السينما الخليجية وعدوى المعرفة

المقاله تحت باب  سينما و مسرح
في 
15/06/2008 06:00 AM
GMT



لا رغبة في التحليل الفلسفي المجرّد أو الدخول في سجالات نظرية حول طبيعة المجتمعات الخليجية وبنيتها، تدفعنا لعرضها هنا قدر ما تفرض الأسئلة المطروحة نفسها، تأسيساً لخلفية نظرية بسيطة، تسمح لنا بعرض تصوّرنا عن طبيعة المنطقة وتكويناتها الاقتصادية الاجتماعية، وبالتالي الوصول الى أجوبة معقولة عن أسئلة ظاهرها فني صرف وباطنها يحمل الكثير من الحيرة والفضول لمعرفة واقع هذه المنطقة، وإيجاد تفسير لدورها التاريخي، على المستوى الاقتصادي السياسي أو على المستوى الفني في أقل تقدير.

صفة «الخليجية»
أظن قبل الإجابة عن السؤال المتعلق بوجود سمات معينة تميز الأفلام الخليجية عن بعضها بعضاً وفقا للجغرافية والمجتمع والبيئة المحلية، لا بدّ من سؤال عمّا إذا كانت لهذه المجتمعات قواسم مشتركة كبيرة تصحّ إطلاق صفة «الخليجية» عليها. من المؤكد أن صفة الخليجية هي جغرافية بدءاً، لكن مع ظهور النفط اكتسبت معنى سياسيا واقتصاديا أبعد. وعلى المستوى النفسي، فإن خليجية الدول العربية هي الأقرب. على الأرجح، ما نعنيه من سؤالنا والنشاط الذي يدور حوله ينحصر ذهنياً بجانبه العربي، على الرغم من أن المنطق يفرض تعميمه على كل الدول والمجتمعات الملاصقة لسواحل مياه الخليج. السبب وراء هذا الميل يحمل منطقيته الخاصة في داخله. فالمكوّنات البشرية العربية تجمعها جوامع مشتركة كبيرة لا تشترك إيران، مثلاً، فيها. واللغة العربية واحدة من قواسمها، إلى جانب مستوى تطوّرها الاقتصادي والاجتماعي. ومن دون الدخول في تفاصيل كثيرة، يكاد يكون مستوى نمو هذه البلدان متشابهاً من حيث العموم. فلثلاثة عقود خلت، تقريباً، كان الجامع بين سكان منطقة الخليج العربي هو: البداوة والاقتصاد التبادلي البسيط (الصيد والصناعات الحرفية اليدوية). ومع اكتشاف النفط، انتقلت غالبية هذه التجمعات إلى مستويات اقتصادية اجتماعية مختلفة تماماً، أرقى، شاع بفضله وبسرعة فائقة وبمستويات متقاربة جداً (لاشتراكها في صناعة/بضاعة واحدة وتصريفها في سوق واحدة تقريباً) نوع جديد من المعرفة الاقتصادية لم يألفه سكانها سابقاً، وانفتاح واسع على العالم الخارجي. ولعلّ حقل التعليم واحدٌ من أكثر تمظهراته التطبيقية.
من هنا، فإن النمو المادي ترك بصماته على سكّان هذه المنطقة، بدرجة متقاربة ووفقاً لكمية ما يتوفر في باطن أراضيها من نفط، ولاحقاً لدرجة كفاءة تجارها واقتصادييها في استثمار أموال منتوجهم في مشاريع مالية جديدة. إن شكلاً من النمو والانتقال الجديد لم يعرفه التاريخ البشري قد حدث في هذه المنطقة، وقد عُبِّر عنه بعبارة تنسب إلى «قائل مجهول»: لو عاد كارل ماركس إلى الحياة ثانية ورأى بأم عينيه ما أحدثه النفط في منطقة الخليج، لأعاد النظر في نظريته حول التطوّر التاريخي. ذلك أن السياق التاريخي لتطوّر بلدان هذه المنطقة حدث من دون مرورها بالتطوّر التاريخي الاقتصادي التدريجي. فهي لم تنتقل من الزراعة الى الصناعة تطوّراً لمرحلتها الرأسمالية، كما حدث في أوروبا. ولم تنشأ كمجتمعات زراعية أسّست لانتقال صناعي أولي، كما في جنوب شرق آسيا وإيران مثلاً. لذا، فرض هذا الانقلاب الاقتصادي شكلاً جديداً من التطوّر في شكل الحياة المدنية.
مع الحفاظ على قانون سرعة النمو المتباعد بين البنى التحتية والفوقية للمجتمعات، يأتي الجواب عن السؤال الأول: بما أن درجة النمو في المستويات الاقتصادية للمجتمعات الخليجية ليست بالمستوى نفسه من التطوّر الثقافي، فإن المسافة الفاصلة بين الضفتين كبيرة أيضاً. مع الوقت، لاحظنا جهداً كبيراً لتقليصها، لكنها لا تزال موجودة وستبقى موجودة لفترة طويلة من الزمن. على المستوى الفني، وتحديداً في حقل السينما، تبدو الهوّة جلية الوضوح. أما عن سماتها، ففيها من التشابه قدر كبير، والسبب كما أشرنا يعود إلى طبيعة المجتمعات نفسها، وفيها أيضاً من الاختلاف في أشكال المعالجة، لتباين واقع هذا البلد الخليجي عن الآخر. فالميزات الخاصة لكل مجتمع تكوّنت عبر تمازج نفسي وتاريخي طويل. هذا بالإضافة إلى اختلاف نوع المشكلات التي يواجهها كل بلد على حدة. فالكويت ليست نسخة من الإمارات، ولا البحرين مثل المملكة العربية السعودية. هذا ما لمسناه في مضامين وأشكال المعالجات الفنية للأفلام المعروضة في «مهرجان الخليج السينمائي الأول». أظنّ أن هذا التشابه والاختلاف منطقيان في الوحدات البشرية المتقاربة كلّها. فسمات السينما الاسكندنافية قريبة بشدّة من بعضها بعضاً ومختلفة عن بعضها بعضاً بدرجات، وفقاً لاختلاف التكوينات النفسية لشعوبها.
في الجزء الثاني من السؤال (عن دور المهرجانات السينمائية في دعم هذه الصناعة)، حثٌّ على قراءة مستقبلية أو تخمين إذا شئت. مثل غيري، لا يقين عندي ولا جزم في الإجابة عن المدى الذي ستفيد فيه المهرجانات السينمائية الخليجية صناعة الأفلام في منطقتها. لكني، ومن منظور افتراضي (يستند على وقائع ومعطيات آنية)، أستطيع القول إن المهرجانات الخليجية مثلها مثل بقية المهرجانات هي سوق لعرض بضاعة، يحضره المهتمّون بها، يتبادلون فيها الرأي ويستفيدون من جديدها. في كل الأحوال، من دونها لا تتوقف الصناعة السينمائية. فالمهرجانات ليست صانعة أفلام. كما أن ما توفّره من فرص لا أظن ضياعها فائدة للمشتغلين في هذا الحقل. خذوا السينمائيين العراقيين مثلاً: من أين لهم مشاهدة أفلام جيرانهم الخليجيين، لو لم يكن هناك تجمّع كمهرجان الخليج يجمعهم؟ وكيف يسوّق الآخرون بضاعتهم لو ظلّوا محصورين في جغرافيتهم؟ أشاع البعض فكرة أن لا جدوى (بل عدمية) من إقامة مهرجانات سينمائية في بلدان لا سينما فيها. اليوم، وبعد مهرجان دبي وغيره، تراجع أشدّ المتحمّسين لهذه الفكرة، بعد أن شاهدوا عدوى المعرفة وهي تنتقل لمنظّميها بالملامسة والاحتكاك. هذا قانون يصحّ على بقية فروع المعرفة. صحيحٌ أنه ليس بالقدر نفسه الذي يصحّ على العلوم والصناعات مثلاً، لكنه يأتي في الغالب من المثابرة وحب هذا الفن.

رغبة التعلّم
للحقّ، فإني فوجئت برغبة الشباب في التعلّم، خصوصاً الفتيات الخليجيات. شاهدت أمراً أثار عجبي وإعجابي: رأيتُ سينمائيين خليجيين يجتمعون بعد منتصف كل ليلة، ويبقون حتى الساعات الأولى من الفجر وهم يناقشون العروض ويتبادلون الأفكار حولها في جلسات منضبطة تسودها روح التعلّم. أليس هذا دافعاً وفرصة يوفرهما المهرجان لمحبّي هذا الفن؟ يقيني أن السينما فن يتعلّمه الناس، مثل بقية العلوم والفنون. وكما يرتقي الخليجيون في كسب معارفهم، سيكتسبون من دون شك معرفة إضافية في فن السينما، وعكسه سيبدو الأمر خارج سياق المنطق العلمي. ومثل كل سوق، فإن خطر سرعة إصابة زوّاره بعدوى فيروس منتشر فيه، تنطبق على المهرجانات السينمائية، فالأفكار الشجاعة والطليعية تنقل عدواها من دون إرادة زوّارها. وللتوضيح أكثر، فإن الأفلام التي انتقدت التطرّف الديني وعزل المرأة وجدت طريقها الى عقول المشاهدين، وربما بعد ذلك إلى السينمائيين الآخرين. الفيلم البحريني «أربع بنات» لحسين عباس الحليبي، خير مثال. ومثلما شجّع الفيلم الإماراتي «بنت مريم» لسعيد سالمين المري والعراقي «ليالي هبوط الغجر» لهادي ماهود وغيرهما على التقدّم خطوة من مسّ الموضوعات والإشكالات الجدّية التي تعانيها المجتمعات الخليجية، وربما تشجّع بدورها الآخرين الذين لجأوا الى معالجة القضايا «الوجودية» كالموت والخرافات بسطحية وفقر فكري لإعادة النظر في موضوعاتهم، خاصة وهي تبدو كـ«هروب» من معالجة القضايا الإشكالية التي تمسّ حياة الإنسان الخليجي.
ربما، واستكمالاً للموضوعية، علينا إضافة العنصر الفردي في تقوية دور هذه المهرجانات، وتوسيع مدياته. وكما في كل حقول الفنون والمعرفة يظهر رجال قادرون على استشراف المستقبل والعمل بمثابرة لتحقيق أفكارهم التي تبدو في وهلتها الأولى طوباوية وغير ممكنة التحقيق، لكن التاريخ وفي كل مراحله يعلّمنا أن رجالاً ساهموا في تغيير قوانين بدت للناس حينها وكأنها غير قابلة للتغيير، وأثبتوا، بعزيمتهم، صحّة رؤاهم.