المقاله تحت باب مقالات فنيه في
11/06/2008 06:00 AM GMT
تلتقي عوالم التشكيل التي ابتدعها الفنان (ضياء الخزاعي) بمغزي لا متناه يبني الفنان من خلاله الكثير من الشواهد والدلالات لتندمج لديه العفوية بالمطلق والدهشة بالمرونة والخصوصية بالانفلات.
لقد شكلت الطفولة انعطافا واضحا في تشكيلات منجزه الفني عموما.. ولم يكن هذا الجانب في يوم ما اختيارا منه، بل وجده قدرا لايمكنه الانفلات منه.. ففي اكثر الاحيان نجده ينساق وراء عاطفة تلقائية واحساس منفعل، لتتشكل بالنتيجة لوحة، احبها وتعاطف معها حد المبالغة.. فهو يري في ذلك: معركة تحدث بينه وبين السطح الابيض، الذي يشكل عنده عوالم ربما تشبه - الي حد بعيد - ما موجود في الواقع، لكنها تصطبغ بصبغة حلمية، موسيقية شعرية.. عوالم تشبه الحلم قد نراها سهلة ولكنها في النهاية ابعد شيء عن السهولة.. انها خليط من عواطف واحاسيس ومعايير واستذكارات عاشها او تخيلها.. فهو كما يري: ان ما نتخيله اجمل دائما مما نراه.
ولكي نقترب مع (ضياء الخزاعي) ، من اللحظة التي دوّن فيها مخلوقاته تماثل امامنا الكثير من التصورات بحثا عن معني لحياة تتشكل وتنبني، كي تظهر بالتالي (الصلة) بما فكر فيه، وصمم علي خلقه.. لذلك سألته:
هل لي ان اعرف شيئا عن اجواء بداية الفنان ضياء الخزاعي مع الرسم؟
- كانت البداية علي ما اتذكره في مرحلة الدراسة الابتدائية.. وبالتحديد في السنة الاولي منها.. حينها كان يشدني كثيرا درس الرسم ، كنت انتبه بشكل غريب للاشكال والملاحظات التي يعلمنا اياها معلم الرسم.. وحدث - كنت في الصف الثاني الابتدائي - ان جمع معلم الرسم اعمال طلبة المدرسة لتقديمها في معرض اقيم لمناسبة لا اتذكرها.. فأخذ مني مجموعة من الاعمال التي رسمتها في درسه.. ولكن الذي حصل ان هذه الرسوم قد وضع تحتها اسم طالب اخر.. هذه الحادثة تركت في نفسي انطباعا مؤلما.. لكن الذي خفف المي، ان الامر لم يكن مقصودا، وانما ما حدث هو خطأ غير مقصود، وقعت فيه الادارة التي نظمت رسوم الطلبة، فجاءت اعمالي التي رسمتها تحت اسم طالب اخر.
ولكن علي الرغم من ذلك كان الامر يدفعني الي التباهي حيث وجدت رسومي كلها عرضت في معرض المدرسة ، فكنت اطيل الوقوف امامها، اتأملها كثيرا، وفرحة ما تكبر في نفسي نسيت من خلالها ماحدث لاسمي الذي لم يندرج تحتها. من هنا اخذ الرسم يشكل لدي جانبا مهما شغل علي حواسي كلها.. فصرت احرك اصابعي ويدي كي ارسم كل ما تتلقفه عيناي.. ارسم هذه الاشياء في الفضاء دون ملل او تعب.. بل اجد في ذلك متعة تسرني.. كنت ارسم اشكالا ولكنها سرعان ما تنمحي وتزول .. كما بهرتني الاشكال والالوان المرسومة علي البسط الشعبية وكثيرا ما كانت اصابعي تجد طريقها فوق هذه الاشكال بحرية هائمة.
اتذكر ان اول شيء تعلمته قبل القراءة والكتابة هي حركة (الشدة) الموجودة في لفظ الجلالة (الله) واتذكر ان لي صديقا اسمه (حمزة جواد) - دخل بعدها معهد الفنون وتخرج فيه عازفا للموسيقي - كان حمزة اكبر مني بسنة واحدة يعرف القراءة والكتابة وكان كثيرا ما يكتب علي صندوق الشاي القديم المصنوع من الخشب.. ومن جملة ما يكتبه كلمة (الله) ويرسم فوقها حركة الشدة.. كانت عيناي دائما تنشدّ الي هذه الحركة تلقائيا.. كنت احبها كشكل دون ان اعرف الدافع وراء ذلك.. لماذا احبها وماهي الاسباب لا ادري؟ ربما كانت لها علاقة بالوضع النفسي الذي اعيشه حينذاك..
هذا الامر دفعني بعد سنوات الي تعلم الخط العربي ودراسته.. واتذكر انني اشتريت كراسة تعلم الخط للخطاط الكبير (هاشم البغدادي).. وقبل تخرجي في الابتدائية كنت قد اتقنت الخط العربي تماما.. الا ان الذي يبقي برغم ذلك انني احسست ان تعلمي الخط لم يحتو اللهفة التي تسكن الاعماق مثلما يفعل الرسم.. حينها ادركت ان علي التنبه الي الرسم دون غيره، فتركت كل شيء واتجهت اليه.. كان ذلك في مرحلة المتوسطة تركت الخط العربي وانا حاصل علي جوائز عديدة وشهادة فنية من الخطاط المعروف (عبدالحليم الحلبي) .. ربما وجدت ان الخط العربي له حدود محسوبة وتشكيلات مقننة وانا بطبيعتي اكره الحدود ولا احب الاشياء المحسوبة.. فانا عندما اعمل احتاج الي مسافة من الحرية.. والرسم كان يمنحني هذه المسافة اكثر من اي شيء اخر.
نبقي مع مرحلة البداية.. نريد ان نفهم عملية انتباهك للاشياء في الرسم.. هل هي كشكل خارجي ام تماثل لون معين.. هل انتبهت الي الشكل ام الي سطوة الالوان عندما تنبهر بها؟
- الالوان مرحلة متأخرة في تجربتي.. ولكن كان الشكل يشدني اكثر.. وتشدني كذلك الفكرة التي تتجسد في حركة تلك الاشكال التي وجدتها تنتشر بشكل متراكم حولي.
ابتداء كان الفن العراقي عموما في تلك المرحلة يتجه الي التشخيص والفكرة .. لقد فتحنا عيوننا علي افكار وهذه الافكار تعلمناها من فنانينا الكبار.. كانت رسوم (حافظ الدروبي) و (فائق حسن) التي بهرتنا - ونحن في مرحلة عمرية غضة - تدفعنا الي تقليدها او في الاقل ان نرسم علي وفق ما يشدنا في تلك الاعمال المهمة.
وعلي الرغم من محدودية تفكيرنا بحكم عمرنا الصغير وتجربتنا المحدودة.. الا ان الذي يحدث ان استيعابنا يأتي ضمن حدود هذه التفكير.. اي اننا قد ننبهر باشكال او اعمال معينة، الا ان احساسنا بهذه الاعمال بعد مدة سنة او اكثر قد يتغير ولم تعد تعني لدينا شيئا يذكر.
في مرحلة الاعدادية بدأت بنشر تخطيطات ومواضيع كاريكاتير في مجلة الف باء.. كانت مواضيع هذه الاعمال تحاكي احداثا معينة في تلك المرحلة.. كنت حينها فخورا بما وصلت اليه.. وعلي الرغم من ذلك كانت هذه الرسوم لا ترضي الرغبة او الفاعلية التي تتحرك سريعا في داخلي.. فقد كان احساس هائل يتحرك في نفسي يعّرفني باهمية مايمكن ان اقدمه لاحقا دون الاكتفاء بذلك.
والي اي اتجاه او حركة تنتمي اعمالك؟
- اعمالي عموما تنتمي الي التجريدية التعبيرية.. وانا كما هو معروف اشتغل علي التعبير في اللون والخط.. وانا اميل الي هذه المدرسة بشدة فقد تألفت معها واحببتها وبقيت اشتغل ضمن اتجاهها.. علي الرغم من انني اشتغل علي منطقة الموروث الشعبي وهذه الاخيرة هي منطقة محلية خاصة تنتمي الي حركة اوسع هي الحركة التعبيرية التجريدية. هل لنا ان نعرف الكيفية التي توصل من خلالها الفنان (ضياء الخزاعي) الي اسلوبه الخاص.. وهل مر بمراحل معينة حتي انتهي اليه؟
- بالتأكيد.. فأي فنان يمر بمجموعة تجارب.. فنحن لانبدأ بمنطقة محدودة بل نبدأ بمنطقة مفتوحة تماما.. عرفت الفن علي اصوله المعرفية الاكاديمية اثناء دراستي في كلية الفنون الجميلة ببغداد.. فكان لتوجيهات اساتذتنا الكبار (فائق حسن - حافظ الدروبي - كاظم حيدر) وحواراتنا المستمرة نحن كطلبة في قاعات الدرس او الاقسام الداخلية.. وراء ان نكون مشاريع تكاد تكون مؤسسة فنيا.
في هذه المرحلة كان علينا ان نتعلم الدرس الاكاديمي الصرف.. واتذكر انني كنت في هذه المرحلة احاول التحرر من سطوة ذلك الدرس، الا ان اساتذتي منعوني من ذلك بحجة ان عليَّ (كطالب) ان اتعلم الدراسة الاكاديمية - اجرائيا - بكل تفاصيلها واسسها وبعد ذلك ابحث عن منطقة اشتغالي الخاصة.. وعلي الرغم من ذلك كنت اتصرف (خارج الدرس) بمواضيع اللوحة وامارس عبرها نزقي وتمردي.
وعلي اثر ذلك فهمنا ماذا يعني التعقيد في الاتجاه الاكاديمي وكيف يمكن ان نقدم شكلا مدروسا ومحكما يكون خاضعا لتقاليد الفن الاكاديمي وضوابطه. لذلك علي الفنان - اي فنان - ان يكون ملما بأسس الدرس الاكاديمي ويتقن تفاصيله الاجرائية ومن بعدها ينتقل الي مرحلة الحداثة.. كونها مرحلة لاحقة لذلك، علينا اذا ان نفهم التعقيد ومن ثم بامكاننا ان ننتقل الي فكرة الاختزال والتبسيط وممارسة التصرف بوحدات العمل ككل.. وهذه مسألة مهمة بأعتقادي كي تكون بعد ذلك انطلاقة الفنان ناضجة وحقيقية وواسعة.
فالفنان الذي لايجيد الدرس الاكاديمي ولايفهمه او يمارسه ويأتي باعمال حداثة مثل التجريد وغيره فانه ربما يقدم اعمالا جميلة ولكنه حتما سينتهي الي طريق محدود.. فالارض التي يقف عليها لا تمتلك صلابة الدرس الاكاديمي المتقن.. وعليه فستكون ارضا هشة سرعان ما تنهار به ويغرق فيها دون نجاة.
علي الفنان ان يكون عارفا بادواته وان يفهم المدارس الفنية ومطلعا عليها وعلي اساليبها وله من الثقافة ما يعينه علي ان يختار بوعي دقيق المدرسة او الاتجاه الذي يمكن ان يعمل علي وفق مساره.. علينا ان نفهم الفن العراقي كله والحضارة العراقية ومنجزات انسانها المثابر بكل ابعادها ومن ثم لنا الحق ان نقدم اعمالا فنية حديثة.
وماذا عن الاجواء التي استمد الفنان (ضياء الخزاعي) منها مواضيع لوحاته؟
- مواضيع لوحاتي مستمدة من استذكارات المدينة والتي لها علاقة بالموروث الشعبي.. فانا من بيئة بسيطة غلب عليها الطابع الشعبي ولها موروث هائل.. فمن الديوانية بكل تفاصيل مجتمعها ولدت مواضيع لوحتي.. ابتداء من اللعب الشعبية وانتهاء بالالوان التي تميزت بفعلها الشعبي.
كثيرا ما كانت تستهويني مفردات مثل (حجلة) الاطفال و (الكاروك) والطائرات الورقية واعمدة الكهرباء والبايسكل (الدراجة الهوائية) .. وحتي الاشياء المستحدثة.
كانت تستهويني الالوان الشعبية التي تناثرت بين اشكال البسط او اعمال الخشب الشعبية.
وعندما اقف امام قماشة بيضاء واحاول ان ارسم مواضيع حديثة لها علاقة بما يجري في العالم فانني استذكر واسترجع ذلك الخزين الممتمع الذي تجمع في الذاكرة.. فالبايسكل - الدراجة الهوائية - مثلا مفردة نادرا ما تخلو لوحة من لوحاتي منها.. كنت ارسمه لانه يستفزني ولكن لاحساس طري ينفلق في دواخلي ..حب غريب يتجمع حول اصابعي فيتشكل فوق سطح اللوحة.. احب خطوط شكله وانسيابية حركته المدهشة.. عندنا في الجنوب يسمونه (الحصان الحديدي) وهنا وجدت في (البايسكل) بديلا حيا عن الحصان الطبيعي كون الاخير قد رسم بكثرة وبشكل رديء.. ومفرداتي لم ارسمها بشكلها الواقعي فانا بطبيعتي لا احب الخطوط الهندسية المباشرة للاشياء.. ولكنني ارسمها بخطوط لينة ومرنة تتلاقفها التلقائية والموسيقي والشعر.. عندما ارسم فانا ارسم احساسي بتلك الاشياء والمفردات التي كانت تربطني بها علاقة حميمية صادقة.
كما كان لتلك الشخصيات غريبة الاطوار تأثيرها عليّ.. واتذكر انه كان في المدينة حلاق يرتدي زيا غريبا في كل شيء.. كان يصبغ حذاءه باللون الاصفر ويرتدي سترة سوداء ذات ازرار فضية لامعة ويمسك بسلك نهايته معقوفة ويمشي بطريقة عسكرية .. كان ذلك يستفزني ويترك في رأسي تساؤلات كثيرة.. كانت المدينة تشدني بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة .. وما زلت استذكرها وفيّ الهاجس ذاته الذي عشته في طفولتي.
في لوحتك الجديدة.. نري مفردات مستجدة لم نألفها في لوحاتك السابقة مثل: الساعة - الوجوه - حركية اللون الذي ينفلق في زوايا محدودة في اللوحة!
- انا قلق بطبيعتي واشتغل علي منطقة القلق وليس علي منطقة الاستقرار.. فالاصول التي تعلمتها اثناء دراستي الاكاديمية عملت جاهدا علي ان اشتغل عليها بشكل معكوس تماما.. فالموازنة - مثلا - معروفة في الدرس الاكاديمي ولكنني تجاهلت ذلك واخضعتها الي قلقي الحر.. كان هاجسي ان اترجم قلقي وليس الموازنة.
اللون هو الاخر خضع لهذا التمرد الداخلي، افترشه قلقي وذاب فيه.. فقد تعلمنا ان الموازنة ضرورية بين الكتلة واللون في العمل.. فهي اذا قضية محسوبة.. لذلك تجدني اشتغل بعيدا عن كل شيء محسوب.. فالاشياء والزمن مفتوحان بالنسبة لي.. وكل شيء ارسمه اتركه سائبا مفتوحـــــــا وله نهاية سائبة بلا قيود.
مشروع اللوحة عندي بحد ذاته مشروع تجريبي بلا هوادة .. فانت تجد اكثر من اتجاه في تكوين الاشياء التي ارسمها ولكن كل مرة بطريقة تختلف عن الاخري.. وابحث دائما عما يمنح لوحتي حيوية صادقة ومؤثرة.
انا ارسم الاشياء المحببة الي نفسي.. فكل الاشياء التي احبها ممكن ان ارسمها ، فالوجوه التي ارسمها وجوه تراها متداخلة، متشبثة بمفردات اللوحة.. فهي وجوه اناس ولكن قد تري عيونها عيون قطط.. ربما حبي للقطط دفعني الي ان اري تلك الوجوه بهذه الهيئة التي رسمتها.. انها متداخلة وصميمية لا اقدر علي ان انفك عنها.. تفتعل اثرها دائما في الاشكال التي ارسمها.
كيف تري واقع اللوحة الان في العراق؟
- انا اعتقد بانني متابع جيد للحركة التشكيلية منذ السبعينات، واستطيع ان اؤكد انه بالرغم من تفشي الرداءة واستشرائها.. لكن المتتبع الدقيق يجد ان هناك حضارة تشكيلية عظيمة تنهض علي اكتاف عدد قليل جدا من الفنانين المخلصين، الذين يعيشون دائما محنة الابداع وقلقه وناره.
كان الله في عونهم وحشرنا معهم.
|