المقاله تحت باب محور النقد في
14/11/2007 06:00 AM GMT
ما الذي كان يفكر به الرسام العراقي شاكر حسن آل سعيد (وهو شيخ حروفيي زمانه) حين رسم لوحته التي استبدل فيها الاصباغ باسمائها: بدلا من أن يضع اللون الازرق كتب كلمة ازرق وبدلا من الابيض كتب كلمة أبيض وهكذا مع بقية الاصباغ؟ لم يكن ما فعله يومها (في تسعينات القرن الماضي) شطحة متصوف أو تعبيرا عن نزعة متمردة. شيء من هذا القبيل الممكن لا يمكن نفيه، لكن آل سعيد وهو الذي احترف الكتابة مثلما الرسم كان يري الي الكلمات في صفتها فوانيس، تنير ما حولها من غير أن تفقد سر أسرارها: النور الذي يضيء أعماقها. كان سحر الكلمة ينبعث أمام عينيه دائما ليعيش لحظة إشراق تجعله قادرا علي التنقل بين صفحات معجم وهمي. حين كان يسعي الي الوصف لم يكن يلجأ الي الرسم بل الي الكتابة. وكان في حقيقته لا يصف بل يسترسل في لذائذ خفته البلاغية. يعبر اللغة الي ما بعدها، ينقب فيها حتي تصل الي ما تحتها، يقشرها لكي يقبض علي لبها. كان يقوي علي تقنياته الضعيفة في الكتابة مثلما كان يقوي علي تقنياته الضعيفة في الرسم. استطاع آل سعيد بعبقرية فذة ونادرة أن يستخرج قوته من لحظة ضعف. خلاصة عابثة ملأها آل سعيد أحلاما وأفكارا وتجليات وشذرات ومدائح وأدعية ورقي ومواعظ ووشوشات وانغاما في طريقه الي اللوحة، التي لم تكن بالنسبة الي ما فعله من أجلها إلا رمية نرد. كانت اليد التي رمت وهي تعيش قوتها هي التي ربحت من غير أن تخذل العين التي تري. أكثر ما كان يهمه أن يعبر البرزخ آمنا برؤي تكفل له طزاجة العيش عند حدود المتخيل. منذ سبعينات القرن العشرين وهو يكتب علي سطوح لوحاته ما يطرأ علي ذهنه من حروف وكلمات من غير أن يستعيد معني مشاعا أو يرتجل معني ذا خصوصية بعينها. كانت يده التي تحلم تسترسل في غواياتها الخطية، كما لو أنها تريد أن تهبنا خطاطا اكتشف موهبته في العاطفة التي يتسلي في استعراضها امامنا. كان يرسم بقوة اليد التي تكتب. وكان يمحو ليجد حيزا لاستنتاج سيظل مؤجلا: لن نصل.
2
حضور رسوم شاكر حسن ال سعيد (1925 ـ 2004) كان لافتا في كل التحولات العميقة التي شهدها المحترف الفني العراقي طوال الثلاثين سنة الماضية. وهو حضور كان ذا مغزي مزدوج، فمع تغير مفهوم اللوحة الذي طرحه آل سعيد بقوة بداية السبعينات كان هناك جيل فني يروم التحرر من هواء العقائد الفاسد الذي نشرته ثقافة الستينات المتمردة والمسيسة في آن معا. (الفن والحرية) كتابة الذي طبع في بغداد علي نفقة وزارة الثقافة العراقية في السبعينات وسحبت نسخه من السوق وأحرقت كان نوعا من النبوءة التي تشير الي المكانة التي سيقيض لهذا الفنان ان يحتلها في الثقافة العراقية: المعارض الذي يشيد صروحا غير قابلة للهدم. وهو الامر الذي انتبه اليه بتحذلق فنان شيوعي سابق هو (ماهود أحمد) فكتب ذات مرة في مجلة (الف باء) التي كانت تصدر في بغداد مقالة هي عبارة عن وشاية بنزعة ال سعيد التآمرية والتدميرية. لقد نظر ماهود أحمد الي الاشارات والحروف التي كان يستعملها آل سعيد من جهة حمولتها السياسية المفترضة، وهي حمولة معارضة للفكر السائد كما رأي ماهود يومها. وبالرغم من أنها كانت وشاية ساذجة حقا غير أنها تعبر عن احتراف حزبي في صنع الضغينة. الدسيسة التي لم يفهما ذلك الواشي وجدت طريقها الي مستقبل الرسم العراقي فصنعت رسامين هم بناة المشهد التشكيلي في بلد يتعرض الان للانقراض. كان آل سعيد قد بعثر النبوءة بين رسومه وكان بطريقة أو بأخري يشير الي الحلاج الذي سيتخذ فيما بعد هيأة بلد ليصلب. في لوحته تلك، حيث استبدل الاصباغ بالكلمات التي تقولها، كان يرمي الي الاشارة الي الحواس المبادة، لا من اجل خلخلتها بل من أجل انارة الطريق التي تؤدي الي ما تبقي من الحكاية: هناك في الرسم شيء من الزخرف الذي لا يمكن تعويض غيابه هو أشبه بعاطفة المكان التي لا يمكن استعادتها. في الدوحة يوم التقينا آخر مرة (عام 1999) كان شغله الشاغل أن يرسم نقاطا يلد بعضها البعض الآخر، بأحجام مختلفة. عاد يومها الي الحبر الصيني والقصبة كأي خطاط. كان يرسم بيد فازرلي الذي هو واحد من أهم الفنانين الذين لم يتخل عن الاعجاب به، بالرغم من أن تاريخه الفني ينفي أية صلة له بذلك الفنان الفرنسي (هنغاري الاصل). ولكن آل سعيد يومها لم يكن يرسم، كان يخط علي اوراق رخيصة وصيته: حلمه في أن يكون خطاطا. هل كان يتذكر مقولة بيكاسو "لو كنت صينيا لأصبحت خطاطا" ؟ ربما.
3
لا يقيم الجمال الذي كان ال سعيد يبشر به في اللوحة، بل في فكرته عنها. كل متع ال سعيد كانت مستخرجة من تلك المسافة التي كان سوء الفهم يصنعها. فالرجل كان يصنع لوحات تجريدية ساحرة، تضفي عليها شخصيته الكريمة نوعا من السمو والنبل، كان الرجل لمن يلتقيه فرصة للتبرك والاعتراف (بالمعني المسيحي). لم يكن الفهم شرطا لاقتناء لوحات ال سعيد، وبالاخص في العاصمة الاردنية عمان يوم عاش في ضيافة مؤسسة شومان بداية التسعينات. كانت شخصيته توحي بالانعتاق من شروط الانتماء الي كل ما هو ارضي، كان ملاكا بهيئة انسية، لذلك أقبل الكثيرون علي اقتناء لوحاته بحثا عن تلك البركة المفقودة. وهي بركة حقيقية تركت أثرها العميق في الرسم العراقي. فعن طريقها أهتدي غير رسام عراقي الي المنطقة التي يكون فيها الجمال بشري ووعدا غامضا ودفاعا عن معني فعل الرسم لذاته. وهي منطقة تقع ما بعد الحرفة (ما بعد اللغة) بكل ما تتطلبه من مهارات فكرية وتقنية، وهي كما أعتقد تظل غريبة عن كل معرفة ممكنة وميسرة. كان تقليد رسوم شاكر صعبا (كذلك تزييفها)، وهو فعل إن حدث فانما ينم عن سذاجة من يقوم به، غير أن التأثر بسطوحه كان يسيرا. كان ذلك التأثر قد صنع لوحات هي غاية في الجمال، غير أنها بالنسبة لاية عين خبيرة لوحات من غير معني ولا قيمة. مجرد سطوح مسلية للعين. من سنحت له الفرصة لتأمل رسوم شاكر حين ال سعيد لا بد أن يدرك الفرق الخطير. لقد كان لدي يد ال سعيد ما تنقله من انباء الغيب، حيث كانت تلك اليد تصل الي الجمال في صومعته الخفية لتشتبك بهذياناته. ما تقوله رسوم الاخرين لا يفارق وشوشات الحواس علي دروب المتعة البصرية. هنالك فرق كبير بين أن تعيش وبين أن تري. كان ال سعيد يعيش رؤاه في صفته عاشقا مصطفي، لا يري رسومه إلا من جهة كونها قدرا مؤجلا، قدرا لا يقبل إلا مرة واحدة. لذلك لم ينتج لوحات تتشابه، كل لوحة من لوحاته هي نموذج مستقل. يا لشقائه بالرسم.
4
كلما كنت التقيه في فندقه في عمان بالاردن كان يريني رزمة جديدة من الورق مليئة بالسطور السوداء، هي خربشات وعيه الجمالي الشقي. ليقول لي: هذا آخر دفاتري. كانت دفاتره الصغيرة تلك مزيجا من اليوميات والتأملات والارتجالات البصرية. ولم تكن تخلو من الرسوم التوضيحية التي هي أشبه باللعثمات التي يستدرجها الكلام الي صمته: ودوائر ومربعات شطرنج تتقاطع فيما بينها. دفاتر تنتمي الي عالم المخطوطات القديمة، سحرها الشكلي ينبئ عن حميميتها الطالعة من عزلة صوفية متأنية. كانت تقنياته ارتجالا ماكرا، وهو لا يعول عليها إلا في صفتها نوعا من الاستعداد لنسيان الاثر الخادع الذي تصنعه المواد من غير أن يكون للانسان الهائم أي دور يذكر. جرب ذلك لسنوات طويلة متأثرا ب(هنري ميشو). كانت دفاتره تتيح له نزهات في خرائط حس بلاغي هارب من التصنيف. فكان عن طريقها يتابع سجالا غامضا لا تفصح عنه كتبه ولا رسومه، هو علامة كفاحه الشخصي في عالم تسكنه المنسيات، عالم هو المرآة التي تعكس مفهوم البعد الواحد، الذي لا يعني أثرا بعينه بقدر ما يعني غياب ذلك الأثر. بعد سنوات وحين التقينا آخر مرة في الدوحة سألته عن دفتره الحالي فقال بحزن: "لم يعد علي شفتي إلا قليل من الادعية". كما لو أنه كان يستعد للدخول الي نفق.
5
أذكر أنه كان يضع يده أحيانا علي رأسي ويقرأ أدعية وهو مغمض العينين. وهو ما كان يفعله دائما مع ابنتي الصغيرة. هل كان آل سعيد يرسم بالطريقة نفسها؟ مصادره البصرية كانت قليلة بل ونادرة: شيء من الانكليزي وولز وشيء من الفرنسي فوتورييه وتماه وتناص عظيمين مع الاسباني تابيث، غير أن مصادره الذهنية والروحية كانت تشده الي مناطق موغلة في لا شكليتها. بالنسبة له فان خيال العين هو الماكنة التي تستخرج وتستنتج وتشرق بلقاها اللامعة. مثلما يري حدسيا كان يرسم، لذلك افترض مشاهدا يعيش الضني نفسه، مشاهدا يشرق خياله بما لا يراه مرسوما. لا يحتاج المرء الي ان يري لكي يكون رساما. ليته قالها ولكنه لم يقلها أبدا ولا يمكن أن يقولها خشية سوء فهم عظيم يقع. غير أنه كان يدرك أن من يري لوحاته لابد أن تنتقل اليه العدوي. فكرة أن يكون الرسم وجودا سلبيا لانه ليس سوي انعكاسا لنوع بارد من التأمل دفعته الي استجلاء معني الأثر من خلال تحسس ذلك الأثر ناتئا. لقد كان يري بقوة اليد نفسها التي كان يضعها علي رأسي. كان آل سعيد في كل ما يفعل تأمليا (وهو صاحب البيان التأملي عام 1966) لكن من غير أن يعلن شروطا مسبقة للتأمل. كل ما أدركته من وقائع ذلك التأمل أن هناك علاقة غريبة تتشكل ما بين أصابعه و بين مكان خفي في أعماقه. فكان الرسم بالنسبة اليه واقعة أشبه بالصلاة، حدوده كون يتسع باستمرار.
6
لا أظن أن المعاني كانت تستوقف آل سعيد، ففي غمرة تسليمه بالمعني المطلق يبدو كل معني آخر قابلا للتفادي، بل والاهمال. كان ينقب بحثا عن شيء ما، شيء ليس يسيرا وصفه أو استحضاره أو استدراجه. كانت لديه فكرة عن الرسم لا تشير الي اختلافه بل الي انقطاعه وعزلته وتشرده بين متاهات لا حصر لدروبها. ذات مرة كنا ذاهبين الي مأتم يقام في جامع 14 رمضان قرب في ساحة الجندي المجهول التي اختفت اليوم، وحين ترجلنا من السيارة وقعت عيناه علي صفيحة معدنية ملقاة علي الرصيف فالتقطها وصار يتأملها. وسط حشود الناس الصامتين والمنفعلين حزنا ظل آل سعيد لأكثر من ساعة من الزمن وهو يحدثني عن لقيته تلك بصوت منخفض. كان الرجل مأخوذا لا يري من وجوده هناك بين ذلك الحشد إلا ذلك المعني الذي كان يبث لمعانه من بين ثنايا تلك الصفيحة. "لقد تأخرنا كثيرا" هي الجملة الوحيدة التي فهمتها من كلامه والتي شعرت بانها ايذانا لي بقراءة سورة الفاتحة ومغادرة المكان. بعد أشهر رأيت تلك الصفيحة وقد صارت لوحة. لم تكن مادة لصورة بل كانت هي الصورة. كان ذكر بيكاسو يقض مضجعه، فهل كان آل سعيد يحسد الرسام الاسباني لانه قال انا لا ابحث بل أجد . وهذا ما كان يفعله باستمرار. في ساحة العبدلي بعمان عثر ذات يوم علي كشك كان يود لو أنه حمله الي المتحف الاردني للفنون لعرضه في صفته معجزة خلق فني تلقائي. وحين كتب مقالته الشهيرة عن ذلك الكشك وهبه بلاغة استثنائية في التعبير عما لا يري. كان آل سعيد يعيد المرئيات الي أصولها الخفية: لغة لأوفاق سحرية لم تكتب بعد. ذات يوم صنع نردا كبيرا، وحمله الي مركز الفنون حيث كنا علي موعد للقاء به محاضرا. لم يلق يومها المحاضرة التي أعلن عن عنوانها في وقت سابق بل صار يحدثنا لأكثر من ساعتين وباستغراق متعوي مدهش عن ذلك النرد وعن تجلياته في الفكر الانساني.
7
(انا النقطة فوق فاء الحرف) كتابه ومقولته الغامضة. من المؤكد أنه لم يعش أناه تلك إلا بطريقة من كان ينظر الي آخر. هي أنا خارجة من الوصف لا من رغبة في الاستعراض. ولعه بالزوال يتناغم مع تواضعه الانساني. حين كان البعض يعيب عليه استعماله لمواد رخيصة وقابلة للتلف كان يجيبهم بسخرية إذا كنت أنا زائل، صنيعي يشبهني . لم تكن فكرة الخلود تقض مضجعه، وهو الذي عاش حياة مسهدة قضاها بين دفترين: دفتر أصفر بليت أوراقه يقرأ فيه ودفتر يخرب بياضه بما يكتبه. كان شقاء المتصوفه يوجعه ويلهمه صبرهم ثقة وتحثه كرامتهم علي الاستبسال. حين رأي نفسه نقطة فقد كان يتشبه بهم، وهو الذي كان يستل من أوجاعهم كلماته التي كان يتركها حافية علي سطوح لوحاته. حين كتب اسماء الالوان كان يفكر بذلك الصبح الذي أشرق بشمسه علي الحلاج وهو علي الصليب. لم يكن الشهيد يري إلا كلماته التي تختزل العالم. كانت حواسه تقيم في مكان قصي لا يمكن الوصول اليه. مكان تفلت فيه الحروف العربية من نقاطها.
|