المقاله تحت باب محور النقد في
15/10/2008 06:00 AM GMT
"الشوق قصبة مملكة المحبين، فيها عرش عذاب الفراق المنصوب، وسيف هول الهجران مسلول، وغصن نرجس الوحدة على كف الأمل موضوع، في كل آن يطيح السيف بألف من الرقاب، قالوا: إن سبعة آلاف من السنين قد مضت، ولكن النرجس لا يزال غضا طريا لن يصل إليه كف أي أمل بعد"(البسطامي) لا يمكن تناول تجربة التشكيلي (مصطفى آل ياسين1) بذاتها، كما هي خارج سياقات تشكل شخصيته المستمرة، كونهما لا يتجزءا. من هذا المنطلق فهي تشكل نموذجا فريدا(وليس غريبا كما هو حال العديد من التجارب التشكيلية الغربية في حقبة الستينات وما جاورها(2))وان شكل الشعر، وهو هاجزه المضني جزأ من هذه التجربة. فان سلوكية الآخر(المتفاني) شكل شطرها الثاني. وما بين مدارج الشعر وشطحات النفس تكمن أهمية تناول هذه التجربة، ليس بالمنظور النقدي التقليدي، بل، بما تعززه سلوكية وسيرة أعماله المتماهية وسلوكيته الذاتية. هو المتوحد، المستوحش، المريب. تسكنه دوما لوعة البوح حد استنطاق جسده قبل ملامحه. وليس سوى الغربة سكنه. ومع استطالة أزمنته المريبة فان رؤاه تبعثرت للحد الذي يعجزه ملاحقتها أحيانا. لذا تبدو أعماله التشكيلية المنفذة خلال أوقات صحوته شذرات متفرقة تتماها وتجريد نياته المستعصية على البوح، ولم يكن أمامه إلا أن يخلق عوالمه التي غالبا ما تفقد صلتها بصلابة مكونات محيطه الخارجي، ومع ذلك فهو يسعى لمحاولة استنطاق تمظهراتها. وان حاول أحيانا أن يستعير أو يقحم النص ألتدويني(ألحروفي) كخلق مواز من شظايا العوالم التجريدية الشرقية وموشور ملونتها. فليس سوى فعل(النحت) ما يرجعه لصلابة العالم الخارجي. ليس من خلال هشاشة أرواحه الهائمة، بل لتثبيت صلابة مفهومه عن العدل الأزلي كأنصاب تتجاور أو تتحاور وأشكال مؤلهة بجذر قداستها(3). هل وجد مصطفى آل ياسين نفسه متورطا في شبكة مرئيات مراوغة، غالبا ما تفر من بين يديه لتيه أحلام باطنية، إن لم تكن ذاتية، فهي جمعية ملتبسة بإحالات مفهوميه لا تنتمي لصلابة الحاضر بقدر كونها استرجاعات لأضاءات ماضوية عائمة في زمن أزلي. وان فقد بعض من فضاءات حاضره الحميمة، فان الفعل الفني(ومنه نصه الشعري) عوض خساراته لحد حدود تماسك مكونات ذاتيته لمدار حدودي غالبا ما تتحكم فيه ترددات بوصلة كثيرا ما تفقد توازنها، لكن وعلى ما يبدو فان حدوده الكفافية هذه كافية لإدامة جذوة إبداعه في أزمنة استحضارها. وهي أزمنة تكرسه حيا وسط محيط أكثر هشاشة. إن يكن من صنعه، فقد صنعته الأقدار بمقادير معينة، وباتت منة أن تنير ذهنه اضاءات محسوبة بقدر لتبقيه شاخصا ما بين عدمه وحيويته، بين سلبه وايجابيته، جنته وناره. إن يكن الفنان حرا في اختيار مناطق إبداعه ومرجعياتها البيئية والوجدانية والذهنية. أي بين الظاهر والباطن. بين السهل والسهل الممتنع و بين التعقيد بتراكيب تفاصيله المتعددة. فان السر في اختياراته من كل ذلك ربما يكمن في ذاته الميالة لحساسيات معينة وربما لجيناته الوراثية دور في ذلك. أو لطغيان صور محيطه، أو لمدارك ثقافية، أو لتغريب أو ألفة، أو لغريزة فائضة. وليس عبثا تنوع فضاءات التشكيل لحد التباس المناطق والمفاهيم. وبما أن الفنان تتشكل شخصيته من خلال نتاجه(سكونيته وديناميكيته). فالانبساط أو الشد والتعقيد لحد العصاب أحيانا ما يتحكم بهذا النتاج. وان كان التفسير العصابي النفسي يشكل انتهاكا لمحاولة ولوج أو إضاءة مدلولات العمل الفني، ويستبعد كإجراء نقدي في وقتنا الحاضر. فإننا غالبا ما نقع في حيرة من ظاهرة تفاني شخصية الفنان ونتاجه، حياته وإبداعه. لكن ومن منظور(صوفي) فليس في الأمر من غرابة. وهذا يعني في حالة فناننا مصطفى وإذا جاز لنا اعتبار سلوكه وإبداعه نوعا من التماهي الصوفي(خارج فضاء الممارسات الطقسية)، وبقدر مقارب لجوهر التفاني الذي يبقيه على مسافة محيطه ألزمكاني. وكما هو تقاطعه مع محترفي التشكيل( تكريس الوقت والانصراف لإنتاج التشكيلي وفي مختلف الأوقات). وما أعماله المبعثرة هنا وهناك إلا نوعا من ومضات دفق أزمنة تفانيه. وان تكن(المندلة) في أزمنة انتقالاتها عبر الديانات الشرقية والأوسطية تكتظ بتفاصيل متناقضاتها، الخير والشر، النور والظلام، المذكر و المؤنث، والرموز القدسية ونقائضها) فقد أقحم قرص مندلته الدائري برمز الشر(السيف) وحطمه في احد أعماله النحتية، مثلما اكتظت ملوناته بتناثر مناطق ظلمتها وضوءها، أو انطماسها، أو تبعثرها. قبل اربع سنوات وعلى هامش مهرجان الشعر العالمي في مدينة مالمو السويدية وفي قاعة فنها قدم فنان رومانيا عملا أدائيا(4). ولم يكن أداءه إلا ترديدا لأبجديته اللغوية المحلية القديمة مصحوبة بصور لحروفها الخطية على شاشة العرض. وان كانت الصور الحروفية موصولة بهاجس الشعر(مقروءا ومدونا)، فان مصطفى آل ياسين وغالبا ما ينفلت بأدائه عن طقوس افتتاح المعارض التشكيلية التي يساهم في عروضها إلى طقوسه الخاصة( كلماته، تداعياته، قصائده) في إلقاء يمتزج بالأداء الجسدي، رغم سكونيته الظاهرة. وان كانت الأبجدية الرومانية غير مفهومة لعموم المشاهدين الكوزمزبوليتيين. فان كلمات قصائد آل ياسين هي الأخرى غير مفهومة لجمهور الفنانين والمشاهدين غير العرب. لكن ما يبقى مفهوما(كادراك شعوري) هو إيقاعه الذاتي الخاص اللغوي والجسدي وهو ما يشكل سحره التشكيلي المرادف لسحر أعماله التشكيلية و تلاقحهما الباطني. ان كانت ملونات مصطفى لا تغادر منطقتها بشكل مطلق، بل تبقى مكتفية بمناوراتها الدائرية(الدوران في فلك نسيج فظاءاتها الخاصة). فان مقدرته التجريبية المفاهيمية تتجلى بشكل أوضح في محاولاته النحتية والتجميعية العديدة. وان كانت الملونات(الرسوم) لا تكشف عن مقاصدها الأخرى مثلما تكشف عن جمالياتها( وهذا الأمر يبدو بينا في مجمل الأعمال التجريدية وعلى اختلاف أنماطها). فان صلابة وهشاشة وملمس المواد النحتية وجاهزية التجميع تقودنا، إن لم يكن مباشرة إلى مقاصدها التعبيرية الأدائية فإنها تضعنا غالبا في وسط الحدث او الحادثة الإيحائية او الفعلية القصدية المفاهيمية. وهكذا هو الأمر في مجمل أعماله النحتية ورسوماته بهيئاتها التقليدية أو الحائطية، وان شكل بعض حائطياته خرقا لذلك. غالبا ما تقصى نيات التشكيلي لعنونة أعماله المنجزة. وان كان لا بد من إنارة ما، فانه يكتفي بتبني مفهوم أو مصطلح أو ثيمة أو عنوان ايحائي، لتقود إلى سلوكية مضامين مشروع عرضه. وإذ أحاول كشف بعض حجب عمل مصطفى النحتي التجميعي المتمثل في بساط شطرنجي مكون من الفحم الحجري(المربعات السوداء) والملح البحري(المربعات البيضاء)، ولحاء الشجر المنعم(مربعات مقاربة تكسر حدة الإيقاع، وسيطا جدليا). وبحد محيطي لنثار اللحاء كبساط حاضن لتناغم ديناميكية تضادات الباطن والظاهر الشطرنجية. وان كان النص يؤرق مصطفى دائما. فقد وزع نصوصه، أو ألغازها مثلث كتب ثلاث بقدر ما شكلت خرقا لملمح محيط الهيولى الحدودي المفترض. شكلت عنصر تناغم ومحيط رقعة التضاد الشطرنجية. وان كانت هذه الكتب تنتمي لأزمنتها ولشخوص مؤلفيها، فإنها تشكلت في هذا العمل ضمن خرق صفحاتها بعلامات الفنان المضافة وببوصلة ضيعت اتجاهاتها ضمن حواضن بيئية(المواد البيئية المشكل منها العمل). فهل ضيع الفنان بوصلة روحه ضمن هذه المدارج، أم انه اخترقها بروح تائهة تبحث عن خلاصها، خلاصنا. وبعيدا عن ذلك، فهذا العمل شكل صلة وصل مابين النص(كفكر مدون، باطني وخاضع للاستهلاك في نفس الوقت) والحاضن البيئي كأزل مادي(ظاهري). وان يكن الخراب مس النص فان بوصلة الطبيعة تتعرض هي الأخرى للخراب(الفحم تنقيبا وتلويثا ولحاء الشجر نضارة وديمومة متجددة). فهل تدلنا هذه اللعبة الافتراضية على سبل سلامتنا!. أخيرا، هل يسعى مصطفى لحهده الفني تطهيرا. أم يسعى جهده إليه ترميما. ما أحسه هو تنافذ لا يجهد فراقا، بل إلحاقا واختراقا. - فنان تشكيلي سوري فنلندي. 2- المفاهيميين. الهابنز وغيرها. 3- نصبه النحتي الذي اشتغل على مفهوم العدل والرحمة. 4- Perfomance
|