ذاكرة ...مكان ..ترصدهما فرشاة

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
13/05/2008 06:00 AM
GMT



شعور بالبهجة يوحي به الفضاء الواسع لقاعة طغى عليها سطوع اللون الأبيض.ثمة إيحاء بأن سقف القاعة مفتوح على السماء وجدرانها تتسع بشبابيك يرشح منها ضوء الشمس يرسل أشعته لتشع فوق الألوان.تمر اللوحات بحركتها حية نابضة وكأنها تريد الخروج من أطرها.حرارة الألوان تتحرر بحواريات ضاجة تكسر رتابة الجدران ليختمر معها الإحساس بسعة وحرية الحركة ونبضها، لتعطي للحدس المنفتح الذي يبعد الشعور المريب بكتلة المكان الهائلة.
أمر بنظري فوق اللوحات فأعاين تدرج كتل الألوان وسطوعها بين التجريد والتبسيط.بين الوجوه الحارة الناطة والوجوه الكابية التي تحاول أن تجد مكانا لها في الزمن قبل أن يحتجزها القماش أو الإطار.عيون لا تبدو عليها الحيادية حين تريد مراقبتك.عيون ووجوه تتنفس خلال النوافذ والجدران، عبر انحناءات الفرشاة والخطوط تفصح عن كينونات تريد الإفلات في فضاء يتنوع وينشطر بين أفق مفتوح وأكمة مسحورة وبروق متوهجة والتواءات حادة في بعضها متطامنة في حالة أخرى.ألوان حارة وباردة وطنين يخالطه أنين وتوجع ولكن ضجيج الفرح في بهجة الألوان وصهيل الخيول وتراص الأجساد وانفتاح الأفق، كل ذلك يتناغم ليشكل عموم لوحة واحدة متجانسة متنافرة في آن، وكأنها تدلك مباشرة على سعة الهم الإنساني الممزوج بإتقان المعرفة، فرشاة، لون، فكرة وحديث يستدعي الذاكرة وأماكن قصية في الروح.
ذاكرة ... مكان. كان هذا عنوان المعرض السنوي الذي أقامته جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين ـ السويد على قاعة HUSBY KONSTHALL الواقع في منطقة هوسبي من العاصمة السويدية ستوكهولم.وأمتد العرض من تأريخ 8 آذار لغاية يوم 30 منه وشارك في المعرض 23 فنانة وفنان تشكيلي عراقي.وقد تنوعت لوحاتهم وتوزعت بين مدارس وتقنيات تشكيلية مختلفة وكان للنحت فيه حضور أيضا.المعرض يقام سنويا في ذات الموعد تقريبا فبراير أو مارس ( شباط أو آذار).هناك لجنة تأخذ على عاتقها تنظيم المعرض وحجز القاعة ووضع الصيغ لشكل المعرض واختيار أسم له، وكانت واحدة من مقترحات لجنة الإعداد أن تكون هناك فعاليات مختلفة على هامش المعرض مثل حفلات موسيقية، ندوات وحوارات ولكن قلة المنح والمساعدات أعاقت الكثير من استعدادات وتحضيرات اللجنة، وانعكس هذا أيضا على مستوى الإعلام والنشر.

وهناك أيضا لجنة لاختيار الأعمال المشاركة، أعضاؤها من الفنانين العراقيين والسويديين وهم من يحدد صلاحيات اللوحة أو النحت للعرض.

المعرض على سعته وتنوع لوحاته وكثرة فنانيه الذين اثبت الكثير منهم حرفية عالية في تقنيات الرسم، جلب الكثير من الهواة والمتابعين والمهتمين من السويديين والأجانب، والذي طغت نسبتهم على نسب الحضور من العراقيين.
يكتشف المشاهد وجود لوحات تشكيلية من المدرسة الواقعية الانطباعية يسجل فيها بعض التشكيليين لحظة زمنية ومكانية ويؤشر لحالة إنسانية، ولكن الغالب على لوحات المعرض ذلك التحدي أو ما يمكن تسميته تهشيم الحيادية في استنباط واستنطاق الفكرة واللون.أي دفع الكتل اللونية لإيضاح البعد الرمزي بصورة تتدرج لتفصح عن واقع أراد فيه أكثر من رسام قول ما يضمر دون الإحساس بقيود أو وجل.محاولات جادة لإثراء الحياة بمواهب وأحاسيس بالجمال والمتعة الفنية المتولدة عنه.اشراقات فنية طافحة بالبعد الجمالي ولكنها في ذات الوقت لا تخلو من القلق الإنساني الممزوج بالقلق السياسي لدى البعض منهم.

في العادة أبدء دخولي لأي معرض فني بجولة سريعة ثم أعقبها بجولة أخرى، جولة متأنية استكشافية، وتكون قراءة وتمعن وتلذذ وتدقيق.جلت القاعة الواسعة ثم عدت الى تلك الغرفة التي عزلت عن محيط القاعة بستارة بلاستيكية شفافة قطعت دون عناية وبشكل مقصود الى أشرطة تهبط من الأعلى نحو الأسفل لتتجاور بعبثية ظاهر المألوف عن الستائر. خط على أجزائها رقم ظاهر 4 X 4 .إيحاء بخصوصية وتفرد، ذلك ما يخطر في البال منذ الوهلة الأولى.من عمق القاعة أنتبذ الفنان شاكر عطية مكانا له وتفرد في عرض لوحاته في هذه الغرفة.

حسب ما قاله التشكيلي شاكر عطية فأن تكرار الرقم أربعة في لوحاته كثيمة لموضوعاته، يمثل انطباق وانفتاح الأبعاد، لذا فقد وضع ما يشبه الجداريات لتغطي جدران الغرفة يتكرر فيها الرقم 4 ومتوالياته.
يتوسط الغرفة طبق بقطر يتجاوز المتر بألوان داكنة تتماوج بين الأسود والأزرق الغامق وثمة خيوط بيضاء تخترق العتمة بخفة وكأنها تريد قطعها، أو تنسل بين أخاديد العتمة لتسجل حضور يوحي بالوجود الحاد لحيوات أخر.في قاع الصحن الذي ملأ بالماء ثمة قطع زجاج صغيرة بعدد 16 وهناك أيضا قطعة زجاج لمرآة مكسورة بقطع أربع. ذات التكرار لمعادل 4.

من فوق الطبق يتساقط ضوء ينعكس على المرايا والماء، حيث وضع في الأعلى طبق أبيض صغير يوحي بسطوع القمر ينساب منه الضوء.ثيمة العمل هو انعكاس الضوء على صفحة الماء والمرايا والذي يوحي بمكنون الروح والذاكرة ولعبة المرايا وارتداد الضوء في خزين الذاكرة عن أيام الطفولة ودلالاته في الأفق المفتوح وانعكاس الرؤية للواقع المعاش وثمة أمل بقادم جديد.

الجدارية الوسطى تتألف أيضا من 16 قطعة أو لوحة وهي على ذات التكرار الرقمي وكل أربع قطع لها مدلولها الخاص وتتوزع جميع القطع على أزمنة وأمكنة مختلفة، بما يوحي للوضع الإنساني الذي أختار الفنان تجريده عبر اللوحة.المدينة، الحلم، الإنسان لها ثيماتها وهي تتناغم وتتدرج بشكل رباعي لإعطاء بعد للربط الروحي بين الإنسان والبيئة والحب ثم في النهاية يفصح عن الصراع المحتدم بين كل تلك الحيوات بالرغم من ترابطها ويقين تواصلها الدائم دون فكاك.وتنتهي الرباعيات بأربع قطع جافة الألوان باردة تشير الى عزلة الإنسان وغربته حيث يفتقد الألفة والدفء بعيدا عن الوطن.

في اللوحة الثانية استخدمت تقنية الفن التركيبي وبذات المعادلة تستمر لعبة العمليات الحسابية وفي هذه الجدارية أضيفت شروط إنسانية أخرى تدلل على المعادلات الحسابية والحروف.

شاكر عطية
لوحة أخرى من جنفاص غطي باللون الأسود لتجسيم أبعاد الكتل.نموذج لبرديات خط فوقها الحرف الأول من أبجديات مختلف اللغات العربية اللاتينية السومرية الهيروغليفية.وهناك المرأة والرجل ينتصبان ككتلتين واضحتي المعالم تتداخل في جسديهما العمليات الحسابية. والقمر المشطور يوحي بالتفاؤل والحركة الدائمة والتحول المستمر في الزمن.

التشكيلية هناء الكاتب كان للوحاتها حضور مؤثر فلها ثلاث لوحات بحجم كبير وصيغها التعبيرية تنحو للطرح التجريدي وهي تريد في لوحاتها أن تؤشر لقدرتها على التحدي. وترسم هناء صيغة التحدي بعرض الصراع المستديم بين الخير والشر حسب قولها.لوحتها الأولى تعرض قوة التجاذب والصراع في حبكة سريالية حيث تولف اللون الأزرق باللون الأبيض المدغم بالدكنة. واضعة كتل ذات دلالات لا تفلتها العين. لوحة هناء هذه والتي سمتها الأزل تشي بالزمن المطلق المفتوح وحوارها مع الألوان تكتنفه خصوصية شخصية كمحاولة للارتقاء بالحلم الإنساني وتلمس وجوده في المكان والزمان.

 

هناء الكاتب

في لوحتها المسماة ( القدر ) تستخدم اللون الأصفر المتدرج نحو الأحمر الناري، وهنا تختار هناء صراع الألوان حيث تحاكي بها حدود التابوات المفروضة.فحدود الموروث الشرقي تتحكم بالفرشاة لتبرز عرى العلاقة بين الرجل والمرأة تلك العلاقة الوثيقة التي تؤطر بعقد لا ينفصم. وبالرغم من أن دالة الفكرة شرقية بحت، فأن التقنية تجريدية بالكامل..هناء تعي جيدا لعبة الألوان وهذا واضح جدا فوق قطعة القماش المستخدم.

في لوحة النساء ثمة وضوح شديد لما تريد هناء قوله.وقد أفصحت اللوحة بصدق عن ما يختمر في ذات التشكيلية هناء الكاتب، وما معالجاتها لموضوعاتها في الثلاث لوحات ذات الثيم الواقعية والتشكيل التجريدي إلا دليل على ذلك، والمساحات تستوفي عندها شروط لعبة الفنتازيا.
 

حين سألت الفنان التشكيلي عباس الدليمي وهو المشارك في المعرض بلوحتين، عن بداية التخطيط لرسم لوحة، أجابني بأنه يبدأ العمل مع وجود المخطط الذي يدور في البال، ولكن رويدا رويدا تغيب التفاصيل وتتغير الفكرة ويبدأ ظهور لتشكيل أخر. لذا تراني أغير في طبيعة الفكرة وتشكيلة الألوان.استرجاع خزين الذاكرة وتمازج الألوان يدفعني قسرا لتبديل الكثير.هذه المسألة توصلني لحالة الفيض الحسي واختبار الألوان التي تأتي عندي في المقدمة فأنا أريد أن أتعرف عليها ومن خلالها معرفة الحياة والكون.أريد منذ البداية أن أشعر بطبيعة الألوان، قوتها سطوعها وهذا بالذات يفصح عن طبعة دهشتي إزاء تغيراتها وتوليفاتها وكذلك عشقي لها، بعد هذا يأتي عندي الاهتمام بالكتل.
بعد انقطاع دام ما يقارب 12 عاما أجدني عدت بزخم جديد وهناك الآن في جعبتي ما يقارب السبعين لوحة بمختلف الحجوم،وأعتبر عودتي تمرين جديد لاستعادة القدرة والسيطرة على الفرشاة.نوافذي التي أرسمها غالبا ما تكون مفتوحة نحو أفق بعيد هو بالذات مخيلتي عن الوطن الذي انتظرت 35 عام لكي أراه معافا متحررا، ولكن نوافذي تريني عالم من فجيعة، عالم غائم وملتبس، ألوانه كابية قاتمة وأزقته وبيوته المهدمة المتشابكة تنط منها وجوه متعبة ملتاعة ما زالت تجتر عذاباتها وخيباتها.

عباس الدليمي
هواية الرسم دفعته للمحاولة والمحاولة بحد ذاتها تطوير لمشروع يريد الوصول اليه وهذه التجربة تمنحه بعدا خاصا.الجو العام لعمله هو البيئة العراقية ولذا يؤكد في أعماله لغته البصرية،إطلالة البصر عبر النوافذ نحو عالم محتدم يشي باتساع مشهد مأزوم أصلا.وبالرغم من قوله ببعده عن مدرسة فنية بذاتها وكونه لم يكتسب الفن عبر دراسة أكاديمية، فليس من العبث ان نرى الخلط التجريدي المكين في معالجة مواضيعه، حيث تسكن المنائر، وتمر أزقة متنافرة ومتقاطعة، تشطر البيوت التي تكون كتلة المكان الثابتة في الذاكرة، والذي لم يطالها التغيير. وتتركب داخل اللوحة عدة إطارات متحاورة تأخذ من بعضها وتعطي في تركيب تجريدي يفسر الشعور بثقل الزمن والأماكن ورسوخها في ذاكرة متعبة قلقة مأزومة رغم طرافة وحيوية الفنان عباس الدليمي الظاهرة.


ياسين عزيز علي
 
الضربة أو اللمسة الأولى للفرشاة تعني الكثير عند الفنان التشكيلي ياسين عزيز علي، فالمضمون يأتي متدرجا بعدها مباشرة، ويعتقد ياسين أن الفنان العراقي متخم بالمواضيع، يكفيه سماع أخبار وطنه ليثير فيه فكرة لوحة أو قصيدة.واختلاط الألوان أمامه سوف يندفع لاستنباط فكرة اللوحة، وفي هذا أختار ياسين لغة التجريد لتجسيد رؤاه، والتجريد عنده العملية الأكثر قربا لنفسه ومن خلال أبعادها وإيحاءاتها سوف يصل الى غايته في الفكرة وكذلك يساعد المشاهد للملمة شتات اللوحة والتمعن بمدلولاتها.
الألوان بذاتها هي حوار بين الخلفية الثقافية و الأثر النفسي للحدث اليومي حيث تتكون لغة تفاعل بين الرسام ولوحته عندها توضح الثيمة أو المدلول الفني للموضوعة، عندها يشعر ياسين عزيز بقيمة الحوار مع هذا الكائن المستنبط الحي الذي صنعته فرشاته.في هذا يقول الفنان، الشيء الأكيد أني أمازج بين ثقافتين وبيئتين، شرقية وغربية، وأوالفهما عبر تقنيات الرسم، أختار الألوان من موروثي الذاتي، وطبيعة الألوان عندي مثل قصائد الشعر وهي خزين لغة الموروث أزاوجه بالتقنيات الغربية.الكتل اللونية التي أضعها هي حالة حسية ولست في هذا قاصد تصوير مباشر للحدث.الأشكال عندي هي حالات متطورة للحادث المفسر بالألوان.ودائما حالة التكامل معدومة عندي وبالذات في الأفق المترامي والمفتوح للوحة ولكني أستطيع أن أقول أني وصلت لحالة الرضا عما أنتجته.

لا يريد التشكيلي ياسين عزيز أن يضع للوحاته أسماء بعينها فهو يضعها في فضاء مفتوح وعلى المشاهد أن يختار التسمية.عليه أن يتماثل مع اللوحة ويقرر بعد استيعابها أسما لها.وفي هذا يؤكد ياسين بأن هناك لدى البشر أسئلة مفتوحة بلا نهايات.

قرب إحدى لوحاته دفعته كي يطلق تسميته الخاصة عليها.وبعد تردد سماها ( الأم ).الوجه الغائم الملامح يظهر خجولا من وراء كتلة من ألوان كبيرة تلتف بنصف قوس يأخذ سعة اللوحة وكأنه قوس قزح نابض يلتف بحنان واضح على مكنون بعيد. هذه الكتلة الحانية الممتدة من الأعلى نحو الأسفل بثقلها وضخامتها والمنسجمة بألوانها المتواترة الشفيفة سماها ياسين بالأم أو الأرض وهي تجود ذاتها عبر دفء الطيف اللوني لتطوق أو تحتضن صورة ذلك الوجه الغائم، الإنسان أبن تلك الأرض،تحملها بحنو وتحيطها بخوف،شوق، حب وفرح كل ذلك احتمال معلن.

كان المعرض بما وفرته جمعية الفنانين التشكيليين في السويد عبارة عن لوحة تستمد قيمتها من تركيبها اللوني.وكان أيضا خطابا حيويا وجماليا قدمه مبدعون عراقيون ليعلنوا عن أن أناملهم تستمد حيويتها من خلال مسمى وطن تمتد حضارته عبر 7 آلاف عام، وهو من يهدي لتلك العيون والقلوب والأنامل بريق ألوانها