هذا ما قاله الراحل اسماعيل فتاح الترك الشمعة التي اطفأت في يوم اظلم كنا بأمس الحاجه لبصيص نور كي نكمل الطريق بعد عصر التغيير كما يسميه البعض
الموت ذلك الهاجس الذي رافق هذا الفنان استطاع التغلب عليه واخذه من عالمنا الا ان ذكراه تتجدد عندما نتطلع الي مسيرة هذا الفنان الذي ملأ الفن العراقي ابداعا وتالقا ومجدا واصالة واستحق منزلة الخلود بكل جدارة الذي ارتضاها له جميع الفنانين وباجماع مطلق . اسماعيل من مواليد البصره 1934 نشأ فيها وطاف بين ازقتها الضيقه التي تفوح منها رائحة الماضي واستنشق هواءها العطر المار بشط العرب حصل علي الدبلوم العالي في النحت من اكاديمية الفنون في روما كما منحته روما زوجته ليزا التي كانت ملهمه ومشجعه لفنه الذي سبب رحيلها الم وغصه في قلبه كانت رحلة هذا الفنان مليئه بالعطاء والانجازات التي اصبحت اليوم مصدر الهام للفن العراقي...
ولعل اهم الاعمال التي قام بها هذا الفنان هو نصب الشهيد الذي لايزال صرحا شامخا تعتز به بغداد دائما
لعل كل من يري النصب للوهلة الاولي يدرك ان هذا العمل ليس مجرد قبتين مشطورتين لانه سوف يمضي الي ابعد من ذلك فهذه الضخامة والعبقرية في التصميم لابد انها تخبرنا بامر عظيم جدا يستحق ان ننحني له بكل تقدير واجلال مما يزيد الامر اثارة ان هذا الفنان لم يسـتخدم كلاماً او شعارات او حكايــات في شــرح الامــر الذي يريد اخبارنا به لكنه جعلنا نشعر بعمله والقيم الجبارة التي تضمنها النصب..
مزج اسماعيل في نصبه هذا المعمار بالفن التشكيلي ولونه ببلاغة المعني والتاثير الروحاني وايحاءات القدسية اضافة الي كل هذا فقد عدته موسوعة المعارف البريطانية ثاني اضخم عمل فني في الوجود بعد الاعمال الفرعونية في مصر ان فكرة نصب الشهيد تتمثل بقبتين مشطورتين وقد استخدم القبة ذلك لقدسيتها فالقبة نجدها تعلو المساجد والكنائس كما ان القباب تمثل جزءا حيويا من ذاكرة بلد الفنان كما اننا لو شاهدنا القبة الموجودة في الكاظمية لو خلناها مشطورة لوجدناها انها تشبه نصب الشهيد ..
ان جمالية هذا النصب تتمثل في الخداع البصري لهاتين القبتين حيث يري الشخص القادم من بداية الشارع ان القبتين تبدوان مغلقتين وكلما اقتربنا اكثر تاخذان بالانفتاح تدريجيا ايذانا بخروج شيء ما وهذا الشيء هو العلم العراقي الذي يرتفع الي الاعلي استعدادا للحياة الابدية والعلم بطول 5 اقدام فوق الارض و3 تحت الارض ويوجد ينبوع يتدفق ماؤه الي داخل الارض ليرمز الي دم الشهيد ان الغرض من هذه الحركة هو تعبير عن انفتاح باب السماء لتستقبل الشهيد ذلك الشخص الذي تخلي عن روحه من اجل قضيته ومبادئه الساميه فهذه السماء بعظمتها وهيبتها تفتح ابوابها اجلالا له فهل يوجد اروع من ذلك التصوير الشهادة التي جعلها البعض مصدر رعب للناس استطاع اسماعيل ان يغير هذه الصورة البشعة ويعيد للاذهان عظمة وبطولة الشهيد باسلوب صارم ليجعلك تقف لحظة صمت علي تلك الروح الطاهرة النقية التي تحلق بالسماء
ان هاتين القبتين ترقدان علي منصه دائريه قطرها 190 مترا واسفلها يوجد متحف ويبلغ ارتفاع القبتين 40 مترا وهذا الطاقم باكمله يرقد وسط بحيره صناعية واسعة وقد كلف الخزينة العراقية ربع مليار من الدولارات وقامت ببنائه شركة ميتسوبيشي وفقا لمواصفات صارمة وضعتها مؤسسة اوف اروب وشركائها للاستشارات الهندسية التي اشتهرت بتصميمها لمبني دار الاوبرا في سيدني كما تولت تنفيذ مختلف مراحل التصميم التفصيلي ورسومات التشغيل مجموعه من المهندسين العراقيين الشباب وكلهم درسوا في جامعة بغداد للهندسة المعماريه كما ان النصب يحتل رقعة فسيحة مساحتها حوالي 42 هكتارا بعد احداث 2003 توجهت الانظار لازالة هذا النصب وذلك ان المدة التي اقيم فيها كانت نهاية احد حروب النظام البائد فاعتقد الكثير ان هذا النصب يرمز اليه مع انه لايوجد أي شئ يوحي بذلك لان اسماعيل اراد من نصبه ان يكون رمزا للشهيد فقط في كل زمام ومكان وليس لبطولات زائفة وانظمة زائلة لذلك حرص اسماعيل ان يضمن بقاء النصب من غير ان يرتبط بأي سلطة كانت ليحافظ علي قدسية هذا النصب وجماليته يكفي ان هذا النصب حرر فناننا من هاجس الخوف من الموت فقد قال :
((حققت شيئا في هذا المنجز جعلني لا اخاف الموت))
وبعد صراع طويل ضد المرض كان اسماعيل يحن الي العراق حتي انه قال اريد ان اموت في العراق فتحققت له رغبته وبنفس اليوم الذي رسا فيه السندباد المغترب علي تراب بغداد تحررت روحه من جسده وذهبت الي الباري لتعيش الحياة الابدية وكان هذا في 2004 .
التاريخ في طياته وسطوره بقديمه وحديثه ماهو الا اوراق البعض منها مظلمه والاخري منيرة واسماعيل فتاح الترك سيبقي تلك الشمعة المشتعلة التي تنير درب الشهادة والخلود
لم يبق من اسماعيل سوي اعماله التي جعلت منه رمزا للفن الهادف