برغم اتساع المشهد التشكيلي العراقي ليصل إلى حدود لم تكن متوقعة له في الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات، فانه بكل تفصيلاته وأبعاده وسماته لم يفرز حركة نقدية توازيه وتؤشرلانجازاته وتضيء مساراته، بل يمكن القول وبشيء من الواقعية والصراحة إن حركتنا التشكيلية تعاني(الآن وربما لسنوات طويلة قادمة) من فوضى لم تشهدها منذ بداياتها في أوائل
القرن الماضي وحتى مشارف التسعينيات من القرن نفسه.
حدث ذلك بسبب غياب النقاد أو تقاعسهم أو تعكزهم على خبرات سابقة لم تعد توازي التجارب المعاصرة بكل ما فيها من تجاوز وإضافة واختبار لتقنيات ووسائل توصيل جديدة لم يتم اختبارها من قبل، حتى إن بعض التجارب لفنانين لم يعودوا شباباً في ضوء التقسيمات النقدية التي اقترحها نقاد السنوات الماضية لم تدرس ولم تقيم وظلت عائمة في الفراغ بانتظار من يكشف تميزها وأصالتها واختلافها عما أنتج وشاع في الماضي. لكن هل إن ذلك حدث بسبب النقاد وحدهم؟ وكيف يحدث ذلك وهم (أي النقاد) جزء من كيان اشمل يستضيء بحركة التاريخ وتحولات الثقافة ويتفاعل معها ويحاول تفسير انجازاتها ويعلق على معطياتها.
سأعود مرة أخرى إلى النقطة التي انطلقت منها لأقول إن الاتساع المفاجيء للمشهد التشكيلي قد ساهم في إحداث خلخلة غير منتظرة في بنية الحركة التشكيلية بالتزامن مع ظواهر خارج إرادتها تمثلت في المصائر الشخصية لروادها وأعلامها من النقاد المؤثرين وذوي الأدوار التاريخية: رحيل جبرا إبراهيم جبرا أولا ثم اعتكاف شاكر حسن آل سعيد وجميل حمودي ورحيلهما لاحقاً، ثم الحضور الذي يشبه الغياب لنوري الراوي وعبد الرحمن طهمازي وسعد القصاب وعاصم عبد
الأمير، بالإضافة إلى رحيل نقاد آخرين إلى أصقاع الأرض ممن كانت لهم مساهماتهم النقدية:
سهيل سامي نادر الذي مازال يستعيد ذكرياته عن إعمال فنية سبق له أن رآها ويحاول إعادة وصفها أو تأطيرها نقديا، وفاروق يوسف الذي يواصل الكتابة في حقول شتى ثم كاتب هذه السطور، وفي ظل ما حدث من تطورات دراماتيكية في السنوات التي أعقبت الاحتلال ظل النقاد التشيكيليون يواجهون طواحين الهواء دون جدوى ناظرين الى مد لا ينقطع من الأعمال والأسماء والظواهر التي أفرزتها دكاكين الفن وقاعاته وحتى ما تبقى من المؤسسات التي تعنى به التي تحاول أن تستقطب في ظل ما حدث من خراب كل ما يمكن استقطابه بحجة فسح المجال للجميع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه واستسلم البعض للتيار الجارف وعاد البعض الآخر ليزيح الغبار عن أوراقه القديمة عسى أن يعثر فيها على بصيص من ضوء، وآثر آخرون الانسحاب بصمت تاركين الساحة لفرسان جدد هم جزء طبيعي من حركة تمتد وتنمو وتختلف مقاييسها وأحكامها ومعطياتها باستمرار...
ولكن إلى متى سيستمر ذلك؟ كل الدلائل تشير إلى أن النقد سيعود الى فاعليته وتأثيره حين تعود الحركة التشكيلية إلى رشدها مرة أخرى بعد مخاضها العنيف الذي صنعته السنوات الأخيرة، وان تعيد النظر فيما حققته حتى الآن بهدي من تاريخها وانجازاتها بعيدا عن حسابات تجار الفن وأصحاب الدكاكين والمروجين للإعمال الرديئة بإعلانات مدفوعة الأجر يدبجها بلا استحياء (نقدة) هذه الأيام.
|