المقاله تحت باب مقالات فنيه في
01/03/2008 06:00 AM GMT
بعد غياب نازك الملائكة وشاكر حسن آل سعيد ونزيهة سليم في ازمنة متلاحقة يكاد تاريخ الاحداث من معنى حركته ان يطوي الصفحة الاخيرة من فصل سيرة رواد الامل في الحياة العراقية المعاصرة . فدأب الزمان ان يقصي ويمحي ودأب هذا المكان ( ما بين النهرين) ان يتطلع وينشئ ويبني حالما اتيحت له اللحظة الانسانية الملائمة,
وهكذا ينبعث كل مرة التوق للامل , للمعنى وللحضارة بحماسة ثم ينطفئ بالوتيرة ذاتها. ليس تطيرا او تأسيا او حتى رثاء لما يقترحه الموقف ازاء رحيل الفنانة التشكيلية العراقية نزيهة سليم عن 81 عاما بعد حال الوحشة والكآبة والاهمال الذي عاشته في سنواتها العشر الاخيرة فعزاؤنا يكمن في قامتها و حيوية تجربتها داخل نسق حركة الفن التشكيلي في العراق,
هذه الحركة التي شكلت الفنانة طيفا فعالا من اطيافها منذ اللبنات الاولى لبنائها سواء بما انجزته وراكمته تشكيليا او من خلال حضورها في التجمعات الفنية مثل (جماعة بغداد للفن الحديث) وغيرها او من تأسيسها لكيانات فنية كمثل (جمعية الفنون البصرية المعاصرة ) اضافة الى دورها التربوي كاستاذة لتدريس الفن في معهد الفنون الجميلة ثم لاحقا في اكاديمية الفنون الجميلة ما جعلها اسما متفردا في فضاء حركة الفن الحديث في العراق بامتياز.
ولدت الفنانة عام 1927 في حاضنة للفن والفنانين فوالدها محمد سليم , الذي عمل في الجيش العثماني استطاع اثناء وجوده في اسطنبول الاطلاع على الفنون هناك وتنمية معارفه وثقافته و قابليته الفنية من خلال ما وفرته له المدينة من مصادر, وهو من اوائل الذين ساهموا في بنية الحركة الفنية التشكيلية في العراق و كان له الدور الكبير في اول جمعية للفن وهي (جمعية اصدقاء الفن) التي تشكلت بمبادرة من الفنان اكرم شكري وعطا صبري وغيرهما وضمت الى جانب الرسامين مثقفين من اختصاصات اخرى وحتى محبي الفن وانشغل فنانوها برسم المناظر الطبيعية والبورتريهات, وهو ايضا استاذها ومربيها الاول .
وهي اخت سعاد و جواد ونزار سليم الذين اسسوا مع فنانين اخرين مدرسة بغداد للفن الحديث . تأثرت باخيها جواد سليم وبطريقة رسمه وتناوله للمواضيع التي استمدها من الحياة اليومية العراقية ومن الموروث والرموز الاسلامية الا انها بلورت ملامح خاصة لاسلوبها هي اقرب الى الواقعية ان من حيث اقتراحها للشكل او المعالجة اللونية واستلهام الموضوع . ولعل طبيعة تركيبة عائلتها اتاحت لها مساحة وافرة من الاستقلالية التي ساعدتها مبكرا على الارتقاء بفنها الى مصاف رفيعة و عبرت الفنانة بتمثلها لحريتها آنذاك عن ملامح توق المرأة العراقية للتحرر حيث كانت من طلائع الفنانات اللواتي ساهمن في الحركة التشكيلية التي بدأت تزهر في بداية الاربعينات والخمسينات ( ولعلنا لا ننسنى ان نذكر بهذه المناسبة مجايلتها الفنانة مديحة عمر التي تعود لها ريادة ادخال الخط العربي والتنظير له في اللوحة اذ رسمت اول لوحة حروفية كما هو معروف عام 1946) ..ومثلما اشرنا الى ان مناخ بيئتها الثقافية ساهم في تقديمها مبكرا للساحة التشكيلية بجدية فقد ظلت تجربة نزيهة سليم الفنية متأثرة بظلال ضاغطة لفن جواد سليم حتى ان اسمها كثيرا ما كان يقترن باسم اخيها وتعقد المقاربات بينهما بما يثير الالتباس والشك بفرادتها الابداعية.
في مطلع الاربعينات انتدبت في بعثة دراسية الى فرنسا وكانت اول امرأة عراقية تسافر الى اوروبا لدراسة الفن وتتلمذت في البوزار على يد الفنان البارز في تاريخ الفن التشكيلي فرنارد ليجيه وتأثرت به وحاولت محاكاة اسلوبه الفني وعادت الى بغداد في الخمسينات لتدرس الفن في اكاديمية الفنون الجميلة . يمكن القول ان الفنانة نشأت ابان ازدهار النهضة الفنية الحديثة في العراق حيث تشكلت الجماعات الفنية التي نهل مؤسسوها من معين التجارب والاساليب الفنية الناشطة في اوروبا اضافة الى جملة التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي اذنت بالحاجة ووفرت الشرط الملائم لظهور حركة تشكيلية ناشطة نوعا وكما فكان تشكل( جماعة الرواد )عام 1950التي اسس لها الفنان الكبير فائق حسن مع مجموعة من الفنانين كانوا خليطا من توجهات فنية مختلفة منهم من الانطباعيين والواقعيين وغيرهم , هذه الجماعة التي وسعت دائرة حركتها من داخل المحترف الفردي الى الخارج حيث الطبيعة ورسم المنظر الطبيعي والسفر الى الضواحي والقرى ونقلت الجماعة فكرة الرسم من صيغته الفردية الى الجماعية وقد امتدت الفنانة نزيهة بالمشروع مشجعة طلابها لاحقا على البحث عن المناخ الفني المثير للالهام في خارج المحترف. ثم اسس مجموعة من الفنانين والمثقفين ( جماعة بغداد للفن الحديث )عام 1951 بدعوة من جواد سليم وانضم اليه الفنانون محمد غني حكمت وشاكر حسن آل سعيد ونزيهة سليم وغيرهم حيث دعت الجماعة الى انشاء حركة تشكيلية عراقية خالصة نابعة من تراثه و تستمد اصولها من( حضارة العصر الراهن بما تمخضت عنه من اساليب ومذاهب في الفن التشكيلي ومن طابع الحضارة الشرقية الفذ ) وكانت استجابة الفنانة للانتماء الى هذه الجماعات تعبيرا عن حضورها الحيوي في المساحة التشكيلية العراقية وعن طبيعة موقفها في الفن .
عادة ما يكون الموضوع ونعني به ايضا (فكرة رسم اللوحة) هو منطلق الفنان للمباشرة بالرسم او حجته في اثارة العملية الابداعية . وسواء ا كان الموضوع واجهة معمارية او صورة من ازقة بغداد او المدن العراقية الاخرى او كان مشهدا داخليا من الحياة اليومية او كل ما يعنى بحال المرأة العراقية واحتفائها بطقوسها وعاداتها وهو الموضوع الذي تناولته الفنانة بالمعالجة والاستلهام على مسار تجربتها التشكيلية نقول رغم صدق عاطفتها في تناولها لمثل هذه المواضيع الاثيرة لديها وانغمارها باجوائها ومناخاتها الواقعية والشعبية بتفاصيلها الا اننا نلحظ لديها دائما عاطفة المبدع حين تشتغل الادوات والخامات وحتى الموضوع سوية لتحقق معا لعبة الرسم..ان الانطباع الذي تتركه اعمال الفنانة على العين هو احتفاء يدها بمواد الفن وما تجسده من خطوط ومساحات وتكوينات حيث تبقى ( واقعة تجربة الرسم) قيمة اساسية للعمل الابداعي لديها اما الموضوع كما اشرنا فهو الحجة للشروع بالعمل , فحبها الكبير والاوضح هو لفعل الرسم والابداع ما يجعل اعمالها من هذا المعنى لاحقا مستقرة بالعين الفاحصة والمختصة. من هذا الخلال تبقى وحدة العمل الابداعي لديها مبررة بصريا اولا ثم تلتحق بها تبعات الموضوع وما يبوح به من رغائب اجتماعية او سيكولوجية او سياسية و من تداعيات مضاعفاتها ( وقت كان الفنان العراقي مضطرا انذاك او في ذلك التاريخ لوضع اعتبار او اهمية لمثل هذه الشواغل بقصد مد الجسور والصلات مع الجمهور) اي ان تجربة الفنانة نزيهة سليم رغم معاناتها وصعوبة تبلورها مبكرا كادت ان تستوعب ما هو اجتماعي او تربوي او سيكولوجي وان تعيد انتاجه ابداعيا . وهكذا تعلمنا الفنانة ان العناوين والمواضيع الكبيرة والجادة والدراماتيكية و الملتزمة ليست باكثر اهمية من المواضيع اليومية البسيطة العابرة اذ تتقدم طريقة تناولها تشكيليا من خلال ادواتها ( ادوات الرسم) على الموضوع من معنى ان الوفاء هو اولا للفن والصلة الحميمة معه كما نلمح هذا في الارث التشكيلي الانساني , وحتى تلك الاعمال وما كان مستلا منها من هم فلكلوري او ما هو مكرس له يبقى كانشغال وقلق في الذاكرة الجمعية العراقية احتفاء بالواقع او هو توق لامل ما.
تميزت اعمال الفنانة نزيهة سليم بطابع خاص فهي من اوئل من رسم من موديل حي و شكلت المرأة العراقية لديها بتفاصيلها اليومية والمنزلية وتكويناتها المختلفة هاجسا وموضوعا اساسيا حيث رسمتها في مناسباتها الاحتفالية والاجتماعية, العمل, الفلاحات وبائعات اللبن والجلسات الخاصة, الاعراس ,العاملات ,و الحفافات الى اخر ما يخص همومها واحزانها وافراحها متماهية مع الشرط الاجتماعي والزماني ومحافظة عليه وباسلوب فيه الكثير من التلقائية والارتجال والتبسيط وقد تكون بذلك مستفيدة من طريقة رسم الاطفال وربما لدراستها التخصصية برسوم كتب ومسرح الاطفال في المانيا الدور المؤثر في معالجتها للوحة بطابع الليونة في الخط والتبسيط في المفردات و الاشكال.
استوحت التراث واستلهمت مفردات فنها من معطيات الفنون الانسانية لارث وادي الرافدين وكانت مهتمة بالاضافة الى الجانب الاجتماعي من الحياة العراقية برسم المدينة والقرية بمعالمها وتفاصيلها المختلفة و بنيانها الهندسي اذ شكلت معطيات البيئة ومفرداتها منطلقا اساسيا لاعمالها وطريقة تفكيرها ومن هنا بامكاننا القول بان الفنانة نزيهة سليم كانت وفية بمعنى ما لمبادئ جماعة بغداد للفن الحديث التي امتازت اضافة الى انجازاتها الفنية بالاجتهاد التنظيري والبيانات والدراسات و نقرأ في بيان الجماعة الثاني الذي كتب نصه المختزل عن البيان الاول الراحل جبرا ابراهيم جبرا (تتألف جماعة بغداد للفن الحديث من رسامين ونحاتين لكل اسلوبه المعين , ولكنهم يتفقون في استلهام الجو العراقي لتنمية هذا الاسلوب . فهم يريدون تصوير حياة الناس في شكل جديد يحدده ادراكهم وملاحظتهم لحياة هذا البلد الذي ازدهرت فيه حضارات كثيرة واندثرت ثم ازدهرت من جديد . انهم لا يغفلون عن ارتباطهم الفكري والاسلوبي بالتطور الفني السائد في العالم, ولكنهم في الوقت نفسه يبغون خلق اشكال تضفي على الفن العراقي طابعا خاصا وشخصية مميزة ) . واكبت الفنانة التحولات العالمية والتبدلات التي طرأت على الموقف من الفن والتطلع اليه وتابعت المستجدات الفنية والفكرية التي سادت العالم وتأثرت بها ومازجت في عملها بين اساليب المدارس الفنية الاوروبية وما كان سائدا على الساحة التشكيلية العراقية من رؤى وافكار لتشكل بالتالي تصورها و افكارها الخاصة التي عبرت عنها بتكويناتها الفنية واسلوبها في الرسم الذي تراوح ما بين مقاربة ما هو واقعي و تعبيري وتجريدي حينا . ولا نرمي من هذا القول بان الفنانة تنتمي او تصطف في مدرسة تشكيلية محددة كالتعبيرية مثلا رغم استعارتها لطرائق فناني هذه المدرسة من استخدام الخطوط في تحديد الاشكال وتلقائية توزيع الالوان والحفاظ وهو الاهم على حيوية البناء الاول للعمل , فقد ظلت الفنانة نزيهة سليم رغم استعاراتها المتنوعة مخلصة لاساسيات توجهات جماعة بغداد للفن الحديث .
خلال مسيرتها الفنية الطويلة المتعاقبة و الحافلة بالانجازات شاركت الفنانة في الكثير من المعارض في العراق وخارجه و في معظم معارض جماعة بغداد للفن الحديث . ومن سوء حظ الفن والانسان العراقي الباحث والمتابع للفن ان تراث هذه الفنانة الغزير على مدى عمرها الفني المديد لا يمكن الوقوف عليه كاملا فقد تعرض بعد الاحداث المؤلمة الاخيرة التي عصفت بالعراق للسرقة والتلف والضياع والتخريب حتى قبل ان يدقق ويوثق كاملا وما بقي منه كما تأتي به الاخبار لا يتجاوز ىست لوحات .....
|