هكذا يتجلى الإرث الحضاري للجنوب العراقي الذي ولدت على أرضه أهم الحضارات البشرية، كالسومرية والبابلية والأكادية. وظل الغناء الريفي جنوب البلاد متأثراً بالبيئة التي احتضنته بسهلها وخصوبة أرضها والأنهار التي ارتوت منها. الطبيعة الفريدة في الجنوب غير موجودة في أي بلد في المنطقة، وأهم عناصرها الأهوار والمساحات المائية التي تشكلت عبر آلاف السنين. أما البصرة، ملتقى نهري دجلة والفرات اللذين يشكلان شط العرب، فتعد من المناطق الأكثر خصوبة في العالم. لذا تجد ان الصورة والمفردة الشعرية في الأغنية الجنوبية ليست كمثيلتها في المناطق الأخرى. أما الإرث الموسيقي للمنطقة، فتجلى باكتشاف أولى الآلات الموسيقية، كالقيثارة في الحضارة السومرية (أكثر من 7 آلاف سنة) والتي تعد اقدم آلة موسيقية وترية عرفها الإنسان، وآلة العود في الحضارة الأكادية، وهي أول آلة موسيقية ذات ذراع عرفها الإنسان (4500 سنة). ويوفر انسياب القارب البطيء بسلاسة على مياه الأهوار، باعتباره الوسيلة الأهم للتنقل هناك، إيقاعاً بطيئاً انسيابياً في الموسيقى يختلف عن إيقاع المدينة الصاخب وأي إيقاع آخر في أي ريف آخر، سواء كان جبلياً أو صحراوياً. وأوجدت هذه الطبيعة الجغرافية نغمة موسيقية ممدودة وطويلة بسبب الأفق المفتوح الذي لا ينتج الكثير من الترددات الصوتية، ولكنه يصدر امتداداً صوتياً مستمراً وطويلاً في حال الغناء، على العكس منه في المناطق الصحراوية ذات الأفق الواسع والأرضية الرملية التي تمتص الصوت، فلا ترددات ولا امتداد صوتياً. أما في المناطق الريفية أو الجبلية، فالترددات الصوتية كثيرة بسبب الصدى الذي تعكسه الجبال، ما يُرينا كيف يكون للبيئة دور متميز في تكون الموسيقى يجعلنا ندرك سر اختلاف الموسيقى الريفية الجنوبية العراقية وتفردها عن الألوان الموسيقية الأخرى في العراق والوطن العربي.
المقامات والأطوار الريفية تسمى المقامات الريفية في العراق بـ «الأطوار» (مفردها طور). ويذكر أحمد مختار، أستاذ الموسيقى في جامعة لندن، ان كلمة طور جاءت من كلمة دور (جمعها أدوار) وتعني المقام، كما يرد في كتاب «الأدوار» لصفي الدين الأرموي البغدادي الذي عاش في العصر العباسي، وحرفها لفظاً الموسيقيون الأجانب من غير العرب والعاملون في الموسيقى آنذاك لتصبح طوراً. لذا، فإن الأطوار الريفية تعني بالأصل الأدوار الريفية، أي المقامات الريفية، حيث كان يسمى المقام دوراً أو شداً أو بردة. عدد الأطوار الريفية في العراق كبير، منها ما اندثر عبر القرون بسبب عدم التوثيق، ومنها لا يزال يستخدم إلى يومنا هذا، مثل طور الصبى نسبة إلى الديانة الصابئية المندائية في العراق، والملائي نسبة الى الطقوس الحسينية الملائية، والحياوي نسبة إلى أهل الحي في محافظة واسط. ومنها ما ابتكر حديثاً مثل طور الطويرجاوي نسبة إلى المطرب عبد الأمير الطويرجاوي الذي ينتمي إلى مدينة طويريج قرب محافظة كربلاء. تمتاز الأطوار الريفية عن المقامات العربية والشرقية لأنها إما أن تكون لها درجة استقرار خاصة مثل طور الحجاز عياش أو طور المحمداوي، أو أن تكون لها مسافات خاصة مثل طور اللامي وهو سلم موسيقي يعود إلى العصر العباسي ويختلف عن كل مسافات المقامات العربية. الاختلاف الثالث هو روحية الأداء والتركيز على نغمات خاصة في الطور من دون غيره مثل الغفلي.
الآلات الموسيقية المطبج والناي هما أهم الآلات التي اعتمد عليها الغناء الريفي من القرن الرابع عشر إلى القرن التاسع عشر. والمطبج يصنع من الخشب وهو عبارة عن قصبتين لا يتعدى طولهما 20 سنتمتراً يربطان سوية وينفخان بالفم مثل العزف على آلة الناي. ومن خلال الثقوب وبملامسة الأصابع لها يخرج اللحن. أما أصل الآلة فيعود إلى الحضارة الأشورية. اعتمد الغناء الريفي إيقاعاً على آلة الدنبك، وهي آلة إيقاعية أكثر شيوعاً في الغناء الريفي تشبه الطبلة في الموسيقى العربية اليوم. ولكن الدمبك يصنع من الفخار ومفتوح من الجهتين، فوهته الكبيرة تغطى بالجلد المدبوغ. كما يسمون آلة الخشبة الإيقاعية، وهي عبارة عن أسطوانة من الخشب قطرها 5 سنتمترات مفتوحة من الجانبين وضيقة من الوسط تغطى إحدى فتحاتها بجلد السمك الرقيق جداً. ظل الغناء الريفي مغيباً لأسباب كثيرة، على رغم وجود مطربين كبار وموهوبين ابتكروا أنماطاً غنائية حديثة من صلب البيئة الريفية. وأدخلوا في غناء الريف ألواناً كثيرة من الشعر الشعبي والفصيح والموشح. ووضع بعض المطربين ألحانهم بأنفسهم، على رغم أنها كانت بسيطة التكوين، أي اقل من أوكتاف موسيقي أو بضع علامات موسيقية وذات مقام واحد أو مقامين في أفضل الأحوال. لكن تلك الألحان كانت شجية ومعبرة ومملوءة بالعاطفة، وبساطة تركيبها كانت تجاري البساطة في الأغنية العربية خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. انحسار الغناء الريفي... وانتشاره السبب الأساس الذي جعل الغناء الريفي ينحسر كل هذه الفترة حتى بداية القرن العشرين، هو انعدام وسائل الإعلام وعدم توافر المدارس الموسيقية في أنحاء العراق، وعدم اكتشاف تقنيات التسجيل. أما في العقد الثاني من القرن العشرين وبسبب توافر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، استطاع الغناء الريفي في العراق أن يحقق بعض الانتشار. ومع ذلك، ظل يعاني من التغييب منذ منتصف خمسينات القرن الماضي لأسباب سياسية، قياساً إلى المقام العراقي والموسيقى الغربية التي دخلت العراق مع الاحتلال البريطاني في العشرينات وأخذت حيزاً كبيراً في الإعلام والتعليم والمهرجانات والمحافل الموسيقية الدولية. وبسبب الهجرة من الريف إلى المدينة، منتصف الأربعينات، عرف الغناء الجنوبي الانتشار وانحسر دور الألوان الأخرى. في منتصف الستينات والسبعينات، ظهر مطربون وملحنون وشعراء يستندون إلى إرث الغناء الجنوبي مثل سعدون جابر وحسين نعمة وفاضل عواد وفؤاد سالم وقحطان العطار ورياض أحمد وحميد منصور وغيرهم استطاعوا أن يثبتوا إمكاناتهم وأن يأخذوا مكانهم الصحيح. ويعتبر الراحل ناصر حكيم واحداً من أهم المطربين العراقيين في الأغنية الريفية. كان يعمل خياطاً ويغني في المحل الذي كان يشتغل فيه. واضطر رئيسه في محل الخياطة الى طرده لأنه كان يقضي وقته في الغناء. وكان شاعراً وملحناً أيضاً، وغالبية الأغنيات التي قدمها كانت من ألحانه وتأليفه. في هذه الفترة، بدأ العصر الذهبي للأغنية العراقية، إذ اعتمدت على قصيدة عميقة تحمل هموم الجنوب وحكمته. قصيدة بعيدة من ترف المدينة لها مقدمة موسيقية طويلة ولوازم تتخلل الأغنية. مساحات الصوت الريفي أوسع من غيره بسبب التكوين الجغرافي وتعدد المقامات والإيقاعات. فالمقارنة البسيطة بين أغنية «يا طيور الطايرة» وأغنية «طالعة من بين أبوها» يجعلنا ندرك أن الأولى تحتوي على أربعة مقامات وثلاثة إيقاعات، أما الثانية فذات إيقاع ومقام واحد، كما يشير إلى ذلك أحمد مختار في واحد من بحوثه. |