فاضل عواد أشعل الحرائق في دمي وتركني تجربة تبحث عن شاطئ ترسو فوق رماله وسفينة تتقاذفها أعاصير الوحشة، بحثت في كربجنة في جبالها القدسية عن معنى أنبته فاضل عواد وادخله في منظومتي المعرفية التي كانت طازجة تبحث حتى قبل وجودها في عالمها الافلاطوني الضائع في الابدية عن تحقق عن تشكل عن كينونة تقودها الى الامساك بالألهي المغيب فاضل عواد اعطاني مثالا يصعب تحققه في الواقع انه من صنع خيال موغل في التجريد ولهذا اصبحت ذاتي دائما مسرحا لصراع بين عالم الحقيقة الذي لايكشف عن اقنعة المعنى وعالم الواقع المتغير الذي يسفر دائما عن صورة مغايرة لما نكافح من اجل بلوغ قمة ما يتمخض عنه من اسرار. فاضل عواد فيه نفحة من العشق الازلي يغطيها بواقعيه اليومي الذي ينزفه على ارصفة المتداول والعادي وكأنه لايريد ان يميط اللثام عن الحقيقة الكبرى في داخله حتى لاتحرق من لايملكون عيوناً من افق تستوعب جمالاً لاتحده حواس الانسان.
ادخلني فاضل عواد تجربة فائقة الشفافية ومنذ اكثر من 27 عاماً لم استطع ان اجد باباً لخروج مشرف من هذا الحب الذي وضع قيوده المعرفية على تاريخي الذي يتشكل وكأنه ليس من كثافة هذا العالم.
اين الباب الذي اخرج منه؟ اين الافق الذي يرسم ذاته بالوان الموت الذي يزورني كل يوم وكأنني على موعد مع خلاصه القادم. عندما وقعت في الحب البشري وفشلت فيه فشلاً لاحدود لفجائعية قادني فاضل عواد الى استبدال هذا الحب بحب اعلى ففتح لي نافذة اطل من خلالها الى مجد الله وحبه السرمدي. ولد فاضل عواد في منطقة الكرخ ثم انتقل الى مدينة الحرية وهناك اكمل دراسته الابتدائية، كان ذكياً ومجتهداً واثار اهتمام مدرسيه الذين مازالوا في مدارس المشاهدة والجنيد والنجابة يذكرونه بنوع من التقدير.
لم يحترف الغناء باعتباره هدفاً نهائياً انما اقترب منه بقدر ما كان الغناء يقربه من عالم الخيال ففاضل عواد يعيش الخيال الانساني المشبع بروح الثقافة كهدف يطمح اليه الانسان في حياته المحدودة في هذا العالم. لم يتوقع اصدقاؤه في برنامج ركن الهواة الذي كان يقدمه كمال عاكف منتصف الستينيات ان يكون لهذا الفتى المتوزع الاهتمامات دور يمكن ان يلعبه او ان يكون له دور مؤثر في المشهد الغنائي، ولكنهم لم يكونوا قادرين على اكتشاف ان الخارجي والسلوك المندفع يخفي بداخله ذاتاً تفكر بطريقة مغايرة ثمة اذن تضاد بين الذات واشكال التعبير عن ماهيتها لدى فاضل عواد لم يمتلكوا القدرة على ان يبصروا في ذاته الغريبة الاطوار شكلاً مختلفاً لبناء انساني ينمو ببطء كانت هناك مصادفات تقودها الطبيعة لرعاية هذا الكائن، تنبثق من عناية غير منظورة وعندما اعطاه حسين السعدي لحن (لاخبر) لم يكن يعتقد ان هذا اللحن سيكون مدوياً وعلامة فارقة في تاريخية فاضل عواد وربما اعتقد العكس فثمة ما يوحي بان هذا اللحن كان نوعاً من التوريط لكن صوت فاضل عواد القوي الذي يتمتع باحساس عال استطاع ان يعطي للحن مسحة من العذوبة التي (لاتنزلق) الى رثاثة الاداء الآلي كانت اغنية لاخبر حصيلة لتراكم الخبرة في برنامج الهواة التي سرعان ما تلقفتها الاذن العراقية لتحلق بها الى مديات واسعة جداً بفعل روح الحماسة التي اشعلتها روح فاضل عواد في اللحن الذي يعتمد على مقام الرست وعلى الرغم من معرفتنا بما في هذا المقام من اصالة لكن الملحن استطاع ان يوظفه في ايقاع سريع دون ان يفقده خصائصه التطريبية. وهكذا تختار الطبيعة اكثر الطرق غرائبية لانضاج حقائقها وكان فاضل عواد حقيقة مهمة في تاريخنا الصوتي.
بعد مرحلة لـ(لاخبر) ودون ان يكرر نفسه ادى اغنية(اتنه اتنه) لطالب القرغولي وهي اغنية تطريبية ذات بنية لحنية محكمة ومن خلالها استطاع فاضل عواد ان يفك اسره من اجواء اغنية (لاخبر) ويخرج من معطفها، لقد تحرر من عبوديتها فعلى الرغم من اهميتها بالنسبة اليه الا انها كانت سوراً من الصعب تجاوزه فجاءت اغنية(اتنه اتنه) لتضعه في مكان جديد ولتفصح عن قيم ادائية جديدة في صوته النابض باليقين. ثم جاءت التجربة الاكثر اهمية في تاريخه عندما لحن له طالب القرغولي اغنية(حاسبينك) كلمات زامل سعيد فتاح وهي من قمم الغناء العراقي واستطاع فاضل عواد ان يكون بمستوى هذا التحدي الفني فهذه الاغنية يستطيع اي صوت ان يغنيها ولكن لايستطيع كل صوت ان يقنعنا في مجازفة التجربة.
وقد افصحت هذه الاغنية عن امكانية فاضل عواد على اختيار الالحان التي تبرز فيها قدرته الادائية. ثم جاءت مرحلة محمد جواد اموري باغانيه المتميزة المتوغلة في عمق ذواتنا (ينجوم صيرن كلايد) و(صبري شموع) وهذه الاغنية هي التي استطاع فاضل عواد ان يقنع الذائقة العراقية نهائياً بانها كسبت حنجرة سيكون لها مع المستقبل كلام اخر ان هذه المرحلة هي الاهم في تركيز موهبة فاضل عواد من خلال افصاحها عن الهوية الجديدة لمشروعه الغنائي، غنى فاضل عواد للملحن الكبير عباس جميل من نغم الرست هل تذكرون غريباً للشاعر ابن زيدون وهي تجربة اكد فيها اقترابه المعرفي من القصيدة ولكنه للاسف لم يعمق هذا الاتجاه. وظف فاضل عواد الفلكلور العراقي في بعض اعماله برغم التوزيع الالي الغربي لبعضها الذي وان اخذ منها جزءاً من تاريخيتها ولكنه اضفى عليها طابع الحداثة مثل اغنية(تريد مني التفاح) واغنية(مريت بديار الولف) للشاعر الكبير جودت التميمي الذي كان سبباً في الصداقة الكبيرة التي جمعتني بفاضل عواد عندما اكتشف بحدس الشاعر المرهف ان ثمة سماء تنتظر ان نطرزها بنجوم المحبة قيمة فاضل عواد تكمن في انه تعامل مع الغناء بروحية الهاوي وهو يرى دائما ان شهرته بحدود قناعته.
ان هواية فاضل عواد الحقيقية هي انتماؤه الى الثقافة والادب والتصوف فهو مثقف كبير بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى وهو انسان بسيط وكأنه في بساطته هذه يتشبه بروح الكون المتسامحة التي تغفر بلا حدود الذنوب الكبيرة التي نرتكبها.
ان انشغاله الثقافي هو الذي جعله ينظر الى الغناء باعتباره هدفاً اخر ربما ليس رئيسياً في حياته. في التسعينيات في ظل اجواء محمومة لاسقاط الاخر وتكريس الامية الموسيقية وتنحا باتجاه تخريب الذائقة العراقية باصرار وقصدية غادرنا فاضل عواد الى ليبيا للتدريس في جامعاتها كان قراره نوعاً من الاحتجاج على الواقع المؤلم الذي يعيشه الفن في العراق وظهور موجات غنائية تحاكي اشد الغرائز بدائية وفجاجة دون ان يرف لها رمش لما تفعله من تدمير هذه الموجات التي لم تتكسر على شواطئ الانتماء ولكنها تكسرت على اذاننا وفرضت نفسها بقوة السوط التي كانت تحتمي به. خرج فاضل عواد الى جغرافيا مكانية قريبة من ارض زرياب وهواجس الغربة التي حملها وكانه اراد ان يحتمي بالمعرفة ويخلص نفسه من المأزق الصعب الذي وضعتنا فيه صنمية لاتحترم الا مطرب واكاديمي عراقي خرافات الخراب التي تركته شاهداً على همجيتها.
|