الـــــــعــــــــــــراق عـلــى أوجــــــــــاع الـلـــــوحــــــــــة
الألوان على الأرض، ونوال السعدون أيضاً، ترسم أحزاناً توقفت عن رسمها منذ عام من البرد في دمشق. لم تغادر أثناءه الرسم إلا للرحيل إلى مشاريع بصرية أخرى، تختبر فيها طاقتها على التعبير عن أوجاع العراق بصور مختلفة. تمارس الفنانة التشكيلية العراقية نوال السعدون الحزن والفرح بالألوان في مرسمها المشهور؛ لتحوله في بعض أيام السنة قبلة لأمسيات ثقافية هربت من التصفيق الرسمي، وأجوائه الباردة. عرضت في آخر أمسياتها فيلمي "كلب أندلسي"، و"فيرديانا" للمخرج لويس بونويل، لمناسبة صدور كتاب عن السينما الإسبانية للناقد السينمائي السوري محمد عبيدو. المرسم الذي يتوسط حي القيمرية في دمشق القديمة، أشبه بمعرض جماعي للسعدون وحدها، إذ غطّت جدرانه لوحات متباعدة من حيث التكنيك، والأسلوب، والتاريخ. هو محاولة للمحافظة على علاقة طازجة مع ذاكرتها، والعيش مع قصص حياتها وأشخاصها الذين تختزلهم اللوحات. الدخول إلى المرسم يعني الغرق في دوامة ليل رسمتها، وأوقفت بومة عندها، كرمز لطرف شؤم واحد، يتحكم بالعراق ويكبّل أهله. وأغرقت رجلاً مكبلاً فيها. تعود اللوحة إلى مشروع تخرجها في أكاديمية الفنون الجميلة في بوخارست عام 1980. ضم المشروع مجموعة من الأعمال الغرافيكية المحمّلة رسائل سياسية منصبّة على الهم العراقي آنذاك، كالمجازر، والاعتقالات السياسية، وتكبيل الحريات. قرب بومة العراقيين تلك، علّقت على الجدار نفسه حزنها ووحدتها، بملامح تصخب بالألوان الحارة في ثلاث لوحات من الزيت، تنتمي إلى مجموعة زيتية صوّرت فيها تعبها وتشتتها اللذين عاشتهما بين رومانيا والدانمارك. تتضخم ملامح الوجوه في المجموعة، وتتمزق الأجساد، وتغيب ملامح الأنوثة عنها، وسط فراغ رمادي لا تعتمد عليه في إيصال فكرتها، ففضاء اللوحات في هذه المجموعة مجرد خلفية للكتل.
على الجدار المجاور، علّقت ثقبا من ثقوب الأرض في العراق؛ قبر جماعي يقف البشر فيه على رغم موتهم. رمادي اللون، ومكعب الشكل، فيه البشر أنقياء من كل لون. سكن البشر كل أعمال نوال السعدون الغرافيكية، يظهرون في اللوحات حتى عندما تتجه إلى أقصى التجريد، فتستعيض عن الأجساد بتفاصيل منها، وأشياء تدل عليها. تحوم في الغرفة الأخرى عوالم وتجارب جديدة، عاشتها الفنانة، ورسمتها. لوحات تجريدية وتعبيرية تسعى نحو أنسنة اللوحة، أو خلق بشر على هيئة لوحات. فالتجريد بدأ بالتسلل إلى عالم نوال السعدون في الدانمارك، حتى سيطر عليه إلى الآن، لما للمكان ولتجارب فنانيه وعوالمهم من أثر عليها، ولسعيها المستمر إلى استعادة تفاصيل من الفن الإسلامي الذي يحتل مساحة كبيرة من ذاكرتها البصرية المكتسبة منذ وطنها الأم. حاولت السعدون أن تكون في تجريدها كطفلة تعبث باللوحة، وترسم بفرح، على رغم إتقانها الكبير لتمجيد الألم. لوحات استعادة الطفولة من الكولاج، رسمتها بداية الألفية الثانية، وعرضتها في غاليري "شمبلا" في كوبنهاغن، وفي سنتر المتاحف في مدينة أوهوس الدانماركية، وفي الكثير من المدن الأخرى. تتميز أعمال الكولاج هذه بالانسجام الكبير بين المواد فيها، من قماش وألوان. قرب لوحات الكولاج البشرية، يقف بشر آخرون، لكنهم من السيراميك، بترت السعدون أطرافهم، وحرقتهم حتى تشوهت ملامحهم، لتغدو منحوتات تعبيرية تشابه ما عاشته المنطقة من حروب ودمار. على الجدار الآخر، عالم آخر، لكنه أكثر جرأة وتقدماً في رحلتها. منحت اللون الأبيض فيه كل اللوحة، وفتحت مغلفات لرسائل سود، وبيض، تخرج منها أيدي الذي غادروا، وشرايين سوداً قصيرة، في عالم باهت يسوده الفراغ الأبيض الذي يسيطر على المتلقي، ويصيبه بالتعب أمام اللوحات. وما هذه المجموعة إلا مشاريع قبور علّقتها نوال السعدون على هيئة لوحات. تنتهي بلوحة تنتمي اليها، ولا تنتمي إليها. إذ استبدلت الرسائل فيها بحذاء لشاب عراقي لجأ إلى دمشق، فأتعبته، وأتعبت حذاءه إلى درجة التمزّق الذي يظهر عليها في اللوحة. عمل حذاء الممثل اللاجئ أدى بالتشكيلية إلى السينما، عبر فيلم شارك في المسابقة الرسمية للأفلام القصيرة ضمن مهرجان دمشق السينمائي الأخير. سمّته "صورة شخصية"، وأعطت صاحب الحذاء دور البطولة فيه، بل قام على قصته التي بدأت من العراق وانتهت في دمشق. الفيلم التسجيلي، "صورة شخصية"، هو التجربة الأولى لتشكيلية أحبّت تغيير أدواتها في التعبير، لكن بإمكانات إنتاجية فقيرة، وبخبرة متواضعة. لم تتوقف السعدون عند تجربتها السينمائية الأولى، لأنها تعتزم تصوير فيلم آخر، أخذت فكرته من مسرحية "في انتظار غودو" للكاتب صموئيل بيكيت، تمثل فيه ابنة أخيها الممثلة والمخرجة العراقية التشيليانية عشتار ياسين، وتصوّره في دمشق القديمة، ويحمل اسم "انتظار بغداد". العبث لن يقتصر على الفيلم في مشاريعها المقبلة، لأن الأشلاء البشرية بألوانها الصاخبة تتناثر الآن على أرض مرسمها الذي بدأ يعيش تغيراً في ملامح جدرانه. "بورتريهات" لأشخاص لا يمكن التعرف اليهم، لأن أجزاء من أجسادهم، كالعين أو الرأس، هي كل ما يدل على وجودهم في اللوحة. أعين تتوسط اللوحات، وكأن شخصاً يقف خلف اللوحة، تشعر بوجوده، يراقب من يقف أمامه، الأمر الذي يزيد الإحساس بالأرواح التي تسكن اللوحات. دوائر اللانهاية تتخلل العناصر في اللوحات، من خلال خيوط قماش تتسلل إلى جسد اللوحات منتهية بدوائر اللانهاية تلك. لم تغير نوال السعدون من تقنياتها في خلق اللوحات، ولا يزال تعاملها مع الكتلة والفراغ ينتصر دوماً في الأعمال، أما تعاملها مع الألوان فيُظهر رغبة في العودة إليها بعد تقشف طويل. ما الحزن والموت اللذان يسكنان لوحاتها إلا حصيلة عقود من النفي، والحنين إلى وطن تعيش كل تفاصيل بعده. تعتقد أن لوحاتها تحمل الكثير من الفرح، لفرط الطفولة التي تعيشها أثناء ممارسة الرسم، لكن الحقيقة أن تجربتها التشكيلية أشد من العراق حزناً. نوال السعدون لم تختر حتى اسمها. هو اختارها على أيدي صحافيين كتبوا عنها. فهي نوال سعدون الواسطي. |