المقاله تحت باب محور النقد في
17/11/2008 06:00 AM GMT
في غمرة وضعنا الإنساني المزري, وبشاعة الأحداث التي مازالت تتوالى على العراق, يصر نخبة من فنانينا المبدعين على نهج طريق معاكس, والتصدي للبشاعة باستخراج الجمال من لب المأساة, من أجل انتشال الروح, والحفاظ على توهجها. وهل ثمة خطاب أنبل?! ذلك ما سعى ويسعى إليه سعد شاكر الذي لم يتنازل قط عن صياغاته الجميلة لأفكاره ومشاعره, النابعة من صلته الحميمة بالأرض وتأملاته في المحيط والطبيعة. خزّاف ماهر ذو حس مرهف, وفنان ذو رؤية تنبثق من ثنيات تكويناته المجردة, المستوحاة من أشكال طبيعية أو هندسية, استطاع بقدراته ووعيه ومثابرته أن يجسّر الهوة بين الجمال المحض للخزف ومضمونه التعبيري.
كانت صلة سعد بالطين حميمة منذ بداياته الأولى, وبوسع المتحدث إليه أن يلمس ذلك العشق, الذي يتسرب من ثنيات حديثه حول ارتباطه بهذه المادة وقدرتها على استفزاز خياله في ملمسها وطواعيتها. يقول سعد, في تصريح لفصلية الفخار, في مقابلة أجرتها معه مجلة (Pottery Quartery) حين كان طالبا يتخصص بهذا الفن في إنجلترا: (إنني سعيد باستخدام الفخار, فالطين من أكثر المواد الفنية إثارة للخيال, كما أراه في تجربتي. وبطبيعة الحال فالفن الفخاري هو عملي الوظيفي, وهو حياتي التي أتمنى أن أحقق فيها عيشًا بسيطًا ومريحًا), فالطين عند سعد مادة حياة يصوغ منها فكره, ويضمنها رؤيته في الوقت الذي يمارس فيه أقصى درجات التحدي للسيطرة عليها وإخضاعها لكمال الحرفة.
تخرج في معهد الفنون الجميلة في بغداد (1959/1960) قبل أن يكمل دراسته الفنية في إنجلترا. ولم يكن فن الخزف في معهد الفنون في بغداد آنذاك فرعًا متخصصا بل كان مادة تدرّس ضمن منهاج فرع الرسم. فنشأته الفنية كانت تحت إشراف رواد الحركة التشكيلية العراقية وأساطينها: فائق حسن وجواد سليم وخالد الرحال, غير أن هوى سعد الذي وجد ضالته في مادة الطين وصناعة الخزف جعله لا يكتفي بالحصص الصباحية, بل يستزيد منها في الحصص المقررة للدورات المسائية. وكان فالنتينوس كارالمبوس, القبرصي المولد, قد استُقدم (في 1957) لتدريس فن الفخار خلفا للإنجليزي إيان أولد, الذي لم يستمر عمله في المعهد أكثر من عام واحد. وبالإمكان القول إن فالنتينوس هو أبو الخزف العراقي, وهو خزّاف بارع واسع الاطلاع على تجارب الغرب والشرق, نمّى في طلبته حب البحث والابتكار, إلى جانب إتقان الصنعة, وله فضل إرساء الأسس والمعايير الفنية المنهجية لهذا الفن في العراق. إذن, في تلك البيئة الفنية الصحية تفتحت مدركات سعد شاكر, واكتسب مهاراته الأولى.
لدى عودته من إنجلترا (في 1966), بعد أن أمضى فيها ست سنوات من الدراسة والتدريس, كانت بغداد تعيش حالة من الانتعاش الثقافي والفني, والوعي المتعدد الأبعاد خاصة في الحركة التشكيلية التي كانت قد آلت إلى حالة من الركود, إثر وفاة جواد سليم في مطلع الستينيات. لكنها سرعان ما تأججت واستعادت نشاطها بفضل ما توافر عليه الفنانون الشباب آنذاك من مواهب حقيقية, ووعي شمل الماضي والحاضر, فضلا عن التنوع في مصادر تجاربهم ومعارفهم وتقنياتهم, التي جمعت بين الشرق والغرب. كما توافرت للفنانين بيئة ثقافية خصبة ومتنوعة, ضمت نخبة من المعماريين الذين أسهموا إسهاما فاعلا في دفع الحركة التشكيلية قدما, إلى جانب مثقفين عراقيين من أطباء ومحامين وكتاب, أوجدوا بمجموعهم مناخًا ثقافيًا عاما, ساعد على ترويج أعمال الفنانين, كما ساعد على بلورة التجارب والرؤى والأفكار.
وكان أن تأسست أكاديمية الفنون الجميلة(1961), وخصص فيها بعد بضع سنوات فرع مستقل لفن الفخار والخزف, تولى العمل فيه فالنتينوس, والتحق به فيما بعد سعد شاكر, ليعمل الاثنان معا على ترويج هذا الفن وتأسيس نخب من الخزافين المبدعين من أجيال لاحقة. زد على ذلك تولي النحات الفذ إسماعيل فتاح الترك تدريس مادة النحت الفخاري, وتحفيز الطلبة على ارتياد آفاق الخيال الرحبة, مما وضعهم داخل بيئة فنية حديثة متكاملة.
شكل أخاذ ومضمون غني
من المعلوم أن فن الخزف له طبيعته الخاصة, وقد ارتبط على مدى العصور بطابعه التزييني النفعي. ونتيجة لذلك ظل موضع جدل حول هل هو محض فن وظيفي, أم فن ينطوي أيضا على خطاب تعبيري?! وجدل كهذا لم يكن غير انعكاس للمعايير السائدة في الغرب ومعاهده, والتي اكتسبها الفنانون من ضمن ما اكتسبوا من قيم نقدية ومعيارية فنية. وهي مفاهيم أخذت تتغير تدريجيا تحت تأثير الحداثة التي غيّرت من طبيعة النظر إلى الحياة عامة والفنون خاصة. ومع نهاية السبعينيات تركزت مفاهيم جديدة للتعامل مع العمل الفني بغض النظر عن المادة التي يستخدمها الفنانة أو الفنان. وكان سعد شاكر أول من حسم هذا الجدل في العراق, وقدم أعمالا خزفية تجمع بين شكل أخاذ في جماله, غني في مضمونه التعبيري, وبذلك أبدع أمثلة رائدة في تحقيق التوازن. فأعماله النحتية التجريدية, خاصة الشكل الكروي ومدلولاته, تتوافر على صنعة فنية موروثة بقدر ما تدعو للتأمل في مفهوم الشكل والكتلة والفراغ داخل الفضاء.
الوعي بالماضي وإدراك قيمة الأعمال الفنية المتوارثة من حضارات العراق بعصوره القديمة والإسلامية,كانت من القضايا التي انشغل بها فنانو جيل الستينيات في معرض بحثهم عن التميز والهوية, وإيجاد مكانة للفنان العراقي, بوصفه امتدادا لإبداع متوارث ذي شأن. فمنذ بدء الحياة في بلاد الرافدين كان الطين مادة أساسية في حياة الإنسان, فقد صنع منها أشكالا تعبر عن وجوده, ومنها استدل المؤرخون إلى تصوراته لآلهته ورموزه المبتكرة, ومنجزاته الحضارية. ومن الطين صنع ألواحا توثق إنجازاته العلمية, وقوانين حياته, كما توثق تاريخ معاركه وانتصاراته. ومن الطين أيضا صنع أدواته ليستخدمها في حياته اليومية, فكان حتى في صناعته الصحون والجرار والأكواب لا يتنازل عن الجانب التزييني, الذي لم يخل في كثير من الأحيان من قيمة تعبيرية. وحين استقر ملك الإسلام على هذه الأرض كان الخزف من أهم ما أنتجه المسلمون من فنون, وكان الخزف العباسي ذو البريق المعدني, الذي وجد في سامراء, قد ذاع صيته, حتى قيل إنه (يفوق في الجمال والبريق كل ما عرفه العالم الإسلامي من هذا الخزف بعده). ولم يكن الفنان المسلم حرفيا فقط, بل كان فنه تعبيرا عن رؤية ذاتية للوجود, يسعى من خلالها إلى تحقيق كمال الفكرة بكمال الشكل. يومها كان الصانع هو المبدع والمبدع هو الصانع.
استطاع سعد شاكر أن يستفيد من الموروث, بقدر ما يستفيد من الحداثة والتكنولوجيا المتقدمة, لتحقيق شخصية مميزة لفن الخزف المعاصر في العراق. ذلك ما نلمسه في عمله, سواء في الصحون الراقية التي قدمها, أو الأشكال التجريدية التي ابتكرها. فهو الخزاف الذي لم يتنازل عن شروط الجمال المتبعة في تقاليد هذا الفن شرقا وغربا, وهو مبدع لأعمال تجريدية ذات تشكيل حر أحيانا أو شبه هندسي في كثير من الأحيان.
خارج حدود التقليد
اهتم سعد باللون اهتمامه بالكتلة, فهما قيمتان أساسيتان متكاملتان في أعماله. وسخّر معرفته بفني الرسم والنحت للارتقاء بفن الخزف إلى خارج حدود التقليد, حين أضفى عليه مسحة تعبيرية لها طابع حداثي. لقد استطاع أن يجعل من أشكاله الخزفية وسيطا بين فني الرسم والنحت, وبرع بتقديم نماذج مثيرة للدهشة بكمال صنعتها, وقدرتها على بث مضامين تعبيرية نابعة من رؤية ذاتية. وتتجلى روح الرسم لديه في براعة استخدام اللون والضربات الحرة بالفرشاة, لتزيين أوانيه الخزفية ذات الجمال الأخاذ. فمن يتأمل أوانيه الخزفية التي أبدعها, خاصة في المراحل المتأخرة من تجربته, يلاحظ أن الإناء المنفذ بالطرق التقليدية, أي باستخدام العجلة, يتحول إلى سطح يستغله الفنان بالرسم عليه بضربات لونية متداخلة بإتقان, حرة ومختزلة, قادرة على أن تثير فينا الإحساس العالي بالجمال, بقدر ما تؤثر فينا. فالذهبي - كما استخدمه سعد شاكر في بعض أوانيه - يشير إلى صلة خفية بين صنعة موروثة كان يتبعها الخزّافون المسلمون, وحداثة ذات طابع شرقي.
أما أشكاله النحتية المجردة فهي تسعى للإمساك بالزمن, من خلال فراغ داخلي يمتد بين أعمدة مصقولة تتقارب أحيانا إلى حد الالتحام, ولكنها تظل منفصلة. وأعماله النحتية هذه يمكن أن تعد نموذجا للتزاوج بين النحت والخزف. ففي الوقت الذي يقدم فيه الفنان شكلا منحوتا, فإن عمله هذا لا يتبرأ من انتمائه لفن الخزف, بما يتجلى في مظهره من إتقان ومهارة في الصقل والتزجيج. وأعماله هذه قادرة على الإدهاش كما هي قادرة على تحريك المشاعر. فرشاقة بنائها, وانسياب خطوطها, وشعرية ألوانها تجعلها تقف بجدارة في طليعة الأعمال الإبداعية للفنون الجميلة. ولعل ذلك ما يؤكده سعد, في معرض ما كتبه عن رؤيته الفنية, حين يقول إنه جاهد مخلصا للعمل على أن: (يكتسب النحت الفخاري, كأي عمل تشكيلي آخر, قيمة فنية تعبيرية ذاتية تستمد وجودها من العوالم الداخلية للفنان).
وبإمكان المتتبع لتجربة سعد شاكر, عائدا بها إلى مرحلته الدراسية في إنجلترا, أن يلمس خط التواصل والعمل المثابر على سير تجربته ضمن مسارين متصلين ومنفصلين معا, فهو دائب على تطوير الأشكال التقليدية, ومنفذ لأفكار تثيرها تأملاته بالمحيط, فتعيش في عقله ووجدانه, حتى تتجلى في أشكال تبدو لأول وهلة أنها مكررة, ولكنها في حقيقة الأمر تنحو منحى البحث الجاد لامتلاك فكرة تلازم الفنان فيلازمها حتى النفاد
|