بين الضرورة والحرية، لغة تتعرى مع عري الصحراء، وتكتسب شرط هويتها الخاصة، من انحناءة فنان يرسم صمته الملوع في الفراغ، فيما تمتد الأسئلة ذاتها التي صاحبت تاريخ حياته، منذ أزل وجوده، حتى لحظة ارتسام هذه السطور على صفحة الورق، وكأنها تنتهي ابداً في اللامنظور. هنا تصبح حياة اللوحة، مرهونة بشرطها الإنساني، ويغدو اللون، اشد حرارة من الدم.. وتحت مسقط ضوئي واحد، يقع الظلان وراء مخلوقين يقتسمان فسحة الوجود معاً: الحصان والإنسان .. حيث لاوجود حقيقي للأشياء خارج الفن . في مثل هذا المشهد الخلوي، تكتسي اللوحة بالكثير من الاضفاءات الشكلية، لتصبح منسجمة مع جوهرها الحقيقي، وهي اذ تشرف على هذه النهاية، تكون قد افصحت عن حالة من الارتداد الى اصلها الخليقي الأول، هكذا أذن.
تبدأ عناصر الفن بالتوغل في تاريخها الخاص لتستحيل في النهاية الى سحبات من الوان بنية في حال، غبشية في حال آخر، متوترة صارمة أو غبارية منسوجة من خيوط الأفق، غير انها تمضي في خط سيرها الدائم وراء ذلـــك الاحديداب الأفقي، لتلتحم بالحركة الحية للأشياء، ثمة كوكب صحراوي يبرز في هذا الوجود المستوحد النائي ليبعد عنا وهم السراب البصري بثنائيات الأشكال، حين يقودنا عنصر المجازفة الى الكشف عن عالم يقع ضمن معجزات الطبيعة، فيما يتجاسد الروحي والارضي معاً ليؤلفا لغة الحرية والحضور المجرد في غروب لوحة او اصباحاتها، هذا الامتداد الرملي الرائع، هو صنع الحرية التي لا نستطيع ان نحس بوجودها الا من خلال الحريق الفاجع الذي تحدثه في دواخلنا، فيما يسامت ضمن هذا المسار الزمني، هاجس الفنان مع يقظة الوجود المستثار، وتغامر الأشكال والألوان قريبة او بعيدة في البحث عن عناصرها البدئية التي جابت ارجاء الارض منذ يوم ولادتها حتى ارتسامة هذه الطيوف على مهاد لوحة عذراء، لتصبح في النهاية، ذاكرة الرمل والجسد، ما من فنان عراقي خرج من تحت خيمة الراحل (فائق حسـن) ألا وتزود بخبرة الرسم على رمل الصحراء، ولكن الحفر في الوجدان، والنسج بخيوط البصر، والرسم بماء الروح، مهمة اكبر من ان تطولها طاقة فنان، ذلك لأن التراب الذي يخترق هذا الجحيم المتلظي، انما يتجه صوب رئات كل الاحياء في ذلك العالم ليصبح جزءأً من كيانها، وبعضاً من ملح وجودها، وحين تكون معرفتنا قاصرة عن ادراك ما في هذا العالم من أضداد، تكون لوحات الفنان (غالب المنصوري) قد استحالت الى رؤىً ذكروية مثقلة بالحنين الى مرابع الطفولة، ولم يعد الإنسان لوحده، هو تحفة جمالها الخالد، بل يشاركه مخلوق نبيل جميل آخر هو الحصان، فيما يتوازى الظلان معاً، ويتحول التراب في هذا التوازي المنظور الى غبشٍ من الحرير يبدأ بالاختفاء والظهور، عبر موشور لوني يحللها الى لغة تشكيل غبارية مألوفة ومتصورة في آن واحد، خيول (غالب المنصوري) هي رموز انتماءاته الريفية التي لملمها من ساحات زمنية امتدت اعواماً طويلة، حتى استقــــرت فيها سني الفعل العبق، والحاضر القلق، والمستقبل المتسائل: أين، متى، وكيف؟ فإذا أردنا ان نرصد اعماله الفنية التي تناثرت على سطوح تلك الساحات الزمنية الواسعة، فما علينا الا أن نذيب ذلك النقاء الشجي الخالص على ورق من اسىً شفيف لا يخدش حلم طفولته، وبهذا وحده، نستطيع ان نخرجه من (خانة) رسامي الخيول الى ما يمكن ان يفتح افق الرسم على عالم الكشف والابتداع، لتظل الصورة نابضة بالظل والنور، بالحركة والإيماء، بالشجن والتطلعات الحزينة الى ما (كان)!
في زمن ما، كانت الصحراء تستكين، كمشهد أسطوري تحت غلالة شفيفة من غبـار لا لون له ولا ايماض فيه.. ثمت حركة شبيهة الوعد تسري بيــن خطين وهميين في الأفق البعيد.. تقترب اللحظات من نهايات تردداتها اللمحية، ثم تنطفئ على مهاد لوحة عذراء.. رؤوس خيول تأتي من الغيب او المجهول، تعلو صهواتها رؤوس آدمية ملثمة بالبياض المطفأ، وملفعة بالرمادي الخافت.. حينئذ تكتمل كلية المشهد بين ضفتي الغياب والحضور، وكأن السابح فيها هو عين الناظر، وليس الفارس الذي كان يمارس لعبة الطراد مع الزمن، هكذا كانت اللوحة، تنشأ وتنمو وتكتمل بين يدي فنان مشغوف باستقراء المنظور، وحين تمتلك المشهدية كامل أنساقها تذهب اللوحة الى متحف الأيام او الى الا مكان!.. غير ان الزمن تغير كثيرا فاجأنا بتعدياته المفتوحة على كل المداليل، فما بين نقطة البداية ونقطة مفترضة ترتسم على افق اليوم، كانت الأفكار تغالب ذاتها، وتصبو لارتداء جسد الحاضر بكل تناقضاته وتأزماته،. وهكذا استطاع الفنان غالب المنصوري ان يلعب دور المستجيب المطاوع وان يجعل من تلك المساحة البيضاء سبيلا للإفضاء الى سرية الدواخل ومساراً لحوار الأفكار.
كتل من عالم غريب، يستقر بين الحلم واليقظة، وبين الخيال واليقين، تسبح في الفراغ دون ملامح.. تحمل رموزاً ومهاميز والتفافات حلزونية وتأوهات، قد يفزعها جناح طائر يغادر قفص الدنيا ويذهب صعداً في الأعالي، او يستـقر على حافة العالم، مؤثراً البحث عن مملكة ضائعة بين أنقاض ماضيــــــــــة.. كل الأشياء هنا لا تبوح بأسرارها، ولكنها سرعان ما تنتقل من الحركة الــــى السكون، ثم ترتد عكسيا الى نقطة البداية.
إيقاع حزين يتردد في مغاور هذه اللوحات التي بارحت أمسها لأول مـــــــرة، وكأنها تقــول لنـــا عبر إيهامها الدرامي، بأنها مازالت قادرة على السيولـــة والامتداد كنهر الزمان، ومن الظل والضوء في بهر الاصباح الوليدة، يبــــدأ الصعود الى شفق تتناهى لديه الأصوات والمراجع وتباريح العذاب، وحيـــــن يتحول الظاهر الى الباطن والمنظور الى المستور، يتأكد منطق الضــــــرورة الداخلية كخط مواز لما يراود ذهن الفنان من خواطر وأفكار، فيما تصبـــــــح الزاوية القائمة بين التمثيل والتعبير، أكثر انفراجا، والمسافة اشد بعدا،ذلك لان المساجلة بين الصورة والمثال، لم تعد قائمة، وان الرمز والصــــــــوت الاشاري، هما كل ما يقرأه المشاهد ويعقد الحــــــوار معه، وهذا ما يشير الى تحول نوعي واضح يسجله الفنان لصـــــالح ما يمكن ان يحيل المرئي الـــــى اللامرئي ويجعل من الرسم فضاءً روحياً تتناغم فيه الشــوابه، وتتنــــــــــافر الأضواء! مثل هذا التصعيد الاشاري، يبــــدو في جانبه الشكلاني بأنه يمــثل فترة زمنية سابقة، كانت ترد الحروف الى جوهرها الروحي، مثلمـــا كـانت تضيف اليها إيماءات لونية تتغير وفق مساقط الضوء، وتتوازن كلياتها بين طرفيـــــن لا تجمعهما سوى قدرة الفن على الإيحاء
|