... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

  مقالات فنيه

   
الفنان العراقي محمد قريش يجاهر بحب اللوحة "القبيحة"

علي البزاز

تاريخ النشر       16/11/2008 06:00 AM


اعترافات الوجوه في اللوحات صارمة وجدية لا يشوبها التأويل إلاّ بقدر صراحتها في الشكوى أو الرضا، أما الاشياء المهملة في الحياة والتي قُدّر لها النفي من جماليتها الباطنية، بسبب العرف الشائع أو الارث المكتسب كإمراض الوراثة، فهذه ينبغي اعادة الاعتبار الجمالي الى قبحها المتصوّر ظلماً جراء العرف في حين ان هذه الاشياء المهمشة فنياً تمتلك جمالاً داخلياً مغبوناً وعلى الفن الحديث ان يتصدى لكشفه. في المعرض الذي تقيمه غاليري Delfi form في مدينة zwolle الهولندية، يتصدى الفنان العراقي محمد قريش من خلال 22 لوحة لهذه الزينة الحياتية المغبونة جراء تعوّد العالم الخارجي كمشارك جاهل وفاعل في زيادة ظلمها.  اقترنت الحبال في الحياة اليومية بالجر والشنق ولها من الاشارات السلبية ما يفوق الايجابية، وإذا تساهلنا بعض الشيء مع الحبال إلا ان الاشارة التي يحبسها القفص واضحة، اقلها الممنوع، أمّا نشارتا الحديد والخشب،   فالاولى لا تُصنع منها أريكة للراحة والثانية مهملة بيتها الصدأ. هذه هي مواد المعرض.
اللافت في اعمال قريش، هو لون أديم الارض ينفرش على المساحة الضوئية للوحات، يشحذ الشعور بأن تلك الاشياء المهملة جاءت من حضن الطبيعة كما هي الوردة الجميلة أو الوان الفراشات، والبشر نتيجة قلة الوعي الجمالي والاستبطان الداخلي قد ناصبوها العداء معنىً وذوقاً. فمن الممكن ان تتغير وظيفة الحبال من التعذيب وتدخل في صناعة الاشرعة التي بواسطتها تبحر الزوارق الشراعية، ومثلها تتغير وظيفة القفص من السجن إلى تعرية قضبانه إذا تمت رعاية هذا المعنى في اللوحة. يلخص قريش افكاره تلك بمبدأ التعرية، وهذا متأتٍّ من تعرية الافكار والاشكال، من عري الجسد، أو من عري التعود على رؤية الاشياء المهملة على انها قبيحة، تعرية العيون التي تنظر بماضيها، بما تعودت عليه من التقاليد والاعراف. يعزز اللون الترابي فكرة التصاق الاشياء الجميلة والقبيحة بالارض، وهنا يكمن بعض الفكرة الدينية "ان آدم من تراب"، بمعنى انه لا يمت بصلة الى الايمان اللاهوتي بقدر اقترابه من فكرة ان الارض التي هي مصدر الجمال، لا تنتج التشوهات. ايمان داخلي بصفاء العالم وجعل اشيائه تتصالح مع اضدادها. فهناك علاقة غرامية مع الحديقة ومع الدوائر، والفن هو الذي يحدّد شحنة هذا الارتباط ودرجة خفوته وقوته.
تكمن في لون أديم الارض حيلة منمقة على الاذواق التي لا ترى إلاّ القديم من الاشياء تُزيّنها بالاشعاع الباطني للقوة الخفية التي تكمن في الجميع سواء أكانوا بشراً معوقين أم أصحاء، أم حبالاً، أم سجوناً، أم أشجاراً. هذه الفكرة من صلب التجريد الحديث، فإذا كان التجريد في الرسم قد تبنى غاية تشويه الاشكال، وسلخها من وحدتها، كما صرح الفنان دادا ذات يوم لدى قوله "ان الحرب قد سلبت الحياة معناها، يجب ان يكون الفن غير صاحب معنى"، فإن التجريد المعاصر يفكك ذلك التجريد، إذ تتم العودة بالاشياء التي سويت معانيها في الحياة وفي ثقافة الشعوب الى معانٍ مستعادة كرامتها فنياً داخل اللوحة إذا مُنحت اللون والكادر الملائمين. الأهم من ذلك إذا اقترنت بأشكال أو تقنية تزيد تشبثها بالمكانة، وتعكس تفكيكياً معنى تلك التقنية. فمثلاً نُفذت بعض اللوحات بأسلوب الحفر بالتيزاب والأخرى بطريقة الحرق. التيزاب هو مادة ارتبطت سياسياً بتذويب المعارضين والحرق طلباً للتشويه والغاء معالم الكينونة الواضحة، هذه وسائل للتعذيب وللاقصاء، امّا في لوحات الفنان قريش، فقد تحقّق قلب غاية البشاعة والعنف، إلى الجمال والتشويق. يعكس لون اديم الارض، الرحم الولودة لكل ما هو موجود عليها.
يختفي الاطار تماماً في لوحات قريش، مما يعرّض لوحاته لمغامرة اقتصادية وذوقية، اذ يجذب إحياناً الاطار المشاهدَ لجماله ويقرر ان يشتري اللوحة بسببه، لكن تأطير اللوحة هو سجن حقيقي غير القفص المرسوم في لوحة "اشارة على جدار".  هنا جرأة على تثبيت القفص في كادر اللوحة بشكل بارز، مما يستدعي الانتباه الى غاية القفص في الحياة وهي السجن، لكن تضامن الالوان، الفاتحة المستمدة حميميتها من الارض، تلقي تسامحها على القفص، وتمنعه ان يكون منفذاً للاعتقال أو في صف السلاسل. القفص في هذه اللوحة هو نفسه محبوس وتحت طائلة المنع.
 يجد الزائر في لوحة "آثار مدينة قياس 7م" حكاية لمدن عاصرت الخراب والدمار الا انها بقيت عصية على المحو والتلاشي. مدينة عراقية عانت وحشاً يلتهم معالمها، استطاع ان يتفوق عليها زمناً محدداً، لكنها انبثقت اغصاناً من جديد، كناية على الديمومة. هذا هو التفسير الأدبي للوحة، أمّا التفسير التقني فمتلازم معه: اللوحة من سبعة امتار مقسمة خمسة اجزاء. ولأنها تروي آثار مدينة منسية، اتخذت هذا الشكل المتصل ذا الامتداد الافقي كي يمنح اللوحة شكل الحكاية، وكأن هذا الشكل يجعل المتفرج يسمع حكاية تلك اللوحة، ثم يتصورها متحولة إلى آثار منسية. عندما تُسمع الحكاية يسود رونق الدهشة ووقع المفاجأة على المستمع ثم يتلاشى كل هذا ما أن يصمت الراوي فتتحول إلى ذكرى منسجمة مع الاطلال التي هي ذكرى أيضاً. تعمّد الفنان تثبيت آثار تلك المدينة في الوسط، كي يبعدها عن التلاشي وعن المصير المحتوم للآثر وهو الفناء، كما تعمّد حفر تلك الآثار بعمق 5 سنتم في اللوحة اشارة الى المدينة على رغم اندراسها، الاّ انها باقية، والحفر قد اعطاها صفة البقاء. ومن أجل تنفيذ القسم الاخير من اللوحة اليانع المخضر، لجأ قريش الى نوع من الورق الصيني فيه مثل هذه السيقان النباتية. استعمال الورق هنا مشغول على فكرة الخصب، إي ان المدينة على رغم الوحش الذي يلتهمها في القسم الاول من اللوحة، إلا انها في النهاية ستبقى. نلتقي مرّة اخرى بلون الارض في كل اجزاء اللوحة ما عدا لون الوحش الازرق، ونشعر كذلك بالأمل جراء هذه الارض لما يشير اليه الورق الصيني من دلالة الزراعة. اعادة الاعتبار الى لاشياء المهمشة ترتبط في جدلية لونية مع الارض، تبدأ بالتقشف الزاهد باللون ولا تنتهي بالوضوح وصراحة البقاء اللذين توفرهما هذه الرحم التي جاء منها الجميع واليها سيغادر الكل.
في لوحاته التي سبقت هذا المعرض، لا يكف الفنان عن امعانه في صخب الالوان، الوان حادة تُذكّر بجماعة "كوبرا" الهولندية التي وجدت صداها في ذاته. ولأن الفنان قادم من العراق، الارض المحرومة من غزارة الالوان إلاّ من اللون الصحراوي، لجأ في مرحلة ما من تطوره الفني إلى تلك الالوان الحارة المشغولة تحت عناية الحرمان وسطوة الايحاء بالقهر الاجتماعي والسياسي في المرحلة التي شهدت تفتحه واعتناقه الرسم. ما الذي يعادل حدّة الاوضاع الدموية في العراق غير هذا القرع الصاخب للون؟ في هذا المعرض نشاهد خفوت هذا الدق على ناقوس اللون، المصاحب لفكرة ضرورة استعادة المهمل لمكانته، ويطلق الفنان على اسلوبه اسم التعرية، ويجاهر بحدود فكرته "لا تهمني اللوحة الجميلة بمعايير الجمال السائدة، انا مع اللوحة القبيحة أيضاً". التعرية لديه هي التفكيك، فإذا كان من المنطقي تفكيك الافكار ومنظومة الكلام، فكيف يتم تفكيك الالوان والسكوت عما هو سائد من المفاهيم جمالياً وحياتياً؟ الاجابة هي في معرفة التجريد الذي هو التفكيك المعرفي. ان تبني فكرة التفكيك اللوني أو تعرية وسائل التقنية المستعملة في اللوحة من غاياتها المتعارف عليها حياتياً، والاستفادة من وظائفها في انجاز ما خفي من المعنى. من هذه الوسائل؛ الحرق، التيزاب والكولاج الذي يحضر في بعض لوحات المعرض، سيفيدنا في تقصي التفكيك في اللوحة.
يمتلك المعرض انسجام وحدة اللون في اقترابه الحميمي من الارض متآخياً مع فكرة التعرية. اشادة بتبتل اللون المعصوم من البهرجة والتمثيل لانه اللون الحقيقي لاصل الاشياء كلها. اللافت ان الثنائية المتصاهرة بين الأرض والتعرية تفترق في لوحة "ذكريات جدار"، إذ تبقى التعرية وحدها في اللوحة ويختفي لون الارض الحالم. فثمة رجوع  إلى الالوان المزدحمة في حدتها وكثرتها. هل تشي هذه اللوحة بعودة مصيرية لا فكاك منها الى مرحلة الفنان في العراق وبداية استقراره في هولندا؟ هل يعيد الفنان تفكيك التزامه التقشف اللوني الى جانب التعرية القادرة على نزع سلطة اللون، أم يزيح عن اسلوبه سلطة اللون وتبقى اللوحة منجردة امام التعرية فقط؟ لا تقديس ولا ملائكة مخلدون في العمل الابداعي. لا حاشية تحرق البخور للقواعد والاصول، فالحداثة في الرسم يجب ان ترتبط إسوة بالسينما والفنون الاخرى التي تعتمد التكنولوجيا بالافكار عكس ارتباطها الحالي الوثيق الصلة بتراث اللون وابعاد اللوحة والمنظور. عندها ستساهم هذه الفنون في جعل العالم رحيماً ومحتملاً.






رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  علي البزاز


 

بحث :

Search Help


دليل الفنانيين التشكيليين

موسوعة الامثال العراقيه

انضموا الى قائمتنا البريدية

ألأسم:

البريد ألألكتروني:



 

 

 

 

Copyright © 1997- IraqiArt.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
ENANA.COM