إلتقيت بهذا الشاب المبدع المتميز، الموسيقيُ ومعلم الجيتار الذي فرّ من بلده بسبب مضايقات الفاشية الصدامية وملاحقاتها للمبدعين المتميزين الذين يغنون للحياة والحب والحرية .
حط رحاله بدءا في البلد المجاور الأردن بعاصمته الدافئة الجميلة عمان التي فتحت له بابا وإن ضيقا لتفجير مواهبه . إشتغل في التعليم الفني ، حيث عكف على تعليم الأطفال فن الموسيقى ، فن الحب ، فن إحتضان الجيتار بشغف وملامسة أوتاره برقة ومهارة .
لم تكف انظاره على التطلع صوب البعيد ، صوب بلد الأحلام وموئل الفلامنكو الخلاق ، إسبانيا . حالما حانت الفرصة وتمكن من تحصيل وقود الرحلة الطويلة ( المال ) ، طار صوب مدريد الخالدة ، مدريد لوركا وبيكاسو ولغة الفلامنكو .
في إسبانيا درس مازن الفن على اصوله ففهم تقنياته الحديثة وأوغل في تاريخه وعاش رموزه وابطاله وعايش طيور الفلامنكو الرائعة وهي تحلق بأجنحة من نور على خشبات المسارح وبين جمهور راقٍ ذوّاق من كل انحاء العالم . ولم يستقر به المقام هناك بعد أن اخذه من العلم والفن كفايته ( أو بعض كفايته على حد تعبيره ) ، فتوجه صوب اوسلو الصغيرة الجميلة ليستقر هناك وينشط على مسارحها وبين جمهور شاب شغوف بالحياة ومحب للفن والتجديد . كان بإنتظاري ( او بالأحرى بإنتظار اوتروب – الصحيفة ) في كافيتيريا ( اوبوس) المعلقة في الطابق الرابع من محطة القطارات الرئيسية في اوسلو . - هُنا اجلس غالبا إذا لم تكن لدي انشطة فنية أو حصص دراسية ، هنا استمتع بالجلوس في هذا الركن بالتطلع في الناس ومعايشة افراحهم واحزانهم الصغيرة وهم يرحلون أو يعودون ، يستقبلون أو يودعون ..! ويضيف - لقد وجدت ذاتي هنا يا عزيزي ، هنا في النرويج ، في هذا البلد الصغير الجميل الذي يقدر الفن ويعي مسؤولياته الإنسانية تجاه كل شعوب الأرض ، هنا وجدت الأمان ، السكينة ، السلام و...الفهم ( يعلق باندوليريوس وعيناه تجولان بين الناس بحب وشغف ). - من هو مازن باندوليريوس ؟ سألت بإهتمام
انا عراقي يا سيدي ، من جنوب العراق ، من الناصرية ..اور الخالدة ... هذه المدينة السومرية العتيقة الجميلة التي ترعرع على بطاحها إنسان ما بين النهرين الأول ...بل إنسان ما قبل التاريخ الأول الذي كان فجر وعيه قد تحقق هناك في تلك الأرض المباركة .
( يتهدج صوته وتلتمع عيناه وهو يستذكر اور والناصرية والأهل وعصر طفولة إبداعه الأول ). يتابع بذات الشغف ... يُقال أن اول قيثارة في التاريخ صنعت قبل خمسة آلاف سنة في اور .. صنعها اجداد العراقيين الأوائل ..السومريون ... يدعي البعض أنها صنعت في الصين القديمة .. ربما .. لا ادري ..لكني ارجح اور .. فهي حتى يوم الله هذا اكبر رافد للإبداع الفني العراقي ..) . ويعود للحديث عن نفسه بعد أن يعتذر بلطف لإنجذابه المباغت صوب التاريخ والأجداد والقيثارة الأولى .. يعود ليتابع :
ولدت في ستينيات القرن الفائت .. في بواكير فتوتي الأولى عشقت الموسيقى .. بالذات الموسيقى العراقية القديمة .. درست تاريخها ..إهتممت بتاريخ الفن الموسيقي لدى اقليات العراق المبدعة وبالذات يهود العراق قبل رحيلهم الإضطراري عن البلد ..بالإضافة لدراساتي الخاصة ولتعلمي الموسيقى على ايدي فنانيين كبار من مدينتي ، وجدت أن الدراسة الأكاديمية مهمة ايضا لي ولمستقبلي الفني ، فهي على الأقل ضرورية لتوثيق المواهب وتعزيزها بالعلم الرفيع .
توجهت صوب العاصمة بغداد حيث درست الفن هناك على اصوله ، ثم إشتغلت بما تعلمت في مسارح بلدي كما وتوجهت صوب التعليم حيث ارى أنه مهم للغاية لنشر قيم التسامح والحب ، حيث الموسيقى والحب صنوان لا ينفصلان . بعد أن تعرضت للمضايقات والإبتزاز خرجت من بلدي مضطرا كما كل احرار العراق وكان البلد الأول الأردن ثم انتقلت صوب اسبانيا ولاحقا النرويج ، وها انا هنا منذ سنوات كما ترى ( وقهقه بلطف ) .
الم يتسنى لك بعض التبني والإحتضان في بلدك ؟ الواقع أني وجدت قدرا من الإهتمام في البدء ، منحوني فرص السفر إلى الخارج لتعلم المزيد من تقنيات الفن ، لكنهم لا يعطون شيئا بالمجان وهذا ما وجدت فيه تناقضا كبيرا مع قيمي الإخلاقية وتاريخي ، فأفلت من قبضاتهم مع الإحتفاظ بكرامة الفنان في داخلي ومسؤوليته الأخلاقية .
انت تعرف أن الفن رسالة ..إنها رسالة الحب التي تتناقض مع رسالة العنصرية والكراهية التي تتبناها الفاشية ...اي فاشية في اي زمان ومكان . - بلغني انك نلت الكثير من الجوائز في اكثر من بلد بينها رسالة شكر من الأردن على مشاركة مهمة في حفل تتويج ملك هذا البلد العربي الجار لكم ..هل هذا صحيح ؟
نعم كانت لي مشاركة في حفل جلوس الملك على العرش في معهد فني كبير في هذا البلد ، وقد اسعدني للغاية إستقبالهم الطيب لفني بذات القدر فأنا احترم انظمة الآخرين السياسية ولا أُعنى بشؤونهم الداخلية لأن هذا ليس مسؤوليتي بل مسؤولية شعبهم فكيف وهذا الشعب ينتخب ممثليه بقدر كبير من الديموقراطية وإن ( بصورة نسبية ) ، على اية حال انا رسالتي نشر المحبة والتسامح والفهم وتلك هي رسالة الفن فهل ارفض إداء رسالتي ..؟ ويتابع ... كما يقول شكسبير ..(لا يمكن للفنان أن يكون عدائيا ) ، لا استطيع أن ارفض دعوات الآخرين وإن اختلفت معهم قليلا او كثيرا .. شريطة أن لا يكونوا معادين لمباديء الديموقراطية والحب والسلام التي هي رسالتي ورسالة كل فنان صادق امين على فنّه . - نعم ..افهم ذلك يا عزيزي ..انا اتابع نشاطاتك وأراك غالبا حاضرا في كل المناسبات التي تنشط فيها الدعوات للديموقراطية والسلام والمحبة ، واغلب رسائل الشكر والجوائز التي نلتها ، حصلت عليها في دول ديموقراطية وفي مناسبات تدعو للديموقراطية والحب والسلام ، سؤالي الآن يا صديقي ..
ما هو سرّ إهتمامك بالفن اليهودي العراقي القديم ؟. - الحقيقة اني انظر للناس ، كل الناس بغض النظر عن اعراقهم وقومياتهم واديانهم ، انظر لهم من الزاوية الإنسانية ومن خلال عطاءهم الفني والإبداعي عامة ، خصوصا ذلك الذي يخدم القيم الحضارية الإنسانية الأساسية كالحب والسلام والتعايش ، وبالنسبة ليهود العراق فإنهم كان لهم وجود في هذا البلد الطيب منذ ثلاثة آلاف سنة أو يزيد وقد خدموا البلد بمختلف انظمته واطواره وكان لفنهم الرائع دور كبير في الفن العراقي عامة ، والموسيقى والغناء اليهودي العراقي كان له ولا زال قصب السبق في نشر الثقافة العراقية وتعزيز الدور الحضاري لهذا البلد ، لأجل هذا عنيت عناية كبيرة بدراسة الفن اليهودي وأحببته بقوة كجزء فاعل من الفن العراقي الذي رضعت رحيقه منذ طفولتي الباكرة . - باندوليروس ...اراك ايضا متحمس غاية الحماس لنمط الفن الموسيقى الأسباني وبالذات الفلامنكو ، وقد سمعت جملا موسيقية إسبانية في موسيقاك الجميلة ، لماذا ؟
منذ طفولتي إنشغلت بالفن الإسباني كجزء من إنشغالي الفني العام ، والفلامنكو يا عزيزي هو ابرز إهتماماتي لهذا سعيت بجهد لتعميق معارفي الفنية من خلال السفر إلى اسبانيا . حاليا انا اجتهد للتوفيق بين العديد من الأنماط والمدارس الموسيقية العالمية من اجل الخروج بنمط جديد حسن التوافق يجذب إهتمام وإقبال المهتمين من شعوب مختلفة بذات القدر يعزز الروابط الإنسانية بين الشعوب .
هل تعتقد أن الفلامنكو نجح في النرويج ؟
نعم ، ارى إهتمام الناس كبير هنا في النرويج وقد لمست هذا من خلال الإقبال الشديد على حفلات فرقتي المتواضعة الناشطة دوما ، ومن خلال الفرق الإسبانية والأمريكية اللاتينية التي يستضيفها البلد مرات عدة في العام الواحد ، والتي تستقبل من الشباب النرويجي بإهتمام وإندفاع كبير . الاسكندنافيون عامة منفتحون بقوة على كل إبداعات الفن ، حيث يرونه فنا صادقا جميلا يدعو للمحبة والسلام ويحمل دوما الجديد الجميل من العطاءات الإنسانية . - سمعت من بعض معارفك ، انك توقفت عن المشاركة في اي نشاط خارج النرويج فما السبب يا ترى ؟
هذا صحيح .. لقد كففت عن المشاركة في اي نشاط بحكم إرتباطي المهني حيث إني موظف اساسا في هذا البلد وفي اوسلو بالذات ، وهنا اجد إستقرارا نفسيا كبيرا وقدرة على التأمل والإبداع والتعلم بإستمرار ، بينما الإنشغالات الخارجية خصوصا في هذه الفترة ، فهي تضيق علي فرص التعلم والتعليم ، خصوصا وإني اقوم هنا بالتدريس ايضا علاوة على الحفلات وإدارة فرقتي. وقد تلقيت دعوات خارجية وداخلية في مدن أخرى من النرويج وقد اعتذرت عنها للأسف . - ماذا بشأن فرقتك الفنية المسماة ( مازن باندوليروس ) ، اين هي الآن وما هي آخر الأنشطة ؟
هذه الفرقة قمت بتأسيسها عام 1998 حين كنت في اسبانيا ، هي فرقة صغيرة كما تعرف ، ثلاثة من الأسبان مضافا لي طبعا ، عبر السنوات التي مضت ، توسعت الفرقة كثيرا وهي ناشطة الآن في النرويج . لقد أنظم لنا العديد من الموهوبين المبدعين من الراقصين والراقصات والموسيقيين والمغنين ، ومن بلدان عديدة .. يعني ..فرقة عالمية متواضعة ( وقهقه بلطف ) . نحن نؤدي رسالة الفن هنا في اوسلو وباقصى قدر من الأمانة
استاذ مازن .. (اوتروب) تشكرك غاية الشكر على تلطفك باللقاء للإجابة على تساؤلاتنا ، ونتمنى لك المزيد من التوفيق والنجاح والإبداع مع الأمل بلقاءكم قريبا في مهرجان ميلا العالمي الذي سيقام كما كل عام في اوسلو وبالذات على ضفاف خليجها الرائع.
وأنا اشكركم على هذا اللقاء اللطيف وارجو إيصال محبتي وعواطفي الخاصة لقراءكم الأعزاء في النرويج وكل اسكندنافيا ، واتمنى لصحيفتكم الحضور في مهرجاننا القادم في آب ولكم محبتي .
اجرى المقابلة محرر صحيفة ( يوتروب ) النرويجية ترجمة ستار موزان |