المقاله تحت باب معارض تشكيلية في
10/03/2008 06:00 AM GMT
يشتغل جبر علوان في منطقة إيمائية غالباً، تكتفي بالإشارة والإيحاء والرنين على حساب التشخيص الصريح. في لوحة هذا الملوّن العراقي المقيم في روما، تختفي التفاصيل الدقيقة لشخوصه، وإذا باللون يهيمن على السطح ليشكّل مناخاً صاخباً يلغي ما عداه. لكن نظرة متأنية إلى جدارياته ستعيد الكتلة إلى مكانها وحجمها في نسيج اللوحة. في معرضه المقام حالياً في غاليري «آرت هاوس» في دمشق (حتى14 آذار/ مارس) الحالي، يذهب جبر علوان (1948) أبعد في مغامرته التشكيليّة، وينشئ مقامات لونية جريئة، وخصوصاً أن معظم لوحات المعرض هي مقاربات نغمية لحالات من النشوة والانخطاف. فهو لا يتوانى عن وضع شخوصه في أقصى انفعالاتها سواء لجهة الفرح المطلق، أو لجهة الوحدة والعزلة. نساء جبر علوان مسربلات بالحزن والشهوة كأنهن في لحظة الانعتاق وسط حمّى الموسيقى والرقص يسترجعن ذاكرة مثقلة بالألم، فينعكس حزن شفيف على الملامح وإيقاع الجسد. ليس جبر تعبيرياً خالصاً كما أنه ليس تشخيصياً محضاً، بل يقيم في منطقة ملتبسة هي مزيج من ذاكرة شخصية وتهويمات واشتهاءات متراكمة تتجلى في ألوانه الحارة بتدرّجاتها العنيفة. هكذا، يزاوج بين صوفية مضمرة وحسية شهوانية معلنة، تشتبك في ساحاتها عناصر مختلفة، قابلة لتأويلات لا تحصى، لعلها في أحد وجوهها ترجيع لانكسار وشجن وغياب اليقين. تكرار الأحمر تأكيد لهذه الشهوة المزدوجة، شهوة المرأة المستلقية في سرير وحدتها أو التي تقف وراء ستارة نافذة، وشهوة الفنان نفسه في التقاط الثمرة المحرّمة وراء جدران العزلة والغياب. لكن المسافة الفاصلة بين اللحظتين ستظل مبهمة وناقصة، كأن جبر علوان في ذروة نشوته اللونية ينأى جانباً عن مواجهة الإجابة الحاسمة لجوهر العمل، فيتكشّف سطح اللوحة عن سؤال لا يكتمل، وبهذا السّر ربما تتجلى هوية هذا التشكيلي لجهة الإبهام أو الوضوح، وخصوصاً حين تتداخل الموسيقى بالشعر وباللون في تعاضد عضوي ووجودي حاسم. تتمحور معظم لوحات المعرض حول الموسيقى والموسيقيين، وتكاد صرخة «امرأة السكسفون» تتفجّر في المكان. اللوحة المستوحاة من عمل مسرحي مشترك مع جواد الأسدي ومقتبس عن «بيت برناردا البا» للشاعر الإسباني (الأندلسي؟) لوركا، تكاد تنطق بفجيعة الألم والفراق، كما تتكشّف عن عمق درامي وتراجيدي عميق، لكن في لحظة مباغتة سينبثق ضوء مبهر للنشوة القصوى والمشهدية المسرحية العالية. في أعمال أخرى، ترتفع أنغام الكمان والبيانو في نداءات بعيدة لأجساد متحفزة ومتفجرة بنشوة الرقص والانخطاف. هكذا حين ننصت بإمعان إلى أنغام البيانو سننسى العازف نفسه وهو يدير ظهره منكباً على أصابع البيانو ومتوحّداً مع أشواقه الصافية. بتجوال قليل في مسرح اللوحة، سيجد المتلقي أسباب التزاوج المثير بين الألم والنشوة وتفجرات الرغبة، فالألوان تنوس بين الحلم واليقظة. حتى إن الأبيض المستعاد في بعض اللوحات يكاد يكون حلماً أو رؤيا في عالم يطفح بالرغبة والنزوات الغامضة والمسرّات المباغتة. لا تفاصيل لوجوه وبورتريهات جبر، ذلك أنّها تغيب في السرد اللوني الحار وتتماهى في الكتلة والفراغ، من طريق ضربات لونية شرسة ومأسوية، هي في المآل الأخير تكثيف لانفعال آني سيقود شخوص اللوحات إلى جحيم ما، في التأويل والحذف والحدس. أشكال متطاولة تكاد تطير شوقاً كي تبوح بما يعتمل في الداخل، فجبر علوان يبدو كما لو أنه ليس معنياً بالخارج بل يغوص إلى داخليات شخوصه ويفحص ذواتها ليسعى من دون هوادة إلى فضح أشواقها وعذاباتها ورغباتها. لكنه من جهة أخرى، يعود إلى ترميم دمار الداخل بألوان متفجرة تستكمل مسار الغربة والقلق الذي يعتمل في الداخل. يقتحم جبر علوان القماشة البيضاء من دون أفكار جاهزة ومسبّقة، فهو يعلم أنّ الأحمر والأخضر والأسود ألوانه المفضّلة ستتمازج بعد قليل وستقوده إلى جحيم شخوصه بلا ريب. هكذا تتجاور لونياً شمس بابل الساطعة وغيوم المتوسط على قماشة واحدة واحتمالات لانهائية تتكرر على شكل نساء بفساتين تكاد تطير من النشوة والشوق في منجم لوني آسر وذاكرة حسية مشرّعة على رؤى جمالية جديدة ومباغتة. هذا المنجم الذي وصفه عبد الرحمن منيف بقوله «ينبض على السطح، مثل انفجار بركاني، ينبع من فوهة سرية كخلاصة للذاكرة والرغبة التي تحمل غنى جذوره الشرقية».
|