المقاله تحت باب في الموسيقى والغناء في
18/11/2007 06:00 AM GMT
كان ( ابو حقي ) يسكن في ذات الزقاق الذي كنا نسكنه في محلة السفينة من الاعظمية ؛ ومماقوى العلاقة بيننا هو اشتراكنا بحب الموسيقى وانجذابنا لسماع بعض الاسطوانات النادرة لكبار الموسقيين آ نذاك وعلى رأسهم امير الكمان سامي الشوا .
وفي ذات يوم شديد البرودة من بداية شتاء عام 1947 اتصل بي ابو حقي ودعاني عصرا الى مشاركته في تناول الشاي ؛ لبيت الدعوة وما هي الا دقائق حتى دخل شاب قصير القامة مجعد الشعر ؛ مبتسم الثغر ؛شديد الحياء ؛ قمنا له مرحبين ؛ فعرفني عليه مضيفنا بقوله ( سلمان شكر : صديقي الموسيقار ) ؛ وحينما صافحته بحرارة ؛ لاحظت بان حبات العرق كانت تتلألأ على جبينه في ذلك الجو القارس . وما هي الا دقائق حتى طلب من احد افراد الاسرة جلب آلة العود التي تركها قرب المدخل .عزف سلمان شكر ؛ واخذته النشوة محاطة باعجابنا الى عوالم ساحرة من المؤلفات الموسيقية الكبيرة لعظماء عازفي العود وعلى رأسهم استاذه الشريف محي الدين حيدر ؛ الذ كان عميدا لمعهد الفنون الجميلة في بغداد ... بعدها ... توطدت العلاقة معه ؛ وتواصلت اللقاءات ؛ في المعهد حيث كان يدرّس ؛ ونادي الكمارك حيث كان يلتقي مساء ا مع بعض الفنانين ك ( رضا علي ؛ ومحمد كريم ؛وعبد الوهاب بلال وعباس جميل وغيرهم .. ) ...كان يصحبني الى الى مجلس هذه الباقة العطرة من كبار الفنانين ؛ الصحفي احسان وهيب مراسل مجلة الكواكب في بغداد ؛ فاستمع اليه في حوارياته مع موسيقيين ومطربين وملحنين ؛ وكان شكر هو الوحيد من بين اقرانه الذي تفرغ للموسيقى وحسب ؛ اذ لم يعرف عنه ابدا ان لحن او عزف لمطرب او مطربة .
في عام 1952 زار بغداد ابن الرقة الاديب السوري الكبير الدكتور عبد السلام العجيلي الذي كنت ارتبط معه بصداقة متينة ؛ فاقمت له مأدبة عشاء في دارنا في شارع عمر بن عبد العزيز ( الاعظمية ) ؛ حضرها لفيف من الادباء والصحفيين والفنانين ؛ وكان الفنان سلمان شكر بالطبع من بينهم ؛ حيث تجلى في تلك الليلة في ابراز احاسيسه على العود ؛ وقد طلب اليه بعض زملائه من الموسيقيين عزف مؤلفته الفلسفية ( وادي الموت ) فعزفها على درجة عالية من التأمل و في اطار من التقنية البعيدة عن الزخرفة ؛ وحينما انتهى منها ؛قام اليه الدكتور العجيلي مصافحا ومهنئا ومعلنا عن انبهاره بهذا العمل الفني الصوفي الاخاذ .بعد ذلك ظلت اللقاءات تترى في مناسبات عدة ؛ لعل من ابرزها ؛ يوم دعاني الفنان حسام الجلبي لمشاركة الادباء والصحفيين والفنانين في الاستماع الى موسيقى ( شهرزاد ) وهي تعزف من قبل الفرقة الموسيقية الموسعة المختلطة التي ضمت اليها ابرع العازفين من المعروفين وذلك في الحديقة الامامية لمعهد الفنون الجميلة في الكسرة ؛... و في فترة الاستراحة التقيت بالفنان شكر مع ثلة من الموسيقيين والممثلين في بهو المعهد لتناول الشاي ؛ سألته عن معزوفة شهرزاد ؛ فقال :
( اولا ان زميلي حسام الجلبي ـ وقد كان احد تلامذته قبل هذا ـ فنان أصيل وبارع ؛ اما شهرزاد فهي عمل فني فيه عذوبة واتقان . ) ؛ ولم تكن هذه الشهادة باحد زملائه جديدة علينا ؛ فلطالما اشاد في كثير من المناسبات بزملائه واصدقائه الخلص ( جميل بشير ؛ و روحي الخماش ؛ وجورج ميشيل ؛ وسالم حسين ؛ وغانم حداد ؛ وجمال سري وفؤاد ميشو وجميل سعيد وحسين قدوري وحسين عبد الله ...) .بل ان اعجابه ببعض الفنانين وتقديره لهم ؛ كان يتعدى العراق الى المحيط العربي والتركي ايضا فقد كان معجبا بمحمد العقاد( عزف القانون الشهير ) والقصبجي وطاطيوس ( عازف الكمان المبدع ) ؛ واذكر ايضا اننا كنا نسهر ذلت مرة في نادي الكمرك على شاطي نهر دجلة في منطقة المربعة ؛ وكان الراديو ينقل من بعيد اغنية للفنان فريد الاطرش فأغتنمتها فرصة وسألته عن رأيه بذلك الفنان الكبير ؛ فقال بايجاز مقصود المعنى ( انااكبر ه على ايمانه وصدقه في موسيقاه الشرقية و براعته الفريدة بالعزف ؛ و اني اعشق له اغنيته ـ أحب من غير أمل ) اما عن الاتراك ؛ فطالما اشاد بالفنانين الصوفيين القديمين سعد هبر ؛وحافظ برهان ؛ وكذلك بالموسيقارين البارعين المجددين مسعود جميل ؛ ونجدت بالو .
كان سلمان شكر قصير النفس عادة في الحديث ولكنه كان طويل التدفق حينما يدور الكلام حول استاذه الجليل الشريف محي الدين حيدر ؛ فهو يلم بمسيرته تفصيلا ؛ يحدثك عن تأريخ حياته كاحد افراد الاسرة الهاشمية عاشق الموسيقى الشرقية والمبدع الاهم فيها ؛ ويحدثك عن مقدرته العجيبة في العزف على البيانو والتشيلو والعود ؛ وكيف انه استطاع ان يشد الانظار والاسماع اليه حينما عزف في انحاء شتى من العالم وبخاصة في امريكا ... الخ بل ان تفانيه في احترام ابداع استاذه كان يدفع به كل مرة لعزف احدى مؤلفات ذلك الاستاذ الجهبذ مثل ( الطفل الراكض ؛ سماعي عشاق ؛ ليت لي جناح.) في احدى حفلات عزفه . ؛ ومن امثلة اخلاصه لابيه الروحي هو سفره عام 1967 خصيصا الى تركيا ليعزي زوجته الفنانة الكبيرة صفية آيلا برحيل ذلك الفنان العظيم . وقد حدثني عن تلك المناسبة بقوله :
( لقد كنت وانا اجلس امام زوجته ؛ طفلا صغيرا ملئت الدموع عينيه ؛ حزنا وحسرة والتياعا ؛ لم استطع مغالبة احاسيسي وانا اجلس بين افراد الاسرة والاصدقاء ؛ وارى كرسي استاذي خاليا منه ؛ لقد بلغ بي الالم حدا ان قفزت الى عوده الموضوع على المكتب ؛ وانكببت عليه الثمه بين دهشة الحاضرين وحزنهم .... ) . كما كان يؤكد لي اكثر من مرة انه كان يحس بان روح ذلك الاستاذ البارع كانت تسيطر عليه في اية بقعة من العالم اتيحت له الفرصة للعزف فيها ؛ ويقول مؤكدا ( بل كأن انفاسه ونظراته كانت تراقبني وتشد على اصابعي وهي تداعب الاوتار .. وكم كان ذلك الاحساس الخفي يمنحني الثقة العالية بالنفس والقدرة على التفوق ..) حينما كنت اتردد على معهد الفنون الجميلة في الكسره ايام دراستي في كلية الحقوق في الخمسينات من القرن الماضي ؛ اتيحت لي اكثر من فرصة للاستماع الى محاضرات الفنان شكر وهو يلقيها على طلابه ؛ لقد كان عالما بحق في موضوعه وفي رده على استفسارات الطلاب ؛ واذكر انه كان يخصص وقتا كافيا لشرح مفردات المصطلحات الموسيقية مثل ( الكونشرتو ؛ الهارموني ؛ السوناتا ؛ الكورال ؛ السويت ... الخ ) و مدى عمق جذورها في معجم الكلمات اللاتينية .
بل كان يزيد على كل ذلك بتدوين بعض المراجع الاساسية العربية في الموسيقى على اللوحة لكي يسجلها الطلاب في دفاترهم ويفيدون منها في المراجعة والبحث ؛ اضافة الى ذلك فقد كان يمنح طلابه توضيحات اشمل حينما يطبق لهم عمليا على آلة العود بعضا مما اراد ابرازه .ولا شك ان تلامذته الكثر والنابهين منهم على وجه التحديد ؛ هم الاجدر في الكشف عن اسرار الابداع والرقي الاخاذ الذي صنعه هذا الفنان في طريقة عزفه المنفرد ؛ او تآليفه ذات العمق الانساني الفلسفي و التي نالت التقدير من لدن علماء الموسيقى الذين عاصروه . ولا شك ايضا ؛ انهم بعملهم الجدي هذا سيكشفون النقاب عن السحر الخلاق الذي بهر به هذا الفنان الاصيل ؛ المتلقين في انحاء شتى من العالم . كان بيت سلمان شكر في حي الجامعة ؛ قريبا من بيتي ؛ ولا يفصلهما سوى الشارع الرئيس ؛ وكان من عادته اذا ما رجع من جولته في احد الاقطار العربية او الاوربية ؛ ان يتصل ل بي ؛ ليمتعني والاخرين من الاكادميين وعشاق الفن الاصيل المجاورين لكلينا ؛ باحاديث شتى عن تدريساته او بحوثه ؛ او حفلاته ؛ ومدى ما احدثته من أثر في الاوساط التي عاش بينها ؛ ومن تلك الرحلات ؛ هي رحلته الى انكلترا في الثمانينات من القرن الماضي حيث احتفي به في جامعة درهام بشكل خاص ؛ وبعض الجامعات والمعاهد الموسيقية التخصصية العليا ؛ ولم يفت سلمان شكر ان يجلب معه مجموعة من البوسترات التي طبعت خصيصا ؛ وباتقان فني رفيع المستوى ؛ لبعض حفلاته الموسيقية ؛ التي نالت تقديرا عاليا من الجمهور او الاساتذة المختصين في الموسيقى هناك . ولمناسبة عودته من رحلته الطويلة تلك فقد؛ اقيم له حفل تكريمي هام في قاعة الفنون التابعة لوزارة الثقافة في الشواكة ؛ حضره حشد كبير من الادباء والباحثين والصحفيين والنقاد والفنانين ؛ تحدث فيه سلمان شكر عن مجهوداته في البحث والاستقراء والاستنباط في عوالم الموسيقى ؛ والصوفية منها بالذات ؛ ثم عزف شيئا بارعا من مؤلفاته ذات العمق الفكري الروحي المتجلي ؛ فسحر الجمهور الذي خيم عليه الصمت والانبهار ؛ وقد طغت اللغة الشعرية الصوفية في لون العطاء الذي عرف به على اجواء القاعة الكبرى مدة تزيد على ما هو معتاد في مثل هذه المناسبات .
لقد منحت هذه الفرصة ؛ كثيرا من المبدعين الباحثين والاصدقاء ؛الفرصة الثمينة للحديث عن ذلك الصوفي الذي سحر بابتهالاته الموسيقية قلوب المئات من عارفي فضله وسمو ابداعه وخلقه الرضي . في ذات مساء من التسعينات ؛ ونحن نجلس في حديقة داري مع ثلة من الاصدقاء الادباء والفنانين المقربين من كلينا ؛ ان دار الحديث حول العبقري صفي الدين الارموي ؛ فما كاد شكر يلتقط الاسم حتى حلق في عوالم واسعة من معرفته بهذا العلم المفكر الشاعر الخطاط الموسيقار البارز ؛ حيث اسهب تفصيلا في تعداد افضاله على الموسيقى متطرقا الى ما اشاد به العلماء والباحثون والمستشرقون البارزون ومنهم فارمر وبارتوك وستانيسلاف ولانجه وجون هاي وود بخاصة فيما يتعلق بابداعاته في صناعة آلتي ( النزهة ) و(المغني ) من سلالتي القانون والعود ووضع قواعد اول نوتة عربية عرفها تاريخ الموسيقى والتي كشفت النقاب عنها مخطوطات الارموي المحفوظة في مكتبة اوبسالا العريقة في السويد .
عنما وصل الحوار في هذا الموضوع الهام الى نهايته سألني ان كان قد طرق سمعي مؤلف جديد عن الارموي ؛فاجبته لدي كتاب من تحقيق الباحث المصري غطاس خشبة لكتاب ( الادوار ) ؛ فسألني ان كان يستطيع استعارته ؛ فأجبته ؛ هو هدية متواضعة لك لاني سأغادر الوطن عما قريب ؛ وما كاد يسمع هذا الخبر المفاجيء حتى احتقن وجهه ودمعت عيناه وراح ينظر في وجهي بصمت وألم دون ان ينطق بحرف واحد ؛ ربت على كتفه وأشرت الى صديقنا الشاعر عبد الجبار المطلبي ان يجلسه الى جنبه ليخخف عنه ما كان فيه ... ثم أستأذنته لجلب الكتاب . واليوم ... كلما استمعت الى بعض مؤلفات الفنان شكرالكبيرة مثل ( الغجرية ؛ حورية الجبل ؛ وادي الموت ) فأنني اشعر باحساس عميق من الصفاء الذهني والهيام الروحي يجعلني استلهم عزفه الفلسفي وكأنه يهب عليّ من تكايا وزوايا الاذكار والابتهالات والتهاليل الصوفية ؛ اما معزوفاته الاخرى كسماعياته وبشارفه وتقاسيمه فانها تنقلني الى ما يشبه عراقة وجزالة القصائدة الشعرية الفخمة ذات الشطرين وا لتي حفل بها ديوان العرب عبر قرون من الديمومة والخلود . لقد كان سلمان شكر شاعرا في مؤلفاته وعزفه ؛ وسيبقى عنوانا بارزا في موسوعة الموسيقى الشرقية المؤصلة الملتزمة بمقاييس الفن الابداعي النبيل و المحتشم المهيب .
|