كان الفيلسوف الفرنسي الراحل ( جانكليفيتش) يقول:{ ان الموسيقى تحرك المشاعر لانها متحركة } ، وبقوله هذا يكون قد أشار بوضوح الى وظيفة الموسيقى الحسية والمشاعرية ، غير أن لهذا الفن مزايا جمالية اخرى ،ربما تكون اكثر أهمية من اثارة المشاعروالتعبير عن انفعالاتنا الداخلية ، وربما لا تختلف ، ايضا، عن كون الموسيقى لاتتدفق افكارها ولاتتفجر عيون ألحانها الا منخلال موسيقى مبدع وخلاق . عازف العود المنفرد والمؤلف الموسيقي العراقي أحمد مختار ، لايزال هو وموسيقاه ، متحركا وجوالا ما بيمن مدن المشارق ومغاربها ، حيث لايزال صدور اسطوانة من اسطواناته في فن العزف على العود ، يشكل حدثا موسيقيا يثيرالجدل والسجال . مختار يحمل متلقيه الى آفاق غير محدودة من خلال ايقاعات عوده المنفرد وتشكيلاته الفريدة . أصدر ، مجموعتين موسيقيتين ، هما : " تجوال " و" الكلمات " وضمتا أكثر من خمس عشرة مقطوعة موسيقسة ، كما أصدر اسطوانة "ايقاعات بغدادية " عن شركة " ARC " العالمية ، وهي محاولة جديدة ورائدة لتجسيد حوار فني بين العود والايقاع شاركه في تقديم هذه التجربة ، عازف الايقاع العراقي المقيم في منفاه الهولندي ستار الساعدي . في العام 1999 حصل من اتحاد الموسقيين البريطانيين على جائزة أفضل عازف وافضل موسيقي غير غربي ، اختير في العام 2001 ضمن ستة عشر موسيقيا لحساب الامم المتحدة ، المؤسسة الطبية للمتضررين من الحروب والارهاب ، يعد شهادة الماجستير في مركز الدراسات الشرقية والافريقية في لندن عن آلة العود والموسيقى الشرق أوسطية ، وعمل حاليا في " Ealing studio " بلندن ، حيث يقيم يقيم ويدرس آلة العود ، كما يعد ويقدم من فضائية المستقلة في لندن برنامجا تلفزيونيا بعنون حديث العود " التقيناه أثناء زيارته الاخيرة لبغداد قبل أن يعود الى منفاه البريطاني وساجلناه في هذا الحوار قبل يوقفه الرحيل
** هل ثمة مكونات ثقافية أو معرفية جعلتك حريصا على التنقيب في ذاكرة العراق الموسيقية ..؟
- في البداية أقول : انني أرى أن العراق يحمل موروثا ، ثقافيا وعرفيا ، بل حضاريا عميقا وشاملا واسعا ،وهذا في تقديري سبب كاف لان يحفز أي باحث أو فنان للغوص عميق في تلك الذاكرة الحضارية والبحث في جذورها ، فالجواهري الشاعر الراحل ، عندما كان ينقب في الموروث الشعري العراقي وتعرف أو يتابع المتنبي ، فان هذا اكتشاف بالتأكيد سيجعله لن يقبل بمكانة شعرية ، تضعه دون قامة المتنب الشعرية ، واعتقد أن هذا امر طبيعي جدا في مجالات الخلق والابداع ، وبالرؤية نفسها أتعامل مع الموروث الموسيقي العراقي الذي أنتج فنا موسيقيا راقيا ، أي أنني عندما أتصفح الذاكرة الموسيقية العراقية ، سأجد أن اغلب الآت الفن الموسيقي ، ان لم أقل معظمها ، ذات اصول عراقية ، ناهيك عن الاسماء المتالقة في تأريخ هذا الفن ، أسماء أبدعت وتألقت بجدارة أصالتها ، من أمثال ، اسحق الموصلي ، ابراهيم الموصلي ، زرياب ، وصولا الى شريف محي الدين حيدر الذي يعد بحق المؤسس الحقيقي للعزف المنفرد على العود في العراق ، مرورا بجميل بشير وسلمان شكرومنير بشير وآخرين . خلاصة لما تقدم ، أقول ، لايمكن لاي فنان موسيقي أن يكون في مصاف المبدعين دون ان ينظر الى هذا العمق الفني في الموسيقى العراقية لكي يستطيع أن يصل الى درجة ابداعية في هذا السلم.
** لقد تعرض المشهد الثقافي العراقي بكل مكوناته ، خلال الاربعين عاما الماضية الى تدمير وتخريب منظمين ، ألا تتفق معي أن ذلك قد طال فن الموسيقى بشكل عام وفن العزف على آلة العود بشكل خاص..؟
-بلا شك ، لانخلف في هذا الامر ، فقد تعرض فن الوسيقى ، وبخاصة التلحين ، لشتى أساليب التشويه والتزييف لان كل الانظمة السياسية التي تعاقبت على حكم العراق ، ادركت ما لفن الموسيقى من تأثير وأهمية في الشارع العراقي ، غير ان الزمن الآفل ما بين 1979 وحتى سقوط النظام في 9/4/2003 كان الاشد وقعا على هذا الفن ، فقد حاولت مؤسسات النظام القمعية والتبعية ، ان تجعله فنا شعائريا ، دعائيا ، يخدم اهدافها العقائدية ، لكن الفترة المنحصرة ما بين 1973 – 1979 وهي سنوات الجبهة الوطنية ، التي شهدت ازدهارا حقيقيا في فن الموسيقى والفنان ، ولاأغالي أو ابالغ اذا قلت : ان الفترة المشار اليها اليها ، فقد كانت بحق الفترة الذهبية في العطاء والانتاج ، سواء في التاليف الموسيقي أو الغناء . بأختصار عندما عمدت مؤسسات النظام على تسييس فن الموسيقى وتبعيته لصالح خطابه السياسي ، فانه تراجع وتخلف بشكل كبير ، بل ان وظائفه الحسية والوجدانية قد طالها الفساد والموت ، بطبيعة الحال ، ان البيت الثقافي العراقي والذي تعرض لشتى أساليب التخريب ، يحتاج الى ترميم واعادة بناء شاملين ، وهذا بالتأكيد يقع على عاتق ومسؤولية كل الادباء والفنانين المبدعين جميعا ، كلنا مطالبون ، وليس من حق أحد أن يتنصل عن هذه المهمة الانسانية قبل أن تكون وطنية، غير أن عملية البناء لا تتأتى الامن خلال حرية واسعة ، مسؤولة في التعبيروالانتاج على حد سواء، بغير عامل الحرية يفقد كل شيء جديته ويصبح مشروع البناء مجرد ريشة في مهب الريح!، بكل وضوح ادعو الفنان والموسيقي ، تحديدا، ألا يكون ، بأية حال من الاحوال ، تابعا للمؤسسةالسياسية وخطابهاالايديولوجي ،بل عليه أن يعيش زمنه الابداعي بقدر كبير من الاستقلالية الفنية ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، فأن المؤسسة الثقافية يجب ان تتفهم أنها معنية بتقييم انتاج الفنان المبدع ومؤهلاته على اسس ومعايير فنية وجمالية ، لا على أسس ولاءاته السياسية أو تبعيته للنظام ، من هنا أقول : نحن نحتاج الى آفاق واسعة ومفتوحة ،آفاق بلا أبواب أو جدران وسقوف صارمة ، خذ مثلا ، أثناء دراستي الاكاديمية في معهد الفنون الجميلة ، كان هناك بعض العلماء والمفكرين يحظر علينا دراستهم أو البحث في اطروحات الفكرية والمعرفية ، لالشيء الا لانهم من اصول غير عربية ، كما يدعون هم ، امثال الفارابي أو ابن سينا وغيرهم كثير ، ثم ألا تتفق معي ان هذا سقف أكثر بشاعة من أية بشاعات أخرى .
** لنعد الى موضوعة تعدد أو تنوع مدارس العزف على العود في الوطن العربي أو الشرق أوسطي ، وأين - تضع المدرسة العراقية وسط هذا التنوع الهائل ؟
في الحقيقة لو توخينا الدقة والموضوعية ، فان المدرسة المصرية تأريخيا ، تقع على رأس هذا التنوع ، لكنهل تميزت بالطربية فحسب ، أما المدرسة التركية التي اعقبتها مباشرة فأنها تميزت بالتقنية فقط ، في حين أن المدرسة العراقية والت يأعقبت المدرستين ، فأنها جمعت بين التقنية العالية والطربية الابداعية وصولا الى التعبيرية الموسيقية ، وبلا مبالغة أو انحياز فان المدرسة العراقية هي التي ابتكرت اسلوب العزف المنفرد على العود ، اما قبل ذلك ، غان عازف العود كان مرافقا للمطرب أوعازفا مع المجموعة ، اضافة لما ذكرت ، لايفوتني أن اذكر ظهور بوادر لبروز مدارس اخرى ، كالمغاربية واليمانية علىسبيل المثال.
** لكن بعض الباحثين يرون أن المدرسة اليمانية في العزف على العود تلي المدرسة العراقية مباشرة ، ما تعليقكم على هذه التراتبية؟
- بدءا ، أود أن اوضح معلومة ، وهي أن العزف على آلة العود يتكون من اسلوبين رئيسيينهما : اسلوب العزف بالريشة واسلوب العزف بالاصابع ومن سمات الارتقاء بالعزف بالريشة هو التنوع الايقاعي للموروث الموسيقي الذاتي للعازف ، والمدرسة اليمانية ، هنا بشكل خاص ، تتميز بتنوع ايقاعتها وجمالياتها بين كل البلدان العربية ، لذلك فان ريشة العازف اليماني تميزت عن كل أسليب العزف بالريشة لدى غالبية العازفين العرب ، من هنا تبرز خصوصية أو أهمية اسلوب العزف اليماني .
**ثمة علاقة بين الموسيقى والشعر ، كلاهما له قدراته الفنية الخاصة على انتاج الصور، الموسيقى تعتمد في ذلك على قوى الصوت الخفية والشعر يعتمد على لغته الجسيدية للاشياء ، هل حاولت أن تقارب بينهما في بعض أعمالك؟
- اذا اتفقنا أن المدخل المشترك بين التعبيرين هو الايقاع باعتباره كامنا في الاثنين ، اضافة الى عناصر اخرى متقاربة ان لم تكن متشابهة ، مثل الصورة الشعرية والصورة الموسيقية ، مع الاشارة ، بطبيعة الحال، الى اختلاف وسائل انتاج الصورتين ، اضف الى ذلك الالقاء الشعري والاداء في العزف " الديناميكية" أو "الداينمك" أقول في مثل هذه المقاربات يحاول الفنان الموسيقي المبدع أن يولف أو يعشق بين الاسلوبين لينتج بعد ذلك قطعة موسيقية مستوحاة من صورة شعرية في قصيدة ما ، وقد اشتغلت على ما تحدثنا به ، على حركة الطائر في قصيدة " في الحانة القديمة" للشاعر العراقي الكبير مظفر النواب :
" أصغر شيء يسكرني في الخلق فكيف الانسان
سبحانك كل الاشياء رضيت الا الذل
وان يوضع قلبي في قفص في بيت السلطان
وقنعت يكون نصيبي في الدنيا
كنصيب الطير
لكن سبحانك
حتى الطير لها أوطان
وتعود اليها وأنا مازلت أطير
فهذا الوطن الممتد من البحر الى البحر
سجون متلاصقة
سجان يمسك سجان"
انني في هذا النص النوبي المتألق ، ركزت على حركة الطائر وتحليقاته ، لامنحهما دلالة الحرية والانعتاق والخلاص والاغتراب في آن معا ، من أوطان تتفشى فيها الزنازين والقيود والمعتقلات .
**ماذا عن مشاريعك الابداعية الان ، أو في المستقبل؟
- أولا أنا أسعى بجهد دؤوب الى تكوين هويتي الموسيقية الخاصة بي ، طبعا مع تقديري ومودتي للموروثات الموسيقية العراقية أو العربية وايضا لكل الاسماء المهمة التي أبدعت في فن العزف على آلة العود ، عدا ذلك فان زمن الابداع المقبل سيكون الشاهد الوحيد الذي له حق الحديث عن ذلك .