جماعة القوس الأول.. وإمكانية الإنجاز المشترك

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
20/09/2007 06:00 AM
GMT



اختزال الإبداع الفردي.. وصولا إلى رؤية مشتركة
الفنون والآداب ذائقة فنية، ونتاج فكري فردي، يتصف بصفاء الذهن وتوقده، وقدرة فريدة على الإبداع والتجديد.
والفن التشكيلي بشكل خاص حالة فردية إبداعية تختلف عن الفن المسرحي، الذي يعتمد على الجماعة أساسا، قبل الاعتماد على ذهنية الفرد وإبداعه وتخصصه، فالجماعة في المسرح هي تركيبة أولية يخلقها طابع الفن المسرحي الذي يعتمد أساسا على تنوع الفن في إنتاج عمل مسرحي واحد يشترك فيه أكثر من عنصر كالمؤلف والمخرج والممثلين، إضافة إلى بقية العاملين الذين يكملون عملية إنتاج العمل المسرحي في الإضاءة والديكور والأزياء، وغيرها ممن المكملات الأخرى.

والمشاهد الذي يحضر إلى قاعة العرض لا يصفق في نهاية العمل إلى فرد واحد وإنما إلى مجموعة من الأفراد اشتركوا جميعا في إنتاج لوحة فنية متكاملة متمثلة بالعرض المسرحي النهائي.

أما في الفن التشكيلي، فأن عنصري الإبهار والثناء يتعلقان بصانع أو خالق أو مبدع الأثر الفني المتمثل باللوحة، تلك الرائعة الثابتة في ذهن المتلقي، الثاقبة لحدود الرؤيا في ذهنيته إلى مجالات أوسع للتعمق داخل حدودها والتي لا تتجاوز ذهنية الفنان الذي أبدعها.

إذن اللوحة هي نتاج فني تبدعه ذهنية فردية بتقنيات لونية وأساليب فنية فردية أيضا، علا قتها مباشرة في حرفية الفنان ودراسته ومتابعته للنتاج الفني التشكيلي المتطور والمتجدد وفق أساليب الحياة المتعددة، فالخيال شيء والتقنية الفنية شيء آخر.
الفنان التشكيلي الذي يمتلك تقنيات عالية في اللون والتخطيط، ولا يمتلك ذهنية مشابهة لها في التصور والتحسس، لا يمكن له أن ينتج لوحة قادرة على الإيصال والاتصال بنفس قدرة الفنان الآخر الذي يمتلك التقنية مضافا إليها الخيال والإحساس بمعاناة الآخر.
وبهذا فأن العمل التشكيلي عمل فردي برز من خلاله وعلى مرور الزمن عباقرة وعمالقة عديدون من الفنانين العالميين أمثال رامبرانت، فان كوخ، لوتريك، بيكاسو، دالي، ماكس ارنست وغيرهم من الفنانين العالميين الذين أصبحت لوحاتهم رموزا خالدة في الفن التشكيلي على مر الزمن.

والفنان التشكيلي لا يحتاج الجماعة في إكمال عمله الفني كحاجة المسرحي إليها، فلماذا تتولد الجماعة في العمل التشكيلي إذن؟
الجماعة في الفن التشكيلي حسبما اعتقد، هي نتاج تلاقح ثقافي معرفي رؤيوي فني مشترك، قبل أن يكون لها منجز ملموس في حدود المعارض المشتركة، أي أن الفنان التشكيلي الذي يعمل بإبداع منفرد، عندما يتلاقح مع الآخر بلا قصديه مدروسة أو دراية مقصودة، سيكون هنالك اندماج معرفي وثقافي ووجداني في التعامل، مما يدفع احدهما للالتقاء بالآخر، أو الآخرين الذين يسيرون بذات النهج المشترك لإنتاج لوحات تعبر عن وجهة نظر مشتركة، وعلى هذا الأساس تتكون الجماعات، وقد شهد العراق في مراحل متعددة من الزمن ولادة العديد من الجماعات الفنية التي تركت بصماتها الواضحة على هوية الفن التشكيلي العراقي، وظهرت معالمها على الأجيال التي أعقبتها، وتواصلت في التأثير على الأجيال اللاحقة، لأنها جماعات تأسست على أسس فنية راسخة في الدراسة والمعرفة والتوافق في الرؤيا، ونذكر منها مع مؤسسيها :

(جماعة بغداد للفن الحديث) جواد سليم
(جماعة الرواد) فائق حسن
(جماعة الانطباعيين) حافظ الدروبي
(جماعة المجددين) محمد مهر الدين
(جماعة الأكاديميين) كاظم حيدر
(جماعة الأربعة) محمد صبري

وغيرها من الجماعات العراقية العديدة الأخرى، ولكل من هذه الجماعات رؤى وأفكار تأسيسية بنيت على أساس التجديد في أعقاب كل مرحلة من المراحل، فمنها من اعتمد على التراث، ومنها من اعتمد على الحداثة، وآخرون اعتمدوا الأسس الأكاديمية الدراسية المتأثرة بالأجواء العالمية.
كذلك تأثرت بعض هذه الجماعات بالمدارس الانطباعية الأوربية، وفي المحصلة النهائية لاستمرار هذه الجماعات في الفعل التشكيلي العراقي فأنها تركت كما اشرنا فعلا مؤثرا على أجيال عديدة، وبصمات واضحة على أنامل فنانين عراقيين عديدين تأثروا بأساليب تلك الجماعات.

ولكن في الزمن الذي أعقب احتلال العراق في عام 2003 ظهرت هنالك ظاهرة جديدة لم يألفها الفنان العراقي سابقا، وهي ظاهرة منظمات المجتمع المدني المدعومة ماديا من الجهات التي تنتمي إليها. من؟ممن؟ من أين؟ لماذا؟ ليس لنا علاقة بذلك، المهم أن أي مجموعة أو منظمة أو جهة تعمل لصالح تلك المنظمات، هي في حكم المنطق منظمات مؤسساتية تتبع نظاما يدور في فلك ما تريده تلك المؤسسات.

حيث لا تعتبر الجماعة الفنية الخارجة من عباءة تلك المؤسسات بحجة التمويل جماعة فنية وفق القياسات الآنفة الذكر.
وعليه فأن العديد من الفنانين التشكيلين في محافظة ذي قار حاولوا أن يجتمعوا، على الرغم من اختلاف تصوراتهم ورؤاهم الفنية من اجل تشكيل جماعة اوتكتل أو ماشابه، بغية الأنضمام إلى منظمات المجتمع المدني، ونجح قسم منهم في ذلك بحثا عن الدعم المادي.
إن هذه التجمعات وفق السياقات الفنية لمفهوم الجماعة لا يمكن أن تكون جماعة فنية ذات رؤى وطموحات متوافقة في التأسيس لمنجز فني خارج حدود التقليد.

فهل جاءت جماعة القوس الأول التي تشكلت حديثا في الناصرية، وأقامت معرضها الأول تحت لافتة (المجلس الاستشاري للثقافة) امتدادا لجماعات منظمات المجتمع المدني لغرض الانتفاع المادي، أو إنها جماعة فنية تأسست للارتقاء بفن مؤسسيها إلى مستويات التجانس في الأفكار والمنجز الفني الواحد...؟
جماعة القوس الأول والمكونة من الفنانين (حسين الشنون، علي عجيل، منير احمد وأنور كاظم) وهم فنانون مقتدرون متميزون متضادون تماما قبل تكوين الجماعة، لكل منهم لونه الخاص وطابعه التشكيلي الذي يختلف عن الآخر تماما، ولا يمكن أن يتجاور معه في التقنية أو التصور..

ما الذي جمع هذا التضاد في التوحد؟
هل القوس هو الفكرة الأساسية التي التقت عندها مخيلات الجميع في تشكيل جماعة تعتمد القوس كرمز لمدلولات جديدة في لوحة مشتركة؟ أو أن القوس هو تسمية لا غير سؤال موحد طرح على أعضاء الجماعة فكان لكل منهم رأي خاص في التسمية.
الفنان (حسين الشنون) مؤسس الجماعة يقول :

التسمية مستوحاة من القوس السومري المعماري الأول، الموجود حاليا في مدينة أور السومرية في معبد (دب لال ماخ) وهو تأكيد على أن أصل القوس هو سومري وليس إسلاميا، وقد اخترنا هذا الاسم تيمنا بالحركة المعمارية السومرية وليس له علاقة باستخدام القوس كعامل مشترك في لوحات الجميع.

أما الفنان(علي عجيل) فله رأي آخر يتقارب في الطرح مع ماقاله الفنان حسين الشنون ، حيث يقول القوس السومري هو اكتشاف جديد، والجماعة هي اكتشاف للتواصل المشترك ومنه اشتقت المجموعة تسميتها للدلالة على الأثر الإبداعي السومري الأول الذي أنجز معماريا في مدينة أور السومرية، قبل أن يظهر للعالم في أي مكان آخر، حيث الحضارة السومرية هي أقدم الحضارات وهذا الاكتشاف في المعلومة هو الدافع الأول في التسمية لدفع الجماعة إلى اكتشافات أخرى جديدة في الأعمال الفنية القادمة
كما اتفق منير احمد وأنور كاظم على ما قاله حسين الشنون وعلي عجيل بخصوص أهداف ودوافع التسمية
وعليه فقد اتفق جميع أعضاء الجماعة على أنهم لم يجتمعوا لأجل ترسيخ معمارية القوس في لوحاتهم القادمة، كفعل جماعي مشترك يكون القوس فيه ثيمة جمالية وفكرية يشير إلى فعل موحد جديد يستلهم من التراث السومري معمارية القوس وتوظيفه في لوحات فنية حديثة مشتركة.

إذن ما الذي يربط هذه الجماعة المتضادة في الاتجاهات الفكرية والتقنية، والمنضوية تحت تسمية القوس.. علما أنها لم تستخدمه كشكل معماري متميز لبناء لوحاتها الجديدة كدالة مشتركة تربط الجماعة وتشتت أواصر التضاد ، للبحث عن مفردات فنية متداخلة في الطرح منذ البادرة الأولى للتفكير بمثل هكذا مشروع فني عرضة للنقاش والمداخلات والنقد، فهل أعطت الجماعة تبريرا منطقيا لتشكيلها من خلال معرضها الأول، بعيدا عن التنظيرات والتفسيرات الكلامية، حيث ستكون اللوحة أو اللوحات المشتركة هي المعبر الأكيد عن أفكار الجماعة وطروحاتها.

المعرض الأول للجماعة خيبة أمل كبيرة في تشكيلها كجماعة، على الرغم من انه ضم لوحات جديدة ومتميزة للفنانين حسين الشنون وعلي عجيل، وهذا لم يشفع على غياب فعل الجماعة في لوحات منتخبة تحمل بصمات واضحة لأفكارها التي تعمل عليها وفق تقنيات عمل مشتركة مجسدة لما تريد إثباته في فعلها الجماعي، بل على العكس تماما فقد احتفظ كل فنان بخصوصيته وتقنياته وأسلوبه الخاص، إضافة إلى اشتراك الفنان أنور كاظم بلوحة قديمة معروضة سابقا خارج إطار الجماعة.
ومع ذلك فقد امتازت لوحات الفنانين حسين الشنون وعلي عجيل بتقنيات عالية و، وأساليب عمل مختلفة وتشابه بالرؤى والألوان نوعا ما، فقد طغى التجريد على لوحات حسين الشنون، مع أنها حملت دلالات واضحة لشكل القوس في تكويناتها دون قصد مسبق، وربما دفعت إشارتنا إلى تلك الأقواس المخبوءة داخل اللوحات كثيمة لعمل جديد يستلهم القوس في بنائها كجزء من أفكار الجماعة، أشار الفنان حسين الشنون، على أن تلك اللوحات جميعها حديثة ورسمت بعد تشكيل الجماعة، وربما أكون قد استغرقت في الفكرة دون وعي مسبق لتثبيت استخدام القوس في اللوحة، وهذا ما سأسعى إليه مستقبلا
 
واحتفظ كلا من الفنانين منير احمد وأنور كاظم بأسلوبيهما القديمين، و على الرغم من أنهما قدما لوحات جيدة ومتميزة ألا إنهما كانا بعيدين عن رؤى وأفكار حسين وعلي التي تقاربت بشكل أو بآخر

إن المشاركة في لوحات قديمة معروضة سابقا في معارض أخرى ليست لها علاقة بفكرة أو تكوين الجماعة، يخلق ضعفا واضحا وخللا بارزا في الفكرة، فليس المطلوب في الجماعة الخروج على التقنيات والأساليب الفردية والتشابه في العمل كنسخ متبادل ، وإنما هو تشابه في الأفكار والمطروحات وتنمية الحس الجمالي المشترك عند الجماعة بعيدا عن الأفكار الفردية السابقة التي تجسدت في أعمال شاهدت النور وعرضت لأكثر من مرة في معارض سابقة.

نأمل أن تكون المعارض القادمة للجماعة تشتمل على رؤية واضحة لمفهوم الجماعة في أعمال فنية يكمل بعضها الآخر وفق أساليب عمل مشتركة وتقنيات فردية متميزة، يكون فيها المعرض المشترك وحدة متكاملة كمعرض شخصي يمثل الجماعة بأكملها وليس وحدات منفردة متداخلة في الأخرى، وان تتواصل جماعة القوس الأول في تنمية قدراتها الفنية الجماعية بما يضمن التواصل المثمر، بعيدا عن إشكالات المنظمات واللجان، والخصومات المادية التي تؤثر سلبا على طموحات الجماعة الفنية ذات الاهتمامات الإبداعية لتأسيس فعل جمالي جديد مضاف إلى أفعال وتصورات الفنانين التشكيلين في ذي قار،المتواصلين دائما بإبداعات خلاقة، ومعارض متنوعة جماعية وشخصية متميزة تبرز فيها قدراتهم كأعلى وأثمن ما يكون.