المقروءُ كيانٌ يعرض تفاصيلَ تشكّله بينما القراءةُ نشاطٌ فاعل يسبر جغرافية الفحوى ويمسك بتلابيب الشيفرات ، خروجاً بحصيلة أقرب إلي حيازة النتائج المرتجاة .
القراءة تتغلغل في المرئي بحثاً عن اللا مرئي . تجوب الدروب وتتسلل إلي التخوم لتتحري العلاقات الداخلية ادراكاً لسرِّ التشكل وترجمة المستويات .
ولا يقتصر النص التشكيلي علي كونه انجاز فني معلّق علي جدار فقط ، ولا مقتطع ذوقي احتواه حائط لا غير ، إنما يتجسّد حياةً نموذجية كينونة مصغرة تزخر بالتفاعل والحركة الدائبة / وجود لا يعرف الصمت ولا يستكين للمحيط .
لا تأتي القراءة في النص التشكيلي منطوقة بل بصرية تعتمد العين الراصدة استعاضةً عن الفم - العرض الشفاهي - والقراءة المعاصرة تُقر أنَّ اللوحة لم تعُد نصاً بسيطاً يعتمد الصورة المعروضة بكلاسيكية أو مثالية يسيرة من خلال الملامح البارزة التي تعرضها سحنات الوجوه ، وطبيعة الملابس ، والخلفية ( الباك راوند ) المؤثثة لفضاء النص ؛ إنّما تعقّدت وتداخلت رؤى الفنان المنجز فتغيرت نظرته للمحيط الذي يخطو علي أديمه وتفاوتت تطلعاته . من هنا صارت قراءة النص التشكيلي تتطلب سعة معرفية وارث فني وأدبي وسايكلوجي ، وتتبه سوسيولوجي بنظرات متفحصة ودراسة ذكية لا تقرأ النص من ظاهره . تحتَّم علي القارىء المؤول / المناطة به وظيفة التقديم " كشف ما تحت سطح النص والحفر فيه حتي تتكشف بنياته العميقة وتنتج دلالاته الغائبة "
(1) . لهذا أضحي الوقوف إزاء النص لا يعتمد المتعة واشباع الذائقة ورغبة التلقي فقط ، وإنما التحرّي والبحث عن المفاتيح الآيلة إلي ادراك ماهية انسان اليوم : كيف يفكر / وكيف ينظر ، وكيف يواجه تعقيدات ما كان انسان الامس يعيرها مسافة أطول من البال اعتماداً علي نظرة ميتافيزيقية تولي للغيب مهمّة التعامل معها . أي أنَّ مهمّة القراءة تجاوزت التلقي إلي السبر والتأويل.
العرض علي جسد النص
إنَّ الدخول إلي رحاب النص يعني الولوج إلي بواطن ذات انتجت وقبلاً تطلّعت فوقفت تترجم حيثيات موقفٍ وتداخلت في ثنايا موضوع .. ذاتٌ تجهد لتعبّر ، وتستلهم لتقول ( هل تستكمل القول إن هي عرضت ؟ .. وهل المعروض ما اعتمل في دروب لواعج الذات بحيث يدعي الباث أنَّ ما يقدمه هو ما أراد تقديمه ؟ ) .
أزعم أنَّ عارض النص لا يكتفي بتقديم خطابه داعياً المتلقي ليكون حيادياً ؛ يقف ليشاهد / ينظر ليتمتع . بل يجبره - بحكم انتفاء المصاحبة والسير بهدف اكتشاف المخبوء ووضع اليد علي مفاصلالنص الخفية . ولقد تولّي السؤرياليون وظائف النقّاد بقراءة افكارهم واخراجها إلي الظهور معروضةً في جسد النص ، مستفيدين من موجة " تيار الوعي " في علم النفس ليضعوا بيد النقاد والمتلقين قراءات تتطلب قراءات أخري . أي قراءة تولد من قراءة ، وقراءة تؤول إلي قراءة .
وتكمن قراءة النص التشكيلي وتأويل مفرداته وبناه في البحث عن الاسئلة المبثوثة بصيغة شفرات حيث الباث يروم من خلال رسائله البصرية طرح أسئلة بعضها أزلية تهافتت مع تقادمات النضج البشري وارتفاع مناسيب وعيه ، وبعض آخر آنيّة تنبثق لحظة السير المتسارع لعجلة الحضارة التي لا تترك محطة أو محطات لالتقاط الانفاس .. وهنا تكمن الحساسية المفرطة لصانع الخطاب التشكيلي في التعامل مع الاشياء , وهنا أيضاً توسعت دائرة الاغراض والرسائل المبثوثة وصار لكلِّ باثٍّ رؤي وجملة أسئلة مأزومة تبحث عن ردود ومبررات ، وحلول , ومع هذا الكم الوفير من هاتيك الرؤي والاسئلة تحتمت علي متلقي الخطاب قارئاً متذوّقاً أو باحثاً مؤوِّلاً استنباط واستيلاد اجابات لأزمة الفرد .
الفنان يواجه الامحاء
إننا إذاً إزاء واقع يشهد تحولات برقية هائلة وخاطفة تستدعي المواكبة والتصوير والتحليل بغية ادراك مقدرة الماهية علي استيعاب المحيط . إنَّ العقد الأخير من القرن العشرين وأعتاب القرن الواحد والعشرين أوجدا واقعاً حاسماً يصوّر هوّة كبيرة بين التسارع العلمي المتمثل بالصناعة الحيثية والاختراع اللاهث ، وبين العلاقات والبحوث الانسانية االمتجسدّة بالعاطفة والشعور وحركة التاريخ ، وطبيعة الفلسفة ، وسرد الوجود ، والبحث عن المستحيل والمصير الأمثل لسكان هذه الكينونة الصغيرة / الضئيلة المسماة أرضاً : علاقاتها وتعالقاتها بالكون الاثيري الأوسع ..
هكذا يقف الفنان الباث بمواجهة عجلة امحاء الذات لا ليعبّر عن ذاته فحسب بل عن ذوات الآخرين . ذات البشرية المحمومة بقوانين حدّية لا يمكن تجاوزها . فذاته هي الذات الجمعية المتسائلة / الباحثة باستمرار / إذ " ليس للانسان أية أرض داخلية مستقلة ، إنه علي الدوام موجود علي الحاشية ، علي الحدود الفاصلة ، فهو حين ينظر إلي نفسه ينظر في عيني الآخر ، أو عبر عيني الآخر " (2) كما يقول ميخائيل باختين . وهكذا يقابله القارىء المتطلّع ليؤول ، مستنفراً طاقة الاحاسيس سعياً للتشخيص وتحركاً للمواكبة وابقاء المعادلة متوازية ومتكافئة وقادرة علي احتضان واستيعاب وامتصاص ذلك القدر المذهل من التسارع الومضي غير المبطيء او المتوقف لحركة الحياة اليومية