لم يثر فنان بين ابناء جيله جدلاً مثلما اثار سعدون جابر، فهو اذ حسب على جيل السبعينيات في الغناء العراقي، الا انه جاء بعد أسماء هذا الجيل، ياس خضر، فؤاد سالم، فاضل عواد، حسين نعمة.... بينما كان حضوره في تصاعد محلي وعربي في آن واحد، تحرك بمساحة صوتية استثمرت (غناء البيئات) عبر ألحان محمد جواد أموري ومحسن فرحان وكوكب حمزة، وكان منافساً في استقطاب الاسماع الى صوته منذ (سندباد بلا شراع ولا سفينة) و( تلولحي بروح قصيدة) و (أفيش بروج الحنية)، بينما كان لكل من ابناء جيله مايتوج به قلادة الغناء العراق، من ينسى مثلاً (الله شحلات العمر) لفؤاد سالم ، و(عيني يم عيون تضحك) لفاضل عواد ، و(ياحريمة) لحسين نعمة ، و(لا تسافر) لياس خضر؟
انطلاق سعدون جابر منذ نهاية السبعينيات وبداية الثمانينات منذ القرن الماضي ، كان يخضع لتجريب فني والتعامل مع ملحنين من أجيال مختلفة وعدم الركود لسمة الحزن المتراكم التي ميزت الغناء آنذاك، فبعد مرحلة كوكب حمزة ومحمد جواد أموري ومحسن فرحان، جرب سعدون جابر مساحات صوته في غناء اقترب من المستمع العربي وجذبه، كما في الحان كاظم فندي مثلاً، وتوج ذلك في مجموعة أخرى من الاغاني لحنها بليغ حمدي سقط في فخ عدم التوافق بين (روح النص وآلية الكلمات) عندما لم يستطع ان يعبر عن روح المفردة العراقية في حس موسيقي كما في أغنية (ما رايد مراسيل) فجاءت باردة مفخخة بهالة اسم بليغ حمدي، ولم تجذب المستمع العراقي، فيما نجح أيما نجاح الفنان صلاح عبد الغفور في أداء كلمات الاغنية نفسها بلحن عراقي بامتياز عذب في (خسرتك ياحبيبي)!
اخلاص سعدون جابر للغناء جعله معادلاً موضوعياً حيال الوعي الفني الذي امتاز به، فكانت الخسائر التي أبداها في أكثر من مرحلة من تجربتة الفنية، خصوصاً في مرحلة الثمانينات وبداية التسعينيات تشكل بالنسبه له حافزاً فنياً باتجاه الانتقاء الذوقي والفني، كان مصراً على ان روح الغناء هي التي تدفعه للاداء بتعبيرية، وليس الشهرة أو المال مثلاً، لم يستكن الى الحنين للماضي كما فعل أبناء جيله عندما غلفتهم الخيبة وأصبحوا يدورون حول تاريخهم الماضي فيما لم تتحرك أصواتهم تجاه المستقبل.
قفز سعدون جابر بداية التسعينيات بذكاء فني مع طالب القره غولي في لحن قصيدة السياب (صبر أيوب) عندما حركا معاً أوتار الروح بينما بلادهما ترزح تحت طوق حصار أعمى جائر، فكانت نغمات القره غولي تستجيب بحسية تعبيرية هائلة للألم العراقي في مقطع (لك الحمد ان الرزايا عطاء وان المصيبات بعض هذا الكرم).... واثارت هذه القصيدة عصفاً ذهنياً ونقدياً لم يرافق اي أغنية عراقية من قبل.
وبقي سعدون جابر يتأمل المستقبل بحس فني وذوقي بثقة من يدرك الطاقات الكامنة في صوته واختياراته، حتى ان وصف الناقد الموسيقي عادل الهاشمي لصوته منتصف التسعينيات (بالناحل الذي يدب فيه الوهن والارتخاء) يصبح بلا تأثير نقدي اليوم عند الاستماع الى ادائه البارع للمقامات العراقية وقبلها انتقاء قصيدتين للمعية عباس عمارة ولحن كاظم فندي وكأنه يقول ها أنا مع لواعج الروح العراقية في أغنية (خلصت صدك).
هل اكتشف سعدون جابر صوته بشكل متأخر، وهل تحسس الحنين المفعم في المقامات، وقبل التحدي الصعب بعد ربع قرن من تجربته؟
من يستمع الى أداء سعدون جابر لمقام المخالف الصعب مثلا أو المقامات الاخرى في اعادته تسجيل أغاني (انا الوفي .. ياحنينه .. ياجواد .. هذا مو انصاف منك.. . ماريده الغلوبي.. فرقاكم بجاني .. على شواطي دجله .. يا ام العيون السود .. وشلون حالي .. وين القى ...ياخشوف.. ماريده الغلوبي ...الليله حلوه ...خايف عليها ...قولي ياحلو ...وشبان مني ذنب .. ياجواد ...ون ياقلب ) سيدرك انه قبل الرهان الصعب في الغناء وتفوق ببراعة الاداء وتعبيريته، انه القادم من (أغنية البيئات) وحتى الغناء الريفي احياناً.
المقام أداء لايقترب منه اي صوت، وهذا يفسر لنا مثلا لماذا أختار الفنان كاظم الساهر (مقام المخالف) في تلحين أغنية (حاسب بالبعد عليّ) لصوت لطيفة التونسية وبرع بذلك، لكنه لم يؤد الى الان اياً من أغانيه على هذا المقام؟!
وسعدون جابر في (مخاطرته الفنية المقامية) يؤكد وفق التقويم النقدي المفرط بالتفاؤل أن صوته يحمل مواصفات التصاعد مع العمر.. كان مؤثرا في مقام الصبا وحزينا في مقام اللامي مثلما هو ملتاعاً في مقام المخالف.
اختياراته لروح الغناء العراقي وهو يقترب من الستين أشبه بدرس فني مدهش وممتع يكتنز بالحس والتعبيرية المستلة من أعماق صالح الكويتي ومحمد القنبجي وسليمة مراد وناظم الغزالي....
ربما أراد ان يقول لجمهوره الذي أحبه وللجمهورالذي لم يفضله ها أنا أؤدي اصعب دروس المقام العراقي بمران ودربة ولقانة ولكم ان تحكموا....!
استمعوا الى صوت سعدون جابر الجديد في اعادة القديم من الغناء لتدركوا مامعنى أن يتسق الفنان مع ذاته، ومامعنى ان يوقد الحنين بعد ربع قرن من الغناء، بل وبرغم كل المصدات والخيبات على الفنان المخلص لفنه ان لايفقد صلته بجمهوره.
وسعدون جابر في مقاماته العراقية نجح في أطلاق رساله فنية لتعيده الى القمة، مثلما اعاد قوس الكلام والسؤال على ابناء جيله ليخلصهم من هاجس الخيبة وتكرار القديم |