النحتي وأيضاً يحرّض سعيد المتلقي على ابتكار فرص للتأويل والتساؤل وكل ذلك في محاولة منه لخلق حالات من التحاور بين المنجز والمتلقي .
في منحوتات منقذ سعيد يتكأ الفراغ على الكتل وتجذب الكتل وفراغها العين كما الموسيقى في صمتها تحاور الأذن وفي ايقاعاتها تناغي الصمت ، هي تجاذبات وتداخلات تتجلى خلالها عبر تواصل هاموني شفاف تنطلق عبره كتل سعيد النحتية وفي انطلاقتها تُشعر الرائي وكأنها تريد الانفلات أو الطيران أو الابتعاد من قاعدتها ، محيطها ، فراغها وحتى من عيون مشاهديها والذهاب إلى مكان أخر ، إلى فضاء مختلف . في معظم أعمال منقذ سعيد النحتية ثمة اشخاص يحاولون ارتقاء ن او يرتقون السلالم ، الفراغ ، الكراسي ، الأعمدة وبعضهم يتعلق أو يريد التعلق بجانبي أنصاف الأقواس واذا كانت ملامح هؤلاء الاشخاص غي مشخصة أو معتمة وبنائية أجسادهم هادئة أو مقبلة على فعل غامض الا أن حضورهم المعتم والهادئ والغامض يوحي بإضطراب أعماقهم وبعلاقتهم المربكة مع محيطهم وكأن منقذ سعيد أراد بهذه الصياغات ، البصريات النحتية أن يصوغ ويصوّر توتره الداخلي أو يخفف من ذلك التوتر ويقيم علاقة فيها شئ من التوازن مع محيطه الانساني. وقفة الضياع
حين سمعت خبر موته غنيت فجيعة العمر المضاع لم أتردد بتسفيه تساؤلات معادة وتعاد
متى وأين وكيف ولماذا مات منقذ سعيد لأن سؤال الموت العراقي كان وما يزال مختنقاً بحشرجة وونين الدم ولأن " كيف" أضيق وأحمق حضوراً في مشاهد توابيت العراق المعلنة والملعونة !
ولأن زمان موتنا بات كل الأزمنة
لأن مكان موتنا صار كل الأمكنة
دمعة لغيابه
في عمر قصير وقصير جدا في زمن ضيّق وضاقت به وفيه الطرقات في سفر مبعثر ومعتق بالخيّبات والأحلام تزاحم منجز الفنان منقذ سعيد عبر معارض اقيمت في العديد من البلدان الا في وطنه الذي غاب عنه في لحظة وداعه الابدي فهل يبخل العراق أن يسكب دمعة لرحيل ابن مبدع له وهو الذي تسفك دموعه ودماءه كل لحظة !؟
farouk1952@hotmail.com
|