المقاله تحت باب في الموسيقى والغناء في
12/04/2008 06:00 AM GMT
مع صوت ناظم الغزالي وهو يغني: «عيّرتني بالشيب وهو وقار.. ليتها عيّرت بما هو عار» تفجرت ينابيع الحب والجمال في دجلة والفرات وارتفعت مليون شجرة نخيل شامخة في العراق أرض الخير، تردد آهاته وتعزف له أحلى الألحان، ولكن الطبيعة التي عشقت ابنها ومست حنجرته بلمستها السحرية، عرفت أن النبوءة في هذه الأغنية لن تتحقق.. فالمغني لن يشيب أبدا بل ستحتفظ به قمراً يافعا في الليالي العربية التي تزينها الأقمار ترى هل كان ناظم يعرف وهو يلعب طفلا في أزقة بغداد وبيوتها، التي ولد في أحد أحيائها عام 1921، أن الجسد النحيل لن يحتمل كثيرا حجم الإحساس والمشاعر والطموحات التي يحملها داخله، حتى اصطدامه لأول مرة بحقيقة الموت عندما فقد والدته وهو طفل دون السابعة، حقيقة حفرت آثارا عميقة على التركيبة النفسية في الكبر، أبرز معالمها الانطواء، الهدوء الشديد واختزان المشاعر، بل انعكست أيضا على قصة الحب الوحيدة التي عاشها فيما بعد. الغناء لصورتها سأل المقربون «ناظم» وهو نجم كبير في عالم الطرب، عما إذا كان يغني لشخص محدد وهو بين الجمهور والأضواء والتصفيق، فرد: «نعم صورة باهتة الملامح لسيدة جميلة في مقتبل العمر تحتضنني وتدندن أرق النغمات، ما إن ابدأ في الغناء حتى أغمض عيني لأرى دائما صورة أمي التي ما غابت يوما عن خيالي». التمثيل كان أقصى أحلام «ناظم» دون أن يخطر الغناء على باله مطلقا، لذا توجه من دون تردد بعد المرحلة المدرسية لدراسة التمثيل ملتحقا بقسم المسرح في معهد الفنون الجميلة، كانت اللحظة الفاصلة في حياة ناظم الغزالي عندما اكتشف أنه ضل الطريق في اختياره دراسة التمثيل، فموهبة الصوت الساحر لم تكتف بمجرد الإعلان عن نفسها.. لكنها انطلقت مدوية تملأ سماء بغداد، أرض السلام، ازداد إصرار ناظم على دراسة فن قراءة المقام. دراسة دؤوبة لم يكتف الغزالي بالمقامات السهلة التي لقنها له «القبنجي»، فبدأ بمضاعفة جهده إلى درجة أنه لم يكن ينام سوى ثلاث أو أربع ساعات كل يوم، واستمر يعمل ليلا ونهارا على دراسة فن قراءة المقامات السهلة والصعبة، وهذا ما لم يرض أستاذه «القبنجي». في العام 1953 في إحدى أجمل ليالي بغداد الربيعية،ليلة اكتمل فيها القمر بدرا يبارك المدينة العريقة بسلاسل الفضة، واهتزت أشجار النخيل تتمايل طربا مع النسمات العطرة، وتزينت السماء بكل نجومها استعدادا لقصة حب لم تكتب بعد سطورها في كتاب التاريخ.. قبل دقائق على بدء حفل سيحييه ناظم الغزالي دخلت «الأميرة».. أو «سليمة باشا» كما كان يلقبها العراقيون. سليمة مراد مطربة العراق الأولى ونجمته الأكثر شهرة من أصل يهودي، لكنها أشهرت إسلامها بعد زواجها من ناظم، منحتها الجماهير لقب «باشا» وتوجوها أميرة على قلوبهم. المجتمعات الارستقراطية تبارت إلى دعوة «سليمة باشا» فالزفاف أو المناسبة السعيدة لا تكتمل إلا بوجودها، وتنافس الأثرياء في لصق أعلى فئات الدنانير على ثوبها تعبيرا عن إعجابهم بغنائها. ناظم عشق صوت سليمة مراد عن بعد.. احتفظ بكل أغانيها على اسطوانات حققت أعلى المبيعات في العراق، ليلتها.. أعد ناظم كلمات الترحيب اللائقة بها، دون أن يجرؤ على التفكير في التعبير عن إعجابه الشخصي بصوتها.. الشاب الخجول كان مختلفا عمن هم في عمره، هدأت الضجة التي واكبت دخول «سليمة مراد» وبدأت الموسيقى تعزف استعدادا لغناء ناظم الذي وجد نفسه لأول مرة وجها لوجه أمام أسطورة الغناء العراقي.. والتقت العيون في نظرة تمنى لو امتدت دهرا.. عرف أنه على موعد ليلتها مع صاعقة الحب.. استعادة الأم غناء المطرب الشاب لم يكن أبدا كباقي الليالي، فقد علا صوت القلب متجاوزا صوته وهو يغني لها وحدها «قل لي ياحلو منين الله جابك» لحظتها.. توقف الزمن في عمر سليمة مراد.. ألغت نظرات الشاب الخجول كل السنين والتجارب والخبرة كسيدة في متوسط العمر، فوجئت بقلبها يعزف لحنا غريبا عنها.. تسمعه فتاة مراهقة ذاهبة إلى موعدها الغرامي الأول!! انتقل قلبها مستقرا على أطراف أصابعها عندما مدت كفها الرقيق تهنئ ناظم قائلة تعبيرا عن إعجابها بصوته: «أنت الأمل الجديد في الغناء العراقي» احتوتها ابتسامته العذبة، فلم تعرف كيف ومتى اتفقا على موعد لقاء آخر. رشف الحبيبان قطرات الحب والشهرة.. فنياً قدمت سليمة مراد الصوت الجديد ناظم الغزالي في كل الحفلات الكبيرة التي اشتركت فيها، بدأ نجم المطرب المغمور يسطع محققا شهرة واسعة بين المجتمعات الارستقراطية وهي الأوساط التي تواجدت فيها سليمة دائما، كنجمة وسيدة مجتمع معروفة. وبدأ ينطلق نغمة جديدة نقلت الأداء واللحن والكلمات إلى مناطق لم تطرقها من قبل الأغنية العراقية وهو يردد: طالعة من بيت أبوها رايحة بيت الجيران، فات ما سلم عليّا يمكن الحلو زعلان. سألت مرة الفنان العراقي يوسف العاني وقد اقترب من ناظم في مرحلة مبكرة، ونمت صداقة عميقة بينهما استمرت حتى آخر يوم في حياة ناظم عن التغيير الذي طرأ على شخصية ناظم بعد النجومية ومدى تأثيرها عليه.. قال: «رحمه الله كان محصنا من كل سلبيات النجومية.. حتى طقوسه وشروطه للغناء كانت على بساطتها تعكس احتراما شديدا لفنه.. سألته ذات يوم عنها فأكد لي أنه يستمد حالة الانسجام أو «السلطنة» من جمهور «السميعة» الذي يقدر ويستمتع بالطرب الأصيل. باقي الطقوس التي يحرص عليها تقتصر على شرب فنجان من «البابونج» الساخن قبل الغناء مباشرة. أثناء بروفة عرض «الجميلة قد أتت» الذي قدم على المسرح الكبير للأوبرا وأخرجه ووضع موسيقاه العازف العراقي المبدع نصير شمه.. ضبطته يرتجل على العود «فوق النخل فوق» رد على سؤالي حول سر صوت ناظم الغزالي «ما لا يعرفه الكثيرون إذا تناولنا عبقرية هذا الصوت من باب التقييم الدقيق للمواصفات العلمية التي أعطت صوت ناظم بريقا خاصا وقوعه بين منطقتي التينور والسوبرانو، مما أعطاه خاصية مميزة عن باقي قراء المقام العراقي، زعم البعض وجود نقص في صوت ناظم وهي أقاويل بعيدة تماما عن أي تحليل علمي دقيق، كما أن هذه المزاعم لا تقلل من شأن الميزة الخاصة لوقوع صوت ناظم بين منطقتي التينور والسوبرانو». حفاوة عربية يوم 21 أكتوبر 1963 أنهى ناظم الغزالي جولة فنية تضمنت عدة بلاد عربية كانت المحطة الأخيرة في هذه الجولة بيروت، لقيت حفلاته في مختلف العواصم نجاحا باهرا، كما استقبلته الجماهير العربية بحفاوة وإعجاب لم يحظ بها سوى أكبر نجوم الطرب العربي.. لكن الطبيعة أرادت له الخلود عندما بلغ الثانية والأربعين من عمره.. قامت لتنشر عطر صوته من غابات الموصل في الشمال إلى أشجار النخيل في البصرة جنوبا.. من خلال مجموعة أغاني محددة قدمها خلال رحلته الفنية القصيرة وهي: أحلى الأغاني، قول واتمنى عليا، هلا هلا هيا، أقول وقد ناحت، قوللي يا حلو، على أريج الورود، فوق النخل، عيّرتني بالشيب، حيّاك بابا حياك، له خال، خايف عليها، أم العيون السود، يا أخ شوف، راهب الليالي، أي شيء في العيد، سمراء من قوم عيسى، طالعة من بيت أبوها، مروا عليا الحلوين، يا من لعبت بي، دعني من مواعيدك.العروسة العربية. علامات الإرهاق والتعب بدت واضحة على ناظم خلال رحلة العودة من بيروت، وقد سبق زوجته في سيارة مع العازف العراقي سالم حسين.. بعد أن وصل ناظم إلى بيته، وأدخل حقائبه، وخلع ملابس السفر، ليبدأ حلاقة ذقنه داخل الحمام.. توقف القلب الأخضر الطيب.. احتضنت «عشتار» ولدها البار مواسية وهى تردد: «لا تحزن.. صوتك سيكتب له الخلود.. سيبقى عبر الأزمان فصلا من حضارة ما بين النهرين». أما الزوجة التي وصلت بعد مضي دقائق على وفاة ناظم.. فقد فضلت الانزواء بعيدا عن المجتمع.. اختارت العيش مع أحزانها في هدوء شديد.. ونبل أشد لم تسمح سوى لعدد محدود من أصدقاء زوجها الراحل المقربين بزيارتها. عاشت الباقي من سنين عمرها داخل جدران المنزل الذي شهد فصول قصة حبها الكبير.. عاشت على ذكريات ضحكاتهما وغنائهما.. على كل لحظة حب صادقة فضلتها سليمة مراد على كنوز الدنيا كلها. شائعات النهاية صدمة الموت كانت أكبر من تحمل معجبي الغزالي، ما فتح مجالا ضيقا لبعض الشائعات، وإن لم تكتسب أي مصداقية بين الناس، توجه الاتهام إلى أطراف بقتل ناظم عن طريق دس السم له بسبب أغنية تقول كلماتها: سمراء من قوم عيسى/ من أباح لها قتل امرئ مسلم/ قاسى بها ولها/ أردت بيعتها/ أشكو القتيل لها/ رأيتها تضرب الناقوس/ قلت لها من علم الخود ضرباً بالنواقيس/ ناديتها يا مها الله يلهمك وصلي/ كفي النوى إني متيمك/ قالت بلى إن الوجد يؤلمك/ وقلت للنفس أي الضرب يؤلمك/ ضرب النواقيس أم ضرب النوى قيسي؟! لكن أكثر هذه المزاعم عبثية تلك التي حاولت مس زوجته المحبة! لكن شهادة سالم حسين بأن المنزل كان خاليا عندما رافق ناظم حتى دخوله من الباب، بالتالي لم يكن هناك أحد ليدس له السم كما زعم.. هذه الشهادة قضت على كل الشائعات.
|