المقاله تحت باب سينما و مسرح في
10/07/2008 06:00 AM GMT
إقترنت السجون بالعقاب المفروض من قبل السلطة على المواطن، ولما كانت السلطة في عالمنا العربي مشكوك باحقيتها في الحكم، كيف يتسنى لمؤسساتها التي يشوبها شيء من الريبة اصدار الاحكام وتنفيذ القصاص؟ يشعر المُشاهد لفيلم «يوم في سجن الكاظمية للنساء» للمخرج عدي صلاح أنه واقع في صميم التهديد؛ غياب الثقة عن شرعية حكم، هو نفسه يحتاج إلى الحماية الاجنبية، فساد إداري يطاول أحياناً المؤسسات القضائية يهدد كرامة المجتمع. وهذا ما يجعل المواطن العراقي يتساءل: «كيف أخضع لعقوبة تفرضها مؤسسات منقوصة السيادة؟». يمكن تصور غياب الأمان الشخصي والمجتمعي في عراق اليوم، من خلال حوارات مع سجينات بتهم يستعصى تصورها: إرهاب، بغاء، تضليل للعدالة،، خطف وتزوير، إضافة الى إتهام صريح بالرشوة للقائمين على إصدار الاحكام القضائية. تقول احدى السجينات: «عُرض عليّ دفع مبلغ من الدولارات لتخفيف الحكم الصادر بحقي وإلغاء تمييزه». فالمواطن يشعر إذاً بغض النظر عن براءته أو إدانته بأنه في مزاد علني؛ يُتاجر به وبمصيره. وسجن الكاظمية للنساء ما هو إلا عيّنة من الشبهات والقهر الذي يلف آلية محاكمة المتهمين، ولاحقاً نزاهة اجراءت تنفيذ الحكم. يتجوّل الفيلم بحرية يحسد عليها في أروقة السجن، محاوراً ومصوراً الواقع البائس وغير الانساني فيها: اطفال يعايشون القضبان، زنزانات العزل، الوضع الصحي البائس، وغياب الاشراف التربوي الذي يشير وجوده أو عدمه الى نظرة القانون إلى السجن، هل يعتبره مكاناً لتثبيت الجرم وقضاء مدة العقوبة، أم هو مكان اصلاح تربوي لما أعوّج من السلوك تجاه الجاني أولأ، ثم إزاء المجتمع ثانياً؟ هذه النظرة ستعزز أيضاً من مدنية وانسانية العدالة، وتجعل العقاب يتخفف من بطشه وجبروته، ومع هذا الأحساس تقّوم العلاقة ما بين المواطن والدولة، رب من يقول «بأن مؤسسات الدولة العراقية بعد الاحتلال قد فقدت التوجيه الاداري والتربوي، وهي أحوج من غيرها للإصلاح». وهذا موضوع شائك يعيد النقاش المزمن حول شرعية اللاشرعي وعدم الامتثال لأوامره أو يساير بعض احكام الفقه القائل بضرورة الخضوع للحاكم المسلم وإن كان جائراً. لعل الفيلم ادرك معضلة هذا القرار فنأى بنفسه عن المشاركة بها، ما أثر على الخلاصة التي جاء لينطق بها، ووضع البناء الدرامي في مأزق الأحادية: لقاءات مع سجينات وبعض المشرفين على ادارة السجن لاغير. وكلا الطرفين يكن عداوة للأخر، معيشية، تتعلق بطريقة إدارة السجن ومعاملة الموقوفين، وجرمية وهي الأخطر، تلّخص نظرة إدارة السجن الى العقوبة والى المتهم. وهنا يلعب التثقيف التربوي بالقصاص الدور الكبير، فليس هناك أي مبررٍ لتجاهل الفيلم محاورة مختصين ذوي علاقة مهنية بموضوعة السجن ؛ من تربويين ومحاميين وقضاة وكذلك محققين متهمين بالرشوة وسماسرة إعتقال وإفراج، بل حتى اطباء نفسانيين. تقول إحدى السجينات: «إني اكره الكل، وحالما يطلق سراحي، سأغادر العراق». الإدلاء العلني بالحقد، يصور تفاقم الوضع عند السجين وتجاوزه حدود طاقة الكتمان، التي تشير الى نسبة معقولة من السيطرة على النفس، أما المجاهرة فتعني غلبة الهزيمة، وتنطوي أحياناً على مشاعر الانتقام، الذي يحضر في حديث تلك السجينة «مغادرة العراق»، من حيث هو إنتقام من المكان والمجتمع على حدٍ سواء، وهو أقل بطشاً من الانتفام العنفي الذي تثيره الهزيمة والشعور بالظلم. ويستشف من حديث إحدى المشرفات على السجن أنها تتصرف مع المعتقلات، إنطلاقاً من حيازتها المطلقة على القانون، وبموجبه تخول لنفسها مصادرة الحرية الشخصية النسبية في السجن، إذ تقول: «نحن نمنع التدخين لأنه مضرّ بالصحة». وكأنها بهذا تعلن: أن الزنزانة لا تكفي لإشاعة العقوبة، فصلاحيتي تتجاوز الحدود التنفيذية، أسجن التصرف الشخصي والرغبة الانسانية في الأكل أو التدخين. منع يتجلى بالأوامر، يقود الى سجن الممارسة وحرية التصرف، وسجن واقعي مؤيد بالقضبان. في السجن، هناك حرية اللاختيار، وكمعوض لها، تحدثت النساء بحرية عن آرائهن دون وجلٍ، أي حرية القول ضد حرية القضبان بالاعتقال. غابت الموسيقى التصويرية تماماً عن الفيلم، أذ ما الذي يمكن الموسيقى ان تفعله تجاه هذا العويل والصراخ القادم من الزنزانات؟ المؤكد أن المخرج تعمّد ترك المُشاهد منسجماً مع الدراما من دون إلهاء، او تلطيف للصدمة التي قد تحدثها الموسيقى. إصرار مسبق على جعل الآخر ينفر مما يشاهد، بغض النظر عن تعاطفه أو رفضه. ولأن الفيلم يصور حبس الواقع في السجن، لجأ الى بناء درامي عارٍ عن التزويق، ولكنه بدا مفككاً: عبارة عن مقابلات منزوعة الصلة مع بعضها، من دون مصير مشترك إلا إذا إعتبرنا السجن هو الرابط بينها. في المقابل بدت الكاميرا على صلة مباشرة مع الحدث، بعيدة عن التخيّل، أصابت المشاهد برشقات متوالية الصدمات، لجعله مكشوفاً أمام القصاص، وفي مثل هكذا لقطات تشيع جرعاتٍ من الانقباض، تساهم في تسهيل هدف العقوبة وهي الردع، فيكون مَن في صالة العرض، قد أتعظ، وقرر في ذاته الخوف من ارتكاب الجريمة. ينتهي «يوم في سجن الكاظمية للنساء» على أغنية تترنم بها سجينة عراقية من أصول غجرية، تلوم الحاكم على معاداته لها، وتصفه بالجور، وتتجاوب النساء مع كلمات الأغنية التي تبدو من تأليف السجينة ذاتها. وتلخص هذه الاغنية العلاقة غير المقبولة ً ما بين الحاكم والمتهم، وتنجز تأثيراً لم يحققه أغلب المقابلات والحوارات، وللأسف تم تجاهل وقع هذه الأغنية على الحدث ولم تستعمل كإطارٍ يحتضن الحبكة، والسؤال هنا هو: كم سيتغير الإيقاع فيما لو أصبحت هذه الأغنية بداية للفيلم، وكمقود للدراما يوّجه صراخ السجينات الى أفواه بصرية، لا طاقة للقضبان على إسكاتها...؟
|