وفجأة يقذف أحد الحاضرين بزهو ٍ مأخوذ ٍ بالنشوة ، أسم الراحل المخرج المبدع الكبير ( عوني كرومي ) وراح يتطاول على الرقاب علوا ، وفوق المنصات أرتقاءا ، وكأنه يحلق في ذاك البعد النائي للإبداع ، بعدها وقف فوق طاولتنا الفقيرة الخجلة المُسومة بالبطالة ، حينما خرج الاسم من فيه ، وكأنه قد فاز علينا في برهنة نظريته التوثيقية موضوعة حواريتنا السالفة ، حينها تسمرت رعشات الاسترخاء المعهودة في أبداننا ، وأشرقت الوجوه ، وراح الألق يتراقص داخل المحاجر ، بغبطة متمازجة بحزن جليل يملأ المآقي دمعا شفيفا ً ، وراحت حدقات العيون تبحث عبر عبق مناخات المسرح وأريج جدرانه العتيقة المتألقة ، عن ذلك الوجه الودود ، صاحب القلب الكبير ، المعطر برائحة أم الربيعين التي ولد في ملاذاتها الخصبات ، هذا المبدع الكبير ، الذي أمتاز بتلك الرؤى الخلاقة ، والملامح الفنية الغنية ، والعمق العلمي التنظيري ، والذي راح يطرق بزهو مفعم بالحب ، مفاتن خشبة المسرح العراقي والمسرح العربي والعالمي بالإجمال بينما راح ذلك الصمت المقدس يغلف المكان برمته ، بحثا عن ملاذاتنا الفائتة ، في ملامح ذلك الراحل المبدع الكبير ، الذي انعكست صورتـه ( الحاضرة – الغائبة ) ، المشعة بالحياة ، على ملامحنا الهائمة بحبه ، والمفجوعة بلوعة رحيله المفاجأة ، راحت النظرات ترسم لنفسها الواناً برائحة المسك ، لتحيلها الى هولا ًمن شوق أسطوري لرؤية شيبته الجملية الجليلة ، التي طرزت ملامحه المجبولة بالكبرياء والألـق المسرحي .
وراح الجمع الخير من الحاضرين على طاولة الحوار ، التي تسامت مفتخرة للتو ، وهم ينصتون بإبهار عجيب مأخوذ بالطيبة العراقية لصدى صوت الراحل المخملي ، الآتي من تلك الضفة النائية البعيدة ، السابحة في بون تلك الماهيات النبيلة القصية ، وروحة الجليلة التي سكنت بطمأنينة أخاذة ، في ذمة الخلود ، وهي تصرح بثبات ملحمي أزلي ، بما يعني لها المسرح :-
• كان وما يزال العمل المسرحي بالنسبة لي ، فعل حياة وبقاء ، وتطور ، وسؤال دائم عن الكينونة والوجود ، وعملية ابداع الذات ، الى جانب كونه ، رحلة ومغامرة في المستقبل ، بهدف الوصول الى الحقيقة .. ان المسرح لا يعتمد على المفاجأة والصدفة ، وانما يعتمد على التجربة .
هكذا كان ينظر الراحل ( عوني كرومي ) لفن المسرح ، ويتحدث عنه بصوت غير مبحوح وعالٍ يسمعه كل من حضر الصالة المسرحية والفكرية الفائتة والحاضرة ، أو أختبأ بين ثناياها الخافتة الخجلة ، او دس رأسه خلف الكواليس ، أو راح مولياً خارجها .
نعم انه ذلك الراحل الذي فجعنا برحليه ، بل فجعت برحليه خشبة المسرح العراقي ، وفجعت به النظرية الحداثوية المجددة للمسرح العراقي ، هو ذلك الطود المسرحي الشامخ ، الذي تربع في قلوبنا كواحد من أعظم المخرجين المبدعين الذين أسسوا لحركة التجديد والحداثة في المسرح العراقي ، وهدف الى خلق الابهار العرضي والتنظيري ، لأنه فنان استثنائي خلاق ، لا يؤمن أو يعتمد البته على المفاجأة ، لان المسرح ، لا يتكأ على المفاجأة او الصدفة المحضة للنجاح الآني الزائل ، ولأن مناهجيته وشرائطه العلمية المختبرية المتجددة ، تعتمد بالكلية على عملية الخلق والإبداع ، والإخصاب ، فالمفاجآت لا تنمي إيقاع ديمومته التكوينية الإبداعية ، واستقلاليته المتفردة ، بل تسقطها في مرحلة ما ، في أتون حضيض المفاجأة الكيرى ( الفشل ) والانزواء ، لكن عملية البحث العلمي الجاد ، والاستقصاء الاستقرائي المتنامي البحثي العلمي ، والتقصي الفاعل في إيجاد صور وأشكال مُتخلية جمالية جديدة ، هي التي تُصعد وتنمي مهام التفسير والتحليل والتأويل ، في متن القدرات الاستنباطية داخل الخطاب المسرحي ، لإذكاء الملكة الفنية التي تفرض نفسها بشكل حضاري لتسجل أسمها باستثنائية نجيبة منتقاة ، ضمن سجل الحركة المسرحية الدؤوبة والتجربة الحداثوية المرتكزة على قيمة النجاح الانتخابي النخبوي ، لذات الفعل المسرحي والإنساني ، لتُنشط من خلال تلك الرؤى الفنية الاستاتيكية المتجددة المولودة من رحم القيم المسرحية العالية ، والمنتعشة في كبد إيقاع الحياة وديمومتها المعاشة اليوميـة ، لتطوير الحاضرة العرضية الفكرية المسرحية الجمالية ، لان المسرح جميل ، بل ومجبول بالجمال .
ولد المبدع الكبير الراحل ( عوني كرومي ) عام 1945 في مدينة الموصل ورحل عن عالمه ( خشبة المسرح ) عام 2006 ، بعدما نقش اسمه الجليل بأحرفٍ نيرة ، طرزتها فوق سجادة المسرح العراقي الفخمة ، أنامل ذات الخشبة التي اشتق من عبقها واريجها ملامحه العبقرية الفطنة والتي كانت حاضنة مخصبه الابداعي الدائم ، وتنفس شذاها على مدى اربعة عقود ونيف قضى جلها بالمتابعة ، والاستقراء ، والتحليل ، والتأمل في مجاهل الجمال اللا متناهي .
تخرج الراحل من معهد الفنون الجملية / بغداد عام 1965 ، نال شهادة البكلوريوس من أكاديمية الفنون الجملية / بغداد عام 1969 ، حصل على الماجستير / علوم مسرحية / جامعة ( همبولدت ) / برلين / المانيا عام 1972 ، نال شهادة الدكتوراه من معهد العلوم المسرحية جامعة ( همبولدت ) / برلين / المانيا عام 1967 ، شارك في العديد من الحلقات الدراسية العربية والعالمية بين الاعوام 2002 – 1972 .
دَرسَ في العديد من الجامعات والكليات والمعاهد الفنية المتخصصة العراقية والعربية والألمانية بين الاعوام 1977- 2002 ، تخرج من بين خلجات ملامحه العبقرية ، العديد من الاسماء الكبيرة التي أصبحت قامات عالية في المسرح العراقي والعربي والعالمي .
أخرج الراحل الكبير ( عوني كرومي ) أكثر من سبعين عملا مسرحيا ، يأتي على رأسها ، كاليكولا ، وغاليلو غاليليه ، وكريولان ، انتيكونا ، وترنيمة الكرسي الهزاز ، التي حصدت العديد من الجوائز ، ومأساة تموز ، والإنسان الطيب ، صراخ الصمت الأخرس ، الغائب ، كشخة ونفخة ، وفطور الساعة الثامنة ، في منطقة الخطر ، القاتل نعم القاتل لا ، وتداخلات الفرح والحزن ، وفوق رصيف الغضب ، وحكاية لاطفالنا الأعزاء ، بير وشناشيل ، المحفظة ، المسيح يصلب من جديد ، والصمت والذئاب ، عند الصمت ، وفي المحطة ، الشريط الاخير ، المساء الاخير ، الطائر الازرق ، وفاطمة ، والسيد والعبد .
نال الراحل الكبير ( عوني كرومي ) العديد من الجوائز اللعالمية والعربية والعراقية ، منها في مهرجان بغداد المسرحي ، مهرجان القاهرة المسرحي ، مهرجان قرطاج المسرحي ، مهرجان برلين المسرحي ، حصل على لقب ( وسيط الثقافات ) من مركز ( بريشت ) في برلين ، توفي في مدينة برلين بالمانيا ، في فجيعة صباح يوم 28 / مايو / 2006 .
لنرفع أغطية الرأس التي نعتمرها ، ونحن في جلال هذا الألق العراقي المسرحي المتفرد ، ونخطو خطوات واثقة ، يملأها الزهو ، والكبرياء ، والفخر ، ونحو مقدمون لإلقاء تحيتنا الأخيرة المتأخرة ، على روحة الطاهرة الجليلة ، ولننحني جميعا ً ، إجلالا ً في حضرة جثمان هذا الفنان المخرج المسرحي المجدد المبدع الكبير الخلاق (عوني كرومي) المسجى بألقٍ مبهر ، وعلو وشموخ ، داخل ذاكرة المسرح العراقي الجليل العتيد .