الفنان سعد الموسوي ..تواصل حميمي مع التراث والأسطورة

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
14/09/2010 06:00 AM
GMT



الفنان سعد الموسوي: 10 معارض في أستراليا وتجارب متميزة
تواصل حميمي مع التراث والأسطورة
لاستخلاص إبداعات فنية ثرة الرؤى والدلالات

منذ أن حل في أستراليا عام 1995، أخذ الفنان العراقي سعد الموسوي يستقطب اهتمام الأوساط الفنية الأسترالية بشكل مضطرد وملحوظ، ليشيع عبر أعماله المتفردة الدهشة والانبهار لدى مشاهدي ومحبي الفن التشكيلي على نحو حميمي وأثير، منطلقاً في ذلك من خصوصياته الإبداعية وتشربه بتراث حضارات وادي الرافدين، ومتابعته لأهم التطورات في الفنون التشكيلية العالمية.
وعلى الرغم من وجود الفنان في أستراليا منذ فترة غير قصيرة نسبياً، وانفتاحه على مختلف التجارب والتوجهات الفنية، فإنه ظل متمسكاً بخصوصياته ومفاهيمه الإبداعية الذاتية، دون الانتماء إلى أية مدرسة أو حركة فنية تقليدية أو معاصرة، وبقي مستقلاً بأساليبه وتقنياته، كما هو مستقل فكرياً وسياسياً عن أي حركة حزبية أو سياسية أو مذهبية.

وأستراليا هي المحطة الثالثة من محطات الفنان الحياتية والإبداعية، ولكنه في أي محطة من هذه المحطات، لم يتغيّر فيه إيمانه بحرية العقل، وحرية الفن، وقناعته بأن الفن هو اللاانتماء، وهو تمرد على المربعات والأطر التي يصنعها الآخرون.

كانت المحطة الأولى للفنان هي العراق، حيث تخرج في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد-فرع الرسم عام 1990، بعد أن شارك في العديد من المعارض التشكيلية داخل العراق. وكان قد فتح عينيه على الدنيا في مدينة الناصرية قريباً من العاصمة السومرية العريقة أور وزقورتها الشهيرة.
أما المحطة الثانية فقد كانت مخيم رفحاء في المملكة العربية السعودية الذي حلّ فيه بعد مشاركته في انتفاضة الشعب العراقي بآذار "مارس" 1991، ضد النظام الصدامي. وقد تفرغ في هذا المخيم لمواصلة عمله الإبداعي، وشارك بين عامي 1992 و 1995 في ستة معارض تشكيلية بالمملكة العربية السعودية، واقتنت منظمة الأمم المتحدة بعض أعماله. كما شارك عام 1994 في معرض تشكيلي بسويسرا لمناسبة يوم اللاجيء العالمي.

وفي محطته الثالثة أستراليا، حيث يعيش الآن، وجد نفسه وهو يحنّ إلى سماواته الأولى، وإلى جذوره الممتدة عبر الزمن منذ فجر التاريخ، يحمل ألواحه ومسلاته على أكتافه، ويعبر الأمصار والقارات، منفيّاً يعرّف العالم بحضارته .. حضارة وادي الرافدين العريقة.

قواسم مشتركة
تثير اهتمام المتلقين

لقد أقام الفنان الموسوي وشارك خلال وجوده في أستراليا عشرة معارض .. ترى ما هو أهم ما شدّّ الأستراليين إلى أعماله ..؟
عندما نطرح هذا السؤال على الفنان نجده يقول: ربما تكون –وبشكل عام- الجدّة والخصوصية والبراعة في استخدام الريشة واللون من القواسم المشتركة التي تثير إعجاب جمهور ما بفنان ما. ولكن تبقى هنالك تفاصيل أخرى كثيرة قد يكتشفها المتلقي في هذا العمل أو ذاك .. تفاصيل جوهرية تتعلق بالعمل وما يختزنه من تجارب ورؤى قد لا تبدو جلية للجميع وفق نفس التأثير وبنفس المستوى. ومع شعوري بالحرج "أو الخجل إن شئتم" لدى الحديث عن نفسي، فإنني وبشكل تلقائي أكرس كل طاقاتي لعكس العاطفة وتأثيراتها داخلي إلى آخر المديات التي يمكن أن أصل إليها. وقد وجدت أن المتلقين كانوا يؤكدون دائماً على الخصوصية في أعمالي، وهكذا أجدهم يلجون بلهفة مناخات الحوار والتساؤل. ويمكن أن أقول هنا أن اللوحة لديّ هي ليست انطباعاً بصرياً، أو تكوينات هندسية، بل هي علاقات حسّية وروحية ومشاهد دراماتيكية. هي التصاق كل دواخلي بالمشاهد والانصهار أمامه بأعماق الإبداع الفني المفعمة بالألم، الفرح، النشوة، الجرح، الغضب، الحب، وكل المشاعر التي تفعل فعلها العميق في الفكر والقلب والروح.

طفولة الفنان
منبعٌ ثرٌّ لا ينضب

لم يغادر الفنان طفولته بعد، فهي منبع ثر لا ينضب للرؤى والتأملات والانثيالات الإبداعية. وفي لقاء مع الفنان تابعنا تأثيرات طفولته ورؤاه ونحن نجلس بين عشرات اللوحات التي تزدحم بها شقته في منطقة كولن وود بولاية فكتوريا الأسترالية "عاصمتها ملبورن". يقول الفنان الموسوي أنه ولد من طين زقورة أور، وأنه عاش طفولته .. أشياءه الصغيرة .. حماقاته الطفولية، ممزوجاً كالتبن مع طينها. ومن هنا تنطلق تأملات وتداعيات ثرة وجميلة.
كان الفنان في السنوات الأولى من عمره، يحفر وينبش الأرض بعفوية الأطفال، وكان هنالك ثمة هاجس بداخله، يوحي بأن هنالك أشياءً وحيواتٍ مدفونة تحت الأرض. كان أصدقاؤه ممن كانوا في عمره يلعبون، ويحفرون الأرض أيضاً ، لكنهم كانوا يبحثون عن أشياء عصرية كأسلاك الحديد وبقايا الألمنيوم أو القطع البلاستيكية ليصنعوا منها ألعابهم الطفولية. ومع أن الفنان الموسوي كان صغيراً، فانه كان يختلف عن أترابه في بحثه تحت الأرض، فقد كان يبحث عن "حبل سرته"، وعن جذوره مع القدم، وكان ينهمك في البحث عسى أن يعثر على فخاريات قديمة، أو ألواح أو بقايا لعظام أجداده السومريين. وكانت عشرات الأسئلة تحاصر عقله الطفولي آنذاك، حول بداية الخلق، وحول ملامح الأجداد القدامى، وإن كانت تشبه ملامح مانحن عليه اليوم. لقد كان الطفل سعد يلعب بالطين عادةً ليشكل منه منحوتات لأشخاص وحيوانات وكائنات أخرى، يجففها تحت الشمس، ثم يلقي بها بعد أن تجف إلى نار التنور، ثم ينظفها، لكي يعرضها على أهله وأصدقائه.
ونحن نسبر مع الفنان أغوار طفولته البعيدة، يقول بعد لحظات تأمل: كنت أحس منذ طفولتي بأن الطين هو وحدة الوجود، وبدايات الخلق والكينونة. ومن هنا كنت أتمعن في التراب، وأمدّ بصري نحو الأفق متحسساً عناق التراب مع السماء، فيترسخ في أعماقي هاجس العلاقة ما بين "العودة والرحيل، أو الرحيل والعودة"، ويتمخض في مفاهيمي أن البدايات هي الجذور، وأن حتى الكائنات الطائرة التي وشجت الفضاء بمداراتها، تهوي بعفوية إلى التراب. كما أن الكائنات المائية، وهي تمخر أعماق المياه، وتمارس طقوسها في الرحم الأزرق، هي الأخرى تعود إلى الرحيل، أو ترحل إلى العودة .. مثلها مثل الموجودات الأرضية وتفاصيلها، وحتى الكائنات الماورائية سواء في مخيلاتنا أو سواء في الواقع اللامرئي، تعوم في دوائرها، تعود أو ترحل. كلّ هذه الهواجس تشكل الهم الرئيسي في ذاكرتي كمنفي من تربته الأولى.
المكان جَسَد اللوحة
والزمن تجسيد للذاكرة
• للحضور الزماني والبعد المكاني مسارات تأخذ أشكالاً عميقة الدلالات في أعمالك .. ما هي مكنونات هذا الحضور، وكيف يتفاعل في داخلك ..؟
- يقول الفنان وهو يجيب على هذا السؤال: إنني أتقصى عميقاً في الزمان كحركة ارتحالية، تمتد أحياناً إلى ما قبل التاريخ، أو تتجسد هذه المرحلة الزمنية أو تلك أحياناً في حضور آني معاصر، يوشّح الموضوع الفني أيضاً، حتى وإن كان غير مرتبط بالأطر الزمانية، ويبقى المشاهد في تساؤل عن زمن الحدث، أو حتى عن إلغائية الزمن.
الزمن موجود في أعمالي كجزءٍ أساسي منها، فأنا على سبيل المثال، عندما أجسد شخصية كلكامش ذلك الإله/الملك السومري الذي قام قبل أكثر من خمسة آلاف سنة بـ "رحلة الخلود"، وهو يحمل مسلاته ووصايه باحثاً عن "عشبة الخلود"، تجدني على صعيد آخر أؤكد على الحضور المعاصر لـ "الزمن"، وتحديث شخصية كلكامش، الذي قد تجده في بعض أعمالي لاجئاً في مخيمات العراقيين الذين غادروا وطنهم قسراً، أو متحاوراً مع سكان أسترايا الأصليين "الأبوريجنيين" يتأمل رموزهم ويستمع إلى موسيقاهم وتراتيلهم في الأقاصي الأسترالية. كما يمكن أن تجد كلكامش غريباً في محطات أنفاق لندن.
أما بالنسبة لـ "البعد المكاني"، فهنالك في الواقع وشائج تربط الزمن كحركة مع الكتلة أو مع المكان، انطلاقاً من مفهوم فلسفة "فن النحت" كعلاقة قائمة مابين الكتلة والفضاء. إن تأكيدي على التشخيص المكاني في أعمالي، هو وحدة مكملة لا يمكن الاستغناء عنها في أغلب نتاجاتي. فالمكان هو جسد اللوحة، والزمن هو تعبير عن الذاكرة والروح، وباتحادهما يتمثل الوجود الفني.
ظلال صارخة
واغتراب جسدي
• لا يمكن لمشاهد لوحاتك، والأخيرة منها خصوصا، تجاهل تأثيرات موضوع الاغتراب عليها، هل يمكن أن تلقي لنا بعض الأضواء على ذلك..؟
- لقد لمست هذا بالفعل من خلال كتابات بعض النقاد وآراء بعض الناس، وذهب البعض إلى أنني أطرح موضوع الاغتراب الجسدي بإحساس عميق يلقي بظلاله الواضحة طوعياً على الشكل والظل في آن واحد. وخرج بعض آخر بتفسيرات متعددة الملامح عن وجود أشكال في لوحاتي قد عُتِّمَت ملامِحُها وهُمِّشَت أبعادها، وغابت تفاصيلها على نحو انسيابي. وعلى صعيد آخر فإن الظل في بعض الأعمال لم يأت بالشكل المألوف، بل جاء بشكل صارخ، يستشيط بانفعال واضح، توشحه رموز وصور وكتابات وألوان مفعمة بالتعبير.
ومن جانبي فأنا أرى أن الظل فضح ما ليس بوسع الجسد قوله، وكأن الشكل يكمن في الظل، والظل يكمن في الشكل. و لا أخفي هنا إنني عمدت إلى عكس هذا التناقض، وكانت المحصلة أن يبعث ذلك على دهشة المتلقي. واستطراداً أقول : إن القمع السياسي والاجتماعي للإنسان، والغربة، والفزع من معرفة أفكار محظورة، وتهميش الإنسان تحت وطأة أنظمة قاسية .. كل ذلك يدعو الجسد إلى أن يتخلى عن حضوره الواضح ليختبيء في العتمة معلناً للظل أن يصور تفاصيل هذا الجسد المرئية، وهواجسه، وأحلامه.
المكان جسد اللوحة
والزمن تجسيد للذاكرة
• تتميز أعمالك، وسيما في الفترة الأخيرة، بالتنوع والاختلاف، ونجد فيها سمات تثري إبداعاتك بالدهشة والتجديد، وعدم الوقوع في التكرار، ما هي رؤيتك بهذا الشأن ..؟
- هنالك رابط خفي بين هذا السؤال والسؤال الذي سبقه. صحيح أنني اعالج العمل بتقنيات مختلفة، واستعمل ألواناً صارخة تعتمد التناقض حيناً، أو ألواناَ غامقة باردة تتداخل بهارمونية حيناً آخر. ولكنني في ذات الوقت أسعى إلى طرح مواضيع تتجاوز المحلية، لتحاكي مفاهيم إنسانية واسعة. أما بالنسبة للون فأنا أعتبره فلسفة وتأملاً وموازنة، وأحرص على استخدامه بما أملك من دراية، وما يحركني من حساسية، دون التأكيد على الإثارة البصرية وحدها على حساب الإثارة التعبيرية، بل على تكريس حضور الحالتين في اللون : الإثارة البصرية والإثارة التعبيرية معاً.
وأنا مثلما ينبغي أن يسعى إليه كل فنان، أسعى إلى الابتعاد تماماً عن التكرار والرتابة. والواقع، أن الأسلوب الخاص بكل فنان هو صفة يمكن أن يلمسها مشاهد اللوحة بيسر، وهي صفة تعكس خصوصيات ومفردات وطرق المعالجة والجرأة في الطرح لدى الفنان، دون التهاوي في التكرار والمحدودية. وقد لاحظ المطلعون على أعمالي كيفية وأساليب اعتمادي على التجريب والحداثة المفعمين بالإثارة والتنوع.
الوحدات والمفردات
في العمل الفني
بعد هذا التوقف مع الفنان، ننتقل إلى التوقف أمام لوحات تحتشد بها شقته، وتشكل بمجموعها خلاصات لتجربة غنية، تحاول أن تحقق تطوراً مستمراً في رحلتها ورحلة الفنان مع الحياة.
إن مفردات العمل الفني التشكيلي تتكون عادة من أسس ومنطلقات تتمثل بـ : البناء، الشكل، التقنية، اللون، الكتلة، التوزيع، الإنشاء الموازنة، التوزيع. وفي أعمال الفنان الموسوي تجتمع كل هذه العناصر، وتتجسد باقتدار وتميز، ولكننا لا نجد هذه المفردات متساوية فيها، بل نجد أن هنالك تفاوتاً عبر الطرح الفني أحيانا، إذ نجده مثلاً يعطي الأولوية لعنصر أو عنصرين يكون حضورهما متفوقاً في إطار طبيعة التجربة، أما بقية العناصر فيكون وجودها ملموساً وواضحاً، لكن بشكل ثانوي.
وهكذا نجد الموضوع والإنشاء يطغيان على العمل الفني أحياناً، مع بقاء حضور اللون مكملاً، ونجد أحياناً أخرى هيمنة اللون، وظهور التقنية بإثارة ووضوح على حساب الموضوع الذي يأتي مكملاً هو الآخر.
وتبرز من خلال الأعمال واضحة أمامنا مساعي الفنان لإلغاء التفاوت وإعطاء التكامل لمفردات مجتمعة العمل الفني، وهذا في الواقع هو ما أدركناه من خلال مشاهدة أعماله الأخيرة التي حاول فيها تحقيق تساوٍ للوحدات والمفردات معاً في العمل الفني.
استخلاص القيم
التعبيرية والفنية
ومن الخلاصات الأخيرة التي نخرج بها بعد زيارتنا للفنان واطلاعنا على نماذج كثيرة لأعمال له أنجزها خلال فترات مختلفة، إن استخدام التراث والأسطورة لديه هو استخلاص للقيم التعبيرية والرمزية.
وقد تجسد أمامنا بشكل جلي استلهامه للتراث وتوظيفه بشكل ذكي يتناغم مع روح العصر عبر ثراء هائل من المواضيع، الطلاسم، الحكايات، الرموز. وبدا لنا واضحاً أن الفنان يعالج التراث ويرتبط به وفق رغبته أو حاجته إلى استلهام لغة ودراما التراث، ليجسدها بوحدات فنية وبصرية. وفي هذا الإطار اعتمد على الحضارات القديمة، والرموز المحلية، والاعتقادات الماورائية كتراث ينبع من علاقة الفرد وأشيائه بالمحيط. وهو يرى أن قناعات الناس القديمة عن الكسوف، والمواسم، والتقويم، والظواهر، والبحث عن إجابات للأسئلة الطبيعية التي تشغل أذهان الناس ، هي أساطير كانت بدايات لخلق مفاهيم روحية ودينية يرتبط بها الإنسان.