المقاله تحت باب فنون عالمية في
05/12/2008 06:00 AM GMT
مدارس حديثة وأخرى قديمة في الفن التشكيلي، ثقافات شرقية لها تقاليدها وأخرى غربية لها تاريخها، صروح من التماثيل، ولمسات شفافة من فرشاة متأملة، كيانات لم نألفها من قبل، نتأملها بدقة ونستعيد لحظتها صورة الفنان المتخيلة وهو يسطر لمحة من التأمل في مجسم تشكيلي، إما أن يكون لوحة أو تمثالاً.. كلها اجتمعت في صالات قصر الإمارات في أبوظبي لتجسد ''آرت باريس ـ أبوظبي'' في دورته الثانية هذا الشهر، والذي نظمته هيئة أبوظبي للثقافة والتراث وشركة الاستثمار والتطوير السياحي تحت رعاية الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة.
58 صالة عرض عالمية شرقية وغربية من 22 بلداً جاءت بثقل ثقافي يمكن لنا من خلاله أن نرى العالم كيف يفكر، إنه مشهد فني عالمي، هو الأثر الفعال للفن حينما يسعى لتعزيز التفاهم بين الشعوب عبر أكثر من 3300 عمل إبداعي.
حصاد سيزان
لم تعد اللوحة ملكاً لعقل واحد، لم تعد مرتبطة بزمان ولا بمكان، إنها عابرة للقارات والجهات والزمان الذي يضمحل وهو في أوج تجسده في اللوحة ذاتها. فمن ينظر الى لوحة بول سيزان (1839 ـ 1906) المعنونة La moisson ''الحصاد'' والتي رسمت عام 1877 بأبعاد 55,7 في 45,7 سم من الزيت على الجمفاص يتأكد من الزمن المفقود، المتجسد، النائم خارج الإطار، حيث لمسة سيزان المؤثرة والأبعاد الدقيقة، الرجل صاحب المنجل، والآخر الجالس، المتأمل والمرأة الواقفة الحالمة، والولد النائم بإغفاءة الحقول، بينما هناك عند سفح الجبل ثمة بيت من القرميد الأحمر يكسر ألوان اللوحة بكل عنف.. إنه سيزان في تأملاته وانطباعاته الآسرة.
عباءة ضبابية
كذلك جون ميرو (1893 ـ 1983) في لوحته Pinture بأبعادها 73 في 92 سم من الزيت على الجمفاص والتي أنجزها في 1926 تتأمل اللمسات العميقة للطائرات الورقية. رؤوس وأذناب هائمة وأبعاد لا حدود لها بالرغم من مساحة اللوحة الحادة، المحسوبة، إلا أن شعورك بالامتداد اللانهائي يقودنا الى افتراض لا محدوديتها، الألوان الستة، الأبيض في الرأس والأحمر في البقعة الصادمة، والأصفر القاتل، والأسود الشارد والأخضر البعيد. ولون السماء من الازرق الشفيف الى الاصفر الصحراوي، ستة ألوان ولا أثر لمحدودية العالم في هذه اللوحة الخرافية. تلك هي براعة ميرو.
أما لالا أسيادي المراكشية المولد 1956 والتي تعيش في أميركا ففي لوحتها Converging Territories التي رسمتها في 2003 بأبعادها 122 في 152 سم ترى ما لا يمكن رؤيته. امرأتان في العباءة المراكشية، ملتفتان في عالم ضبابي حتى فضاء اللوحة هو جزء من عالمهما المغيب، التواءات، وانحناءات العباءات، الظلال الباهتة والقاتمة، سقوط الضوء الساطع وانحساره، هما في اتجاه معكوس حيث نرى ظهريهما فقط، وأقدامهما فحسب، إلا أننا ـ بصدق ـ يمكن لنا أن نحسب عمريهما، نتأمل جمالهما، ذلك هو الفن حينما لا يريد أن يعطيك شيئا من المعنى سوى اللمحة الشاردة، بينما يمكنك أن تحصل على معانٍ كثيرة من ذاك الغموض نفسه.
ربما يتذكر أحدنا، أو قرأ كتاباً بعنوان ''سبعة أنماط من الغموض'' لوليم امبسون، الكتاب الذي يبحر في عالم الغموض الشعري بأنماطه السبعة في الشعر إلا نك حين تتأمل تلك الأنماط لا تجد فيها سوى الوضوح، وضوح التصور والرؤيا.
صدمة تايسون
في آرت باريس ـ أبوظبي، وعند لوحة هيبوليت آرنو (1910 ـ 1960) والتي أطلق عليها ''المرأة والمرآة'' والتي أنجزت بأبعاد 26,3 في 20,8 سم يبدو الغموض في الواقع والوضوح في التخيل، امرأة من عصر ما تنظر الى مرآة.. وشاحها الأبيض يغطي وجهها إلا من عينيها (الواقع) حيث لا شيء يفصح عن سر جمالها المختفي، ولنفترض جدلاً أن لا جمال هناك خلف البياض. في المقابل وعند المرآة ترى ذات الصورة بكل وضوحها، الوشاح على الوجه ''المتخيل'' إلا أن الوضوح بدا طاغياً في هذا المتخيل اللامرئي. تتساءل هل تجسدت كل أبعاد اللوحة في هذه الالتفاتة أم أن هناك عناصر أخرى تبدو خارقة في اللوحة؟ ولو تأملنا جيداً مجمل أبعاد هذه اللوحة الصادمة لقلنا حقاً إن الوجه (الواقع) لا يحيل إلى الجمال بينما الوجه في ''المتخيل ـ المرآة'' هو الحقيقة، ولهذا يبدو فضاء اللوحة بمجمله مكملاً لهذه الفكرة.
ماذا أراد ألبرت واتسن أن يقول في لوحته Mike Tyson عام 1986 في 90 في 120 سم وهي تصور رقبة ورأس وكتفي بطل الملاكمة الأميركي مايك تايسون؟.. لوحة صادمة، التقط فيها واتسن بطل الملاكمة من الخلف، إلا أن ما يدهش فيها هو هذا التجسيد الدقيق لعرق الجسد المتساقط من الرقبة. اللون الأسود فقط وبكل تدرجاته هو الذي يتحدث، أسود قاتم في شعر الرأس وعند الرقبة يميل الى الانكشاف ثم يتحول الى السطح كأنه البرونز الأسود.. مع لمسات من قطرات كالمطر على الأسفلت.. أي براعة هذه تعيش بين الغموض حيث لا شيء نراه وكل شيء تراه واضحا في مخيلتك.. تقترب لالا أسيادي المغربية في لوحتها من لوحة ألبرت واتسن.. في بؤرة التناول، في زاوية النظر، في ''التبئير''، وكأن الفكرة واحدة.
من الشرق ومن سوريا تحديداً يضارع فادي يازجي (1966) في تمثاله ''كنج جي'' 90 في 80 في 60 سم من البرونز الأسود براعة نحاتي الغرب، في تمثاله هذا روعة في الأداء في الوجه الذي تختفي فيه الضحكة والوجوم والضآلة والامتداد، القوة والضعف، الشيخوخة والشباب. التأمل والخيبة، تنعدم في الملامح وتستفيق.. إنه تمثال يجمع كل التناقضات حيث التوزع بين اليقظة والحلم، بين الغموض والوضوح. يد تختفي وأخرى مشدودة الأصابع بقوة. عينان ساهمتان وفم مغلق، ضحك كالبكاء، هل يصدق كل هذا في عمل نحتي واحد؟
كذلك حسن مير من عُمان والذي ولد في مسقط 1972 في لوحته To my Blue Sister ''إلى أختي الزرقاء'' التي رسمها في عام 2000 بامتداد 160 في 120 سم من الزيت على الجمفاص.. إنها عالم من الأصفر الفاقع.. لوحة صادمة بلونها، بموضوعاتها الغامضة في الوقت الذي لم يبق هناك مجال للمعنى سوى غطاء وجه الأخت الأزرق وكأن حسن مير أراد أن يعبر عن كثير من المعاني.. مجتمع وقيم، ثقافة وبنية سوسيولوجية.. الرجل الجالس بقسوة، لا شيء يشير إليه سوى شاربه ويده اليسرى التي تحمل خنجراً معقوفاً.
الاحتراق بالحب
في لوحة مارس شاكال Le Village Jaune بأبعادها 73,5 في 50,2 سم من الزيت على الجمفاص ثمة عالم من الواقع أدخل شاكال انطباعاته الآسرة فيه. قرية من بيوت بعيدة في أعلى اللوحة بل عمقها وديك وطير وامرأة ورجل ويدان ممتدتان من أسفل اللوحة اليسرى تقدمان باقة من الزهور.. لماذا؟.. إحمرار كامل لثلاثة أرباع اللوحة، حيث الشمس حمراء والديك أحمر في الوقت الذي حفل الربع الرابع من اللوحة باخضرار الحب وبتوهج العاطفة. الجزء العلوي بدا مشوهاً والسفلي بدا واقعياً، هل أراد شاكال أن يتحدث عن الرغبة، هل أراد أن يعزو توهج واحمرار اللوحة بمجملها بفعل الرغبة الإنسانية الطامحة عند الرجل والمرأة. هل احترقت لوحته بالحب؟
في تمثال جون تشابرلن المعنون Rhinestone Ankleboner الذي أنتجه في 2007 بأبعاد 23 في 24 في 23 سم حيث ترى اختلاط العالم وتتخيل كتلة الحديد الملون المتداخل المطعوج.. هل يمكن أن نتصور الموت في الألوان عندما تتداخل مع بعضها، وتصدأ.. انه احتجاج وتصوير لعالم من الموت المنتظر، العدمي. استمد جون العناصر من موجودات ممزقة فأشار بها الى ذواتنا التي كانت في عذريتها جميلة ولكنها في نهاية الأمر تبدو هكذا كما أراد أن يقول الفنان.
ومن الهند حيث ثقافات الشرق، تبدو لوحة بلا عنوان Untitled التي رسمها مقبول حسين من مواليد بومبي 1915 والتي أنجزها في 1979 في أبعاد 35 في 60 سم من الاكرليك على الجمفاص، تبدو لافتة للنظر، حصان ليس كمثل الخيول، يصرخ في أعلى حالات الهرب والفزع.. بياض تحده زوايا قاطعة، وفم مفتوح وعينان خائفتان، مرعوبتان.. هل أراد حسين أن يشير به الى ذواتنا، خوفنا الأبدي من الحياة.. استخدم مقبول حسين الحروفية العربية بالخط الكوفي مطابقة بزواياه الحادة مع ذات الزوايا في الرسمة ''لا إله إلا الله''.. وكانت الرسمة والحروفية تحملان ذات المعنى.. ربما هي قراءة أخرى.
صراخ ضد المجهول
تمثال ''المهرج'' لجيم دن الذي ولد في ،1935 و''الحصان والفارس'' لمارينو مارينا الإيطالي (1901 ـ 1980) والتي أنجزها في 1951 عملان مرعبان في الصراخ ضد المجهول.. وكأننا نسأل لماذا يخاف الفنان من المجهول الأبدي؟
في عمل ألبرتو جياكوميتي الذي عنونه بـ Tete Noire بأبعاد 41 في 33 سم ترى السواد ولا شيء غيره، وجهاً شبحياً. تعبيرا عن روح العصر الذي تغرب فيه الإنسان. لوحة سوداوية وكأنه أراد أن يصور اللاوعي في الذات حيث نعيش أحلاماً كابوسية حقاً.
وفي حدائق قصر الإمارات نصبت التماثيل والمنحوتات المرمزة لأنريكو كاربوجال في منحوتته Simplicial رمزاً لالتفاف الأشياء وتعقيدها بأبعاد 400 في 400 سم وكأنه لعب على الشكل والمعنى.
أما ايكور ماتوراج 1944 فقدم منحوتة الجسد المقطوع الذراعين المكبل بالحبال في عمله الذي حمل عنوان Corazzo والذي أنجزه في 1980 بأبعاد 273 في 230 في 100 سم من البرونز الأسود حيث المعنى الواضح الدلالة بلا غموض.
وفي ''حركة وتواصل.. رحلة عبر الصحراء والبحر''، هذا المشروع الجديد في معرض مصاحب لآرت باريس ـ أبوظبي هذا العام حاول أن يعبر عن رحلة استكشاف فني للبقعة الصحراوية عبر قارات تعانق حدودها مساحة الحضارة العربية. إنها الصحراء ''مدرسة الصمت''، أو كما تقول آمال طرابلسي مسؤولة ومنظمة المعرض ''من يرى الصحراء بعين الخطاط يلاحظ أن مرور الريح على صفحتها يرسم خطوطا تجمع بين التمايل المغناج والسكون'' كذلك البحر تقول فيه ''لقد ألهمنا البحر دائماً حالات شعورية متعددة من الهدوء الى الهلع، البحر مرآة اللطف أو الهيجان''. تلك هي آماد الرحلة التي حاول هذا المعرض تجسيدها في لوحات آسرة.
|